تردَّدْت كثيراً قبل أن أنوي كتابة هذا المقال، قلت أكتفي بتعليق بسيط على منصَّة تويتر... "لقاء خارج المألوف والمكرور والعاديِّ... باتِّجاه الشَّفافيَّة والتَّصالح مع الذَّات واحترام عقول الآخرين... حوار استثنائيٌّ يُكْتَبُ فيه الكثير".

مردُّ تردُّدي هذا أسباب كثيرة لعلَّ أهمَّها عدم ارتكاب ذنب تسلُّق مسيرة الرَّجل وإنجازاته، لكن... ولأنَّني تابعت مسيرة فيصل القاسم منذ لحظة انطلاق اتجاهه المعاكس، وجدت أنَّ من حقِّي رصد هذه اللحظة.

في اللِّقاء...
كعادته فيصل القاسم يملأ المساحة كلَّها، يشغل الزَّمن بأسئلته، يتقن لعبة المسرح تماماً كأيِّ ممثِّل بارع حضَّر النصَّ وتقمَّص الشخصيَّة وانداح على الخشبة كنهر من كلمات، لكنَّه في اللِّقاء لم يكن ممثلاً ولم يتقمَّصْ شخصيَّةً ولم يجتهدْ كي يؤدِّيَ دوراً ببراعة، كان فيصل القاسم الحكاية ذاتها، البطل عينه، أطلق أجنحة مفرداته دون قيد، وباح بكلِّ ما في قلبه دونما تدبيج.

وكأنَّه في محطَّته المهنيَّة الأخيرة، حَطَّ الرِّحال وتخفَّف من كلِّ قيد وشرط، وراح يسرد عذاباته وشقاءه وكفاحه المستميت قَصْدَ بلوغ المنصَّة التي لطالما حَلُمَ أن يطلَّ منها على عالم شهد على الظُّلم الذي لحق به، بل على عالم ظلمه وأثخن جراحاته، كي يصل نهاية المطاف إلى هدفه الذي نَشَدَهُ بفائض أمل وكثير إرادة ووافر مثابرة.

لم يكن ما باح به فيصل القاسم غريباً عنَّا نحن السوريين الفقراء، نحن الذين ذقنا ما ذاقه وعانينا ما عاناه، حَدَّ تطابق المشاهد التي رصدها في اللِّقاء مع مشاهد مَرَّ بها ملايين السوريين، وفي أدق التَّفاصيل، نحن الذين لم يَخْلُ منَّا كراج باصات ولا ساحة انتظار فرصة عمل ولا مقهى ولا فرن ولا ورشة بناء ولا "بَسْطَة"، فجاء لقاء فيصل القاسم كبانوراما أضاءت بكل دقة وصدق على مأساة السوريين.

ولعلَّ شفافيَّة الرَّجل كانت الميزة الأبرز ليس في اللِّقاء، لأنَّ مفردة اللِّقاء جافَّة وحياديَّة، بل في روح فيصل القاسم وفي دقَّات قلبه التي كانت تتراقص على إيقاع كلِّ كلمة، وفي كل مصادرة لدمعة كانت قاب قوسين أو أدنى من السُّقوط، ولئن استطاع الرجل حبس دموعه في مفاصل عديدة من ثلاث ساعات ونَيِّف، فإنَّنا لم نستطع، ليس لأنَّه أتقن وأحسن السَّرد فحسب، بل لأنَّه نكأ جروحنا، بل رَشَّ فوقها مزيداً من الملح.

علاقتي مع الاتِّجاه المعاكس...
أذكر أنَّني أسَّست مدوَّنةً باسم "همس النوافذ" بعد انطلاقة "الاتِّجاه المعاكس" ونشرت فيها مقالاً تحت عنوان "فيصل القاسم بين المقال والاتِّجاه المعاكس" أشرت فيها إلى الفارق الكبير بين مقالات الرَّجل - وكان حينها ينشر مقالاً دوريّاً في جريدة الشَّرق القطريَّة - وبين شخصيَّته المختلفة تماماً في "الاتِّجاه المعاكس"، وأذكر أنَّني انتصرت لمقالاته ناقداً على نحو تقليديٍّ كان سائداً ضجيج الاتِّجاه المعاكس وعبثيَّته.

وإبَّان انطلاق الثَّورة السوريَّة آذار (مارس) العام 2011، لم يخذل فيصل القاسم جمهوره فلم يتأخَّر عن الالتحاق بركب الثَّورة والوقوف إلى جانبها شأنه شأن محطَّة الجزيرة التي يعمل فيها، ومن أجل ذلك بدأ يخصِّص المزيد من الحلقات لدعمها والتَّأكيد على مطالبها.

كنت حينها من الذين كانوا يدعون إلى الحوار والحراك السِّلمي، وكنت - ومازلت - رافضاً التَّسليح والعسكرة والصِّراع الدِّيني، لذا كتبت مقالاً على صفحتى في فيسبوك بعنوان: "فيصل القاسم... فيك تْحِلْ عن سوريا؟" لأنَّني حينها لم أجد في العديد من ضيوف برنامجه الكفاءات التي يمكن أن تعبِّر تعبيراً حقيقيّاً عن تطلعات الشَّعب السُّوري الثَّائر.

لكن سرعان ما اتَّضح لي أنَّ برنامج فيصل القاسم كان المنصَّة الأقرب إلى رصد آمال السُّوريين والأكثر قدرة على تعرية النِّظام والأقدر على إيلامه وضربه في الصَّميم.

هذه اعترافات لا بد منها في حضرة شفافيَّة وصدق وصراحة ما بدا في حديث فيصل القاسم، وهذا ليس تبخيراً ولا تطبيلاً للرَّجل، لأنَّ إنجازه بادٍ لا يمكن حجبه كالشَّمس لا يحجبها غربال.

في النهاية...
فيصل القاسم الذي كان حتى اللَّحظة الأولى التي بدأ فيها سرد سيرته الذَّاتية الحامل لمرحلة جديدة في طريقة التَّفكير والتَّعاطي مع الشَّأن العام على كافَّة المستويات الثَّقافية والسِّياسيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة، صار بعد تلك اللَّحظة واحداً من الذين رصد أوجاعهم وعَرَّى ظُلَّامَهُم طيلة أكثر من ربع قرن.