المسيحيون فى مواجهة المسلمين فى مصر الحديثة

تأليف: سناء حسن
عرض: نبيل عبد الملك *


نتناول فى الحلقة الرابعة والأخيرة من هذه السلسلة عرض للأجزاء الأربعة الأخيرة من هذا البحث المتشعب، وفيها تتناول الباحثة إدارة المؤسسة الكنسية وعلاقة الكنيسة بالدولة والمشاكل التى يواجهها الأقباط – سياسيا وإقتصاديا وثقافيا – ووسائل مواجهة تلك المشاكل.

مركزة الإدارة الكنسية

تنقل الباحثة صورا حية من الحياة الإجتماعية للأقباط من خلال أحداث وسياسات وممارسات، تتسم فى حالات كثيرة بتفاصيل دقيقة فتجذب القارئ، فإذ به يعايش هذه الأقلية القبطية فى محيط مضطرب يغلب عليه التحدى شبه المستمر. وكما تبين للقارئ فى الأجزاء الأولى من الكتاب، تتداخل حياة الأقباط وأوضاعهم – سلبا وإيجابا - مع الأوضاع العامة للبلاد.
ففيما يتعلق بإدارة المؤسسة الكنسية تحت رئاسة البابا شنودة الثالث، تبين الباحثة كيف تحولت الإدارة إلى المركزية. وبدأ هذا التحول بتعيين أساقفة الأقاليم باختيار البابا نفسه، بعد أن كان يتم الإختيار فى السابق برغبة العائلات الكبيرة فى هذه الأقاليم. وهكذا توطدت الصلة بين الأسقف والرئاسة الكنسية المركزية بعد أن كانت الأسقفية شبه إقطاعية يديرها الأسقف بالتعاون مع العائلات الكبيرة التى رشحته وأتت به للمنصب. بالإضافة إلى هذا، كان تقسيم الإيبارشيات الكبيرة (الأقاليم التى يرعاها الأسقف أو المطران سابقا) إلى عدة إيبارشيات صغيرة عاملا آخر فى إنتشار الرعاية الدينية إلى إماكن نائية كانت محرومة فى السابق من تلك الرعاية عندما كانت جزءا من إيبارشية مترامية الأطراف. ومن ناحية أخرى، أدى تقسيم الوحدات الإدارية الكنسية الكبيرة إلى زيادة عدد الإيبارشيات وزيادة عدد راعاتها من الأساقفة أعضاء المجمع المقدس المؤيدين للبابا، فى مواجهة أى معارضة، وخصوصا من الأساقفة القدامى.
وما تم من مركزية على مستوى الإدارة الكنسية، تم مثله على مستوى إدارة النظام الرهبانى، أى الأديرة. وقد تم ذلك عن طريق ترقية رؤساء الأديرة إلى رتبة الأسقف، ومن ثم إنضمامهم إلى المجمع المقدس تحت قيادة البابا، الرئيس الأعلى للكنيسة. نفس الشئ تم فى مجالات أخرى، أهمها تشكيل وإدارة المجلس الملى، الذى أصبح مختلفا تماما عن المجلس قبل ثورة 1952، أو حتى قبل إعتلاء البابا شنودة الكرسي البابوى، حيث كان جل أعضائه من أفراد العائلات القبطية الثرية من ذوى السلطة. أما الآن فلم يعد لمثل هؤلاء وجود فى المجلس، إذ أصبح يتكون من المهنيين والبيروقراطيين، يجمعهم شئ واحد هو الولاء المطلق للبابا والكنيسة. الأمر الذى جعل من المجلس – كما تقول الباحثة - صورة باهته لما كان عليه المجلس فى الماضى.
وتخلص الباحثة إلى أنه بالرغم من أن مركزة الإدارة الكنسية تحت سلطة البابا قد مكنته من دفع مشروع الإصلاح الإجتماعى/ الإقتصادي عبر كل الإيبارشيات والمؤسسات الخيرية القبطية، إلا أن ما حدث نتيجة ذلك – وعن غير قصد - هو إزدياد وزن الكنيسة فى مواجهة الدولة. ولذلك لم يعد رئيس الأخيرة يتعامل مع مجرد أحد القيادات الروحية المصرية، إنما مع ممثل مؤسسة ضخمة ومنظمة تعبرعن جماعة دينية موحدة.

حركة وبركة: أرسانيوس الأُسقف النموذجي

تركز سناء حسن فى هذا الفصل على العمل الإجتماعى والتنموى الذى تقوم به الكنيسة القبطية لرعيتها. وبناء على رصد ودراسة العديد من المناطق التى تسكنها تجمعات قبطية من الفقراء – خاصة فى صعيد مصر – تسجل الكاتبة صراع الأساقفة (المرشدين الروحيين فى الأساس) مع الفقر الذى يمسك بتلابيب غالبية سكان القرى. وبينما تقدم لنا نماذج من النجاح التنموى المبنى على التخطيط العلمى والتنفيذ المنظم المبنى على خبرة سابقة للأسقف (فى حياته المدنية)، تقدم لنا نماذج أخرى لمناطق لا تزال محرومة من التنمية نتيجة عدم وجود الأسقف المتمرس على العمل الإجتماعى أو من ليس لديه كوادر من العلمانيين المدربين على إدارة المشروعات التنموية اللازمة للتخفيف من حدة الفقر.
وتقدم الباحثة أمثلة من العمل الجاد والعطاء المثالى التطوعى فى مكافحة الفقر والمرض والجهل بين جموع من سكان القرى المحرومة، التى لم تمتد إليها عناية الدولة فى أى من مجالات الرعاية، لتقوم الكنيسة – تحت رعاية أسقفها – بإنشاء المشروعات والمدارس والمستوصفات التى تقدم العون الى المسيحيين والمسلمين على السواء.
وإن كانت الباحثة قد قدمت نماذج عديدة من هذه القيادات الروحية التى آمنت بأهمية العمل الإجتماعى/ الإقتصادى بالإضافة إلى قيامها بأداء مسئوليتها الأولى فى المجال الروحي، إلا أنها خصت الأسقف أرسانيوس – المهندس السابق – بصفحات أكثر وتفاصيل دقيقة لما يؤديه بنجاح من أعمال التنمية بالإستعانة بمجموعة من الكوادر الشابة المدربة على مستوى عال من التخطيط والإدارة الحديثة. وتسجل الباحثة إن ما يميز العمل التنموى الذى يقوم به الأسقف أرسانيوس، فى أقليم المنيا بوسط الصعيد، هو شموله لكل الجوانب التربوية والإقتصادية والصحية والإجتماعية لكل أفراد الأسرة، صغيرها وكبيرها. أما العاملون فى هذه الخدمة فهم شباب من الجنسين الذين يعملون بشكل دائم سواء من مكاتبهم المتخصصة أو فى القرى خارج المدينة.
فى مواجهة التحديات المعيشية التى يواجهها الشعب، تقول سناء حسن أن الكنيسة القبطية أدركت أنه لم يعد يكفى أن يكون الأسقف (أى الرئيس الدينى للأقليم) رجل بركة، إنما رجل بركة وحركة أيضا.
وتضيف الباحثة، فى تقييمها لحركة التنمية التى تقوم بها الكنيسة القبطية، فتقول إن العمل الإجتماعي لم يكن بهدف فقط إلى تعويض الأقباط عن نتائج التمييز الذى نالهم من جراء سياسة الدولة تجاههم، إنما هو أيضا عمل روحى وجماعى يربطهم معا ويرفع من نظرتهم إلى مدارج أعلى فى الحياة والمبادئ الروحية.
فى الفصل الأخير من الجزء الرابع من كتابها، تقدم سناء حسن دراسة إجتماعية فى كيفية إختيار الأساقفة والكهنة الأقباط خلال الثلاثين عاما الأخيرة من القرن العشرين، وتلاحظ أن نسبة عالية منهم كانت من خريجي الجامعات، ومن ذوى التخصصات العلمية (طب وهندسة) على عكس ما كان الوضع بالنسبة لجيل الأنبا شنودة، فى فترة الخمسينات والستينات من القرن الماضي، وكانت غالبيته من خريجى كليات الدراسات الإنسانية (تاريخ، آثار، إجتماع، وحقوق، لغات). وتفسر الكاتبة هذا التغيير، على أساس ماحدث من زيادة إهتمام الدولة بالدراسات العلمية عوضا عن إهتمامها السابق بالدراسات الإنسانية.
وتناولت الباحثة بتفصيل خصائص الأسقف والكاهن الناجح، ولاحظت أن الخبرة العملية، قبل دخول سلك الخدمة الدينية، عامل هام فى قيام رجل الدين بدوره القيادى الجديد الذى لم يعد – كما كان – مجرد خدمة روحية، بل خدمة إجتماعية متعددة الجوانب فرضتها الظروف المستجدة عليه، والمتمثلة فى إحتياجات قطاعات عريضة من الشعب الذى بات ينظر إلى الكنيسة كمصدر للعون فى المجالين الروحي والمادى، بعدما تخلت الدولة عن المجال الآخير إلى حد كبير.

الثقافة والهيمنة: "الإسلام هو الحل"

تأخذنا سناء حسن إلى منتصف القرن العشرين حيث بدأ أفول المدار الثقافى القبطي لحساب الإسلام، وكانت البداية على عهد جمال عبد الناصر (1952- 1970). فعلاوة على أن الأسس الثقافية لمجموعة الضباط الإحرار كانت دينية إسلامية، ولم يكن بين المجموعة عضو واحد درس فى الغرب أو أجاد لغة أجنبية، كما لم يكن لاي منهم إتصال بالغرب العلماني، لذلك لم تكن لديهم أية فكرة عن فصل الدين عن الدولة.
وتقول الباحثة انه بالرغم من أن عبد الناصر لم تكن لديه أية أيديولوجية، إلا أن بعض زملائه كانوا من المنتمين إلى جماعة الإخوان المسلمين، وكان كمال الدين حسين، الذى أصبح أول وزير للتعليم فى عهد الثورة، عضوا فى تلك الجماعة. وقد لعب حسين دورا بارزا فى تحديد فرص الفرد فى الحياة. فالملاحظ أنه بالرغم من إن النظام قد أتاح مجانية التعليم، وفتح أبواب التعليم الجامعي لكل أبناء الطبقات الفقيرة والمتوسطة، وأنشأ جهازا لتوزيع طالبى الإلتحاق بكليات الجامعة كلٍ حسب مجموع الدرجات الحاصل عليها فى نهاية مرحلة التعليم الثانوي، إلا أنه سرعان ما إنتهج سياسة تمييزية تجاه غير المسلمين، وخصوصا فيما يتعلق بالبعثات التعليمية الخارجية، أو بالتعيين فى منصب المعيد. كما ضيّق مجال دخول الأقباط كليات معينة، مثل أمراض النساء والولادة، واللغة العربية، وكان ذلك بذرائع دينية.
وتكشف الكاتبة عن عقلية وزير التعليم المتأثرة بمبادئ وإتجاهات الإخوان المسلمين، التى ظهرت بجلاء فى تغيير مناهج التعليم بتعريبها بشكل يكاد يكون مطلقا، الأمر الذى أضعف مستوى التعليم بسبب عدم تمكن الطلبة من الإطلاع على المراجع الأجنبية. هذا بالإضافة إلى صبغ كتب القراءة واللغة العربية بجرعة كبيرة من المواد الدينية الإسلامية، ثم توزيع أحد الكتب المثيرة والمحرضة ضد المسيحيين على طلبة المدارس، وكان الوزير قد كتب مقدمته وتقريظه، الأمر الذى قوبل بإحتجاج عارم من الأقباط، مما أضطر الوزير إلى سحب الكتاب من المدارس.
وفيما يتعلق بتشويه التاريخ المصرى، تشير الكاتبة إلى أن كتب التاريخ المدرسي تخصص مئات الصفحات لتتحدث عن الحضارة والفتوحات الإسلامية، بينما لم تخصص إلا اربعة صفحات فقط للإشارة إلى العصر القبطي. وهو وضع لم يتغير إلا مؤخراً، وإن كان إلى حد ما لم يف للتاريخ القبطي حقه.
أما فى مجال تأميم الإقتصاد المصري، فقد قام موظفو الدولة، ومديرو مؤسساتها بانتهاج سياسة التمييز تجاه الأجيال المسيحية من خريجى الجامعات، أكثر مما كان الحال فى السابق. فعلى الرغم من أنه كان هناك قانون لتعيين الخريجين فى إدارات الحكومة وقطاعها العام، إلا أن فرص المسيحيين فى الترقية كانت ضيقة جداً، وخصوصا فى المناصب الإدارية العليا. وتذكر الكاتبة أمثلة على ذلك، فى مجال البنوك وغيرها، بل وتورد أسماء بعض الأقباط الذين تعرضوا لهذا التمييز.
وتضيف إلى ماسبق من آثار التعريب، وتوجُه مصر العروبي، ما حدث فى مجال السلك الدبلوماسي من تفريغ للعناصر المسيحية، فبعد أن كان عدد العاملين فى وزارة الخارجية عام 1952 عشرة مسيحيين وسبعة وسبعين مسلما، أصبح العدد فى عام 1959، خمسة مسيحيين فى مقابل مائتين ستة وعشرين مسلما. أما عدد السفراء – وفى ذات الفترة - فقد أنخفض بشكل ملحوظ أيضا، فبعد أن كان هناك سبعة سفراء وقناصل أقباط فى مقابل 231 سفير وقنصل مسلما، أصبح العدد خمسة أقباط فى مقابل 378 مسلما. وهكذا إستمر- عبر الزمن - حرمان الأقباط من المراكز الحكومية المؤثرة. فعبر عقدين تحت حكم عبد الناصر، لم يعين إلا سفيرين فى بلدين صغيرين (بورما ونيبال).

الرئيس السادات وأسلمة وسائل الإعلام: 1970 – 1981

بينما بدأت أسلمة نظام التعليم فى عهد عبد الناصر، تمت أسلمة وسائل الإعلام تحت حكم السادات. لقد خصصت الدولة ثلاثين ساعة فى الإسبوع لبرامج إسلامية إذاعية، بينما لم يُخصص للأقباط إلا نصف ساعة فى الإسبوع، وإذاعة قداس عيد الميلاد على شاشة التلفزيون مرة كل عام.
وتفسر الكاتبة إتجاه الدولة لأسلمة الإعلام باعتبارها محاولة لتوظيف الإسلام لحسابها فى مواجهة الجماعات الإسلامية المعارضة. وتقول ان هذه السياسة إستمرت تحت حكم الرئيس مبارك. الأمر الذى أدى إلى إنتشار موجة من الحماس الدينى لبناء المساجد والزوايا المخصصة للصلاة بشكل عشوائى فى المبانى الجديدة، وأماكن العمل وإدارات الحكومة والجامعات والمدارس.
وتتناول الباحثة بالتفصيل المادة الإسلامية المذاعة عن طريق الراديو و التلفزيون، وخاصة المقدمة من بعض الدعاة مثل الشيخ الشعراوى وعبد الكافى وغيرهما، وكيف انها ساهمت فى نشر التطرف الدينى، والإثارة والحض على كراهية غير المسلمين وكل من لايؤمن بتفسيراتهم المتطرفة، لدرجة باتت تهدد المجتمع ونظام الحكم فى مصر، وهو أمر أدركته القيادة، مما حدا بها لإتخاذ بعض الإجراءات لتغيير بعض مناهج التعليم، وتدخل وزير الثقافة لتنقية وسائل الإعلام من كل ما يوحى بالتطرف الدينى. هذا بالإضافة إلى محاولة الدولة – من خلال وزارة الأوقاف – السيطرة على مايزيد عن 70000 من المساجد والزوايا التى أتخذ منها بعض المتطرفين ساحة لنشر مبادئهم.
ومع ذلك ترى الباحثة أن محاولات العلاج جاءت متأخرة ومحدودة الأثر، حتى مع تحريك المؤسسة الدينية الرسمية وبعض المعتدلين فيها، ومنهم الشيخ محمد سيد طنطاوى. فقد سيطر الإسلاميون على إتحادات الطلبة فى المدارس والجامعات، وفرضوا آرائهم على غيرهم ممن يختلفون معهم فى الرأى والتوجه، الأمر الذى كثيرا ما أدى إلى العراك، والعدوان على الطلبة المسيحيين فى بعض المدن الجامعية، خاصة فى الفترة من الثمانينات والتسعينات من القرن الماضى
واضح أن سياسة الدولة وحساباتها الخاطئة التى أدت إلى إنتشار التطرف، كانت لها أثار سلبية ليس على الأقباط فقط، ولكن على المجتمع المصري بأثره.
فى مواجهة الأثار السلبية الواقعة على الأقباط سجلت الباحثة ردة فعل الأقباط فى بعض الفصول السابقة التى عرضنا لها، كما سجلت الكاتبة حركة المجتمع القبطي والكنيسة على تلك السياسات، التى إتسمت بالتمييز أو تجاهل حقوق الأقباط، كما سنرى فى الفصول الأخيرة – التالية - من الكتاب.

المجيد والمقدس: الأسقف موسى ودمج النشء فى المجتمع

أدى تعاظم وجود الجماعات الإسلامية المتشددة داخل الجامعات وزيادة الإحتكاك بينهم وبين الطلبة المسيحيين إلى توجه الأخيرين نحو الكنيسة طلبا للدعم. وكانت مجموعات الطلبة المسيحيين، والمعروفة باسم الأُسر الجامعية القبطية والتى تكونت فى الخمسينات بجهود جيل مدارس الأحد، قد إتخذت شكلا مستقلا بذاتها. وكان هدف تلك الأُسر هو التضامن بين أعضاءها من خلال عقد فصول الدرس والمراجعة قبل الإمتحانات، وتوزيع المواد الدراسية وعقد إجتماعات الصلاة.
ولكن بتغير المناخ فى السبعينات من القرن الماضى إزدادت صعوبة عقد إجتماعات تلك الأُسر الجامعية، بل ولم تتمكن من المحافظة على إستقلالها الذاتي. وهنا قامت الكنيسة لتأخذ دورها فى تنظيم فصول مراجعة المواد الدراسية قبل الإمتحانات، وتوفير قاعات الدراسة وعقد الإجتماعات وتخطيط النشاط الترفيهي ومراكز الرياضة والمعسكرات الصيفية.
وإذ تأكدت الكنيسة من ضرورة ضم الجماعات الطلابية القبطية إلى الفضاء الكنسي، منعا للإنشقاق، قام البابا شنودة بانشاء أسقفية للشباب عام 1980 برعاية الأسقف موسى (وهو طبيب خدم بين الشباب لسنوات قبل رهبنته) وكان قد تتلمذ على يد الأسقف صموئيل أحد رواد الإصلاح الكنسى فى العصر الحديث، ثم الأسقف أثناسيوس، وكان هو أيضا صاحب رؤية ومدرسة فى العمل الرعوى والتنموي.
تناولت سناء حسن تسجيل نشاط أسقفية الشباب فى فصل كامل من كتابها، تحدثت فيه عن نظام العمل والخدمة فى هذه الأسقفية التى تقوم بدور هام فى تربية النشء روحيا ونفسيا وإجتماعيا وثقافيا، من خلال عقد الندوات والدورات الدراسية وإصدار الكتب والمجلات المتخصصة والموجهة لمختلف الأعمار. هذا بالإضافة إلى تنظيم المعسكرات والمسابقات الدينية والثقافية وعقد الحوارات الثقافية، ومنها ما يتناول بعض الموضوعات السياسية، حيث تستضيف الأسقفية كبار المتخصصين والمفكرين من مسلمين وأقباط.

القومية الثقافية القبطية

أحد فرضيات الدراسة الحالية أن الكنيسة القبطية تحت قيادة البابا شنودة الثالث قد راهنت على أهمية تأكيد الهوية الدينية للحفاظ على وجود المجتمع المسيحي المحاصر. وقد حققت الكنيسة هذا الهدف عن طريق العديد من الأنشطة الجماعية، ومنها تكريس أعداد كبيرة من العلمانيين وإدخالهم فى السلك الرعاوى (الكهنوتي)، بالإضافة إلى إحياء الثقافة الدينية القبطية. وكانت أسقفية الشباب أحد الروافد الرئيسية لتحقيق هذا الهدف من خلال تعدد أنشطتها الدينية والثقافية. هذا فى الوقت الذى إستمرت مدارس الأحد فى تأدية رسالتها. وهكذا خلقت الكنيسة المجال الإجتماعى الذى إفتقده الأقباط من جراء إستبعادهم من الحياة العامة.
وتستشهد الباحثة بما كتبه البابا شنودة عن أسس الحياة الروحية، فى كتابه "حياة الإيمان"، حيث قال: ان ذهاب الأقباط إلى الكنيسة للصلاة مرة فى الأسبوع لم يعد يكفى لربطهم بالكنيسة الأم، فعليهم أن يتعرفوا على إرثهم الديني بدراسة الموضوعات اللاهوتية والعقائدية الخاصة بالكنيسة الأرثوذكسية. بل ويؤكد على واجب الترقى إلى مستويات أعلى فى الإيمان. وهذا ما حدا بالكنيسة إلى أنشاء عدد من المعاهد الدينية التى فتحت أبوابها للعلمانيين بعد أن كانت قاصرة على الطلبة الاكليريكيين، ومنها معهد الدراسات القبطية حيث توفرت الدراسات اللاهوتية العليا واللغوية القبطية والموسيقية والفنية والتاريخية والإجتماعية والقانونية. ولقد أحيت هذه الدراسات، وخاصة بعث الألحان والموسيقى القبطية، التى وهب لها العالم راغب مفتاح حياته كاملة، الروح الجماعية وسط الأقباط. كما كان لإنتشار دور النشر التابعة للعديد من الكنائس القبطية أثر فى دعم الهوية القبطية.
على أن مفهوم الهوية القبطية لم ينحصر فى المجال الدينى، بل تعداه إلى المجال السياسي الذى تعبر عنه لغة الأقباط، أى اللغة القبطية، الأمر الذى جعل بعض الشباب القبطي يذهب إلى حد تكريس سنين شبابه فى البحث عن أصول هذه اللغة فى جامعات الغرب، وكان من هؤلاء الشبان وهيب عطا الله (فيما بعد الأنبا غريغوريوس، أسقف البحث العلمى والثقافة القبطية) الذى حصل على درجة الدكتوراة من إنجلترا. كما يظهر إهتمام الكنيسة بإحياء اللغة القبطية فى إنشاء فصول تعليمها فى كل الكنائس، وظهور عدة أساتذة ممن تخصصوا فى دراسة اللغة على أعلى المستويات الأكاديمية فى الجامعات الغربية. وعلى الرغم من ذلك تسجل الباحثة فشل الأقباط فى إستعادة لغتهم كلغة حديث، وإقتصار إستخدامها فى الحقل الكنسى.
وتذكر الباحثة محاولة الأقباط (فى التسعينات من القرن الماضي) إنشاء جامعة قبطية فى مصر، بدعم من أقباط المهجر، وكيف أن المشروع هوجم فى الصحافة المصرية بإدعاء أنه مشروع طائفى ومثير للفتنة. هذا على الرغم من وجود جامعة الأزهر القاصرة على المصريين وغير المصريين من المسلمين!!

الكنيسة كساحة حرب Battleground

تحت هذا العنوان الملفت للنظر، والذى قد يعترض عليه الأقباط، تقول الباحثة:" أصبحت الكنيسة فى عهد البابا شنودة الثالث مكانا لحشد الأقباط ومجالا لتأكيد هويتهم الجماعية. فلقد تحولت (صلاة) القداس بالنسبة لهم – كما كان الأمر فى بداية العصر المسيحي - إلى شهادة على بقائهم فى مواجهة الإضطهاد. وصارت مشاركة كل قبطى فى صلاة عطلة الأسبوع، ووعيه بانه واحد من ملايين الأقباط المتجهين إلى كنيسته فى ذات اليوم وذات الوقت، مصدرا للقوة. وبينما ينبع الشعور بالقوة من تزامن تأدية الأقباط الصلاة، فإن تبادل السلام بين المصليين بالأيدى فى نهاية القداس يؤكد هذا الشعور".
وتذكر سناء حسن طقوس قبطية أخرى، منها تعميد الأطفال وسط جموع من الأهل والرعية، والإحتفال بأعياد القديسين باعتبارها ممارسات تؤكد على الفرح الجماعي لأعضاء أقلية تعىّ وضعها، ومع ذلك تؤمن باستمرار بقاءها (بالإضافة إلى معانيها وآثارها الروحية فى المفهوم المسيحي).
فى هذا الفصل، تعرض الباحثة لبعض المشاكل التى تواجه الأقباط فى مصر، وتبدأ بالقيود الرسمية المفروضة على بناء وإصلاح الكنائس وملحقاتها من مبانى خدمية. وتذكر بعض الحالات التى عاصرتها أثناء إجراء بحثها الميدانى فى مدن المنيا وأسيوط، بل وتذكر حالة سجن كاهن قبطي جرؤ على بناء مرحاض بكنيسة دون الحصول على ترخيص بذلك! (ص 210) كما تذكر حالات لكنائس أثرية فى بعض مدن الصعيد (طما والمنيا) تعود إلى القرن الثالث الميلادى، رفضت الحكومة إصدار تصريحات لترميمها، مما أدى إلى تحول هذه الكنائس إلى ركام، الأمر الذى إعتبره الأقباط محاولة من الحكومة لمحو الذاكرة التاريخية للمسيحية فى مصر. كما تذكر الباحثة أحدى الوسائل التى يلجأ اليها السكان المسلمين بدعم من الإدارات المحلية لمنع بناء كنيسة وذلك بالتسابق إلى بناء مسجد على مقربة من موقع الأرض المخصصة لبناء الكنيسة.
فى مواجهة مثل هذه التحديات، تسجل الباحثة إقتراب الأقباط من الكنيسة وإلتزامهم بممارسة أصوام عدة، اسبوعية، وسنوية. بعضها ينقطع فيه الأقباط عن الطعام تماما، كتدريب روحى أساسا، ولكنها ممارسة دعت إليها الكنيسة تحت رعاية البابا شنودة – فى بعض الحالات - كوسيلة للعصيان المدنى فى مواجهة الإضطهاد الذى تعرض له الأقباط. حدث هذا لأول مرة فى العصر الحديث فى شهر يناير عام 1977 إحتجاجا على محاولة الدولة تطبيق حد الردة. أما المرة الثانية، فكانت فى عام 1980 خلال فترة عيد القيامة، إحتجاجا على تقاعس الدولة أمام تفجير بعض الكنائس القبطية فى مدينة الأسكندرية. وكانت ذروة حركة الإحتجاج القبطي عن طريق الصوم العام عندما قام السادات بنفى البابا شنودة عام 1981.
تلك هى بعض صور الحشد الجماهيرى للأقباط – حسب تحليل الباحثة - بالإضافة إلى إتساع رقعة الأنشطة الإجتماعية التى تقوم بها الكنيسة للنشء والشباب، بتنظيم الرحلات الجماعية إلى الأماكن الأثرية الفرعونية أو الأديرة القبطية أو المعسكرات الصيفية والدورات الرياضية.
على أننا نرى ان كل ذلك وغيره من نشاطات إجتماعية وثقافية أمر طبيعي يحتاجه المواطن المصرى – بوجه عام – كما يحتاجه أعضاء الأقلية القبطية بشكل أخص، بعدما نالها النصيب الأكبر من تجاهل الدولة فى تحقيق العدالة نحوها وصون حقوقها المشروعة على أسس المواطنة. فإذا كانت الدولة – ممثلة فى حكومات فاسدة وإدارات متعصبة - قد تنصلت من واجباتها تجاه المواطنين، بسبب إختلاف الدين، أو بسبب فساد الحكم، فلا لوم على الكنيسة أو مؤسسات المجتمع المدنى عند قيامها بمد يد الرعاية الإجتماعية لمن يحتاجون إليها. لذلك، وفى مثل هذه الحالة، يتوجب تقديم الشكر والتقدير للكنيسة، لأن قيامها بهذا الدور يعتبر حِملا زائداً أُلقي على عاتقها، إضافة إلى مسئوليتها الأولى الروحية!0
أعود مرة أخرى إلى عنوان هذا الفصل، وهو الكنيسة ساحة حرب، لأذكر أن الباحثة كانت قد قصدت بكلمة حرب، الحرب الروحية. ففى معرض حديثها عن الإجتماع العام الذى يعقده البابا اسبوعيا لتعليم آلاف من الأقباط، منذ توليه منصب الباباوية، بينت سناء حسن أن ألهدف الرئيسى من هذا الدرس الأسبوعى كان هو تشجيع الأقباط فى السعى نحو التمثل بآباء الكنيسة وقديسيها للصمود فى مواجهة العدو الروحي، وكذلك رفع معنوياتهم وإشعارهم أن الكنيسة تقف بجانبهم فى صراعهم اليومي (ص 226).

نحو مزيد من المشاركة العلمانية فى إدارة المؤسسة الكنسية

فى نهاية دراستها، تسجل سناء حسن إزدياد الإعتماد على كوادر علمانية مدربة فى القيام بإدارة المشروعات التنموية فى أقاليم مصر لخدمة الطبقات المحتاجة من الأقباط، فلم يعد من الممكن لرجال الدين، سواء الأسقف أو الكهنة، الإضطلاع بتلك المسئوليات بعد إن إزدادت الحاجة إلى الخدمات الإجتماعية. وترى الباحثة أن هذا الوضع سيتطلب مزيدا من المشاركة – او ديموقراطية الإدارة.
أما فيما يتعلق بادارة المؤسسة الكنسية المركزية بالقاهرة، فترى الباحثة أن هناك أصوات قبطية تطالب بضرورة إجراء عملية إصلاح خاصة بقواعد إنتخاب البطريرك والأساقفة ووضع قواعد لتقاعدهم بسبب الشيخوخة أو العجز أو المرض. كما أن هناك حاجة إلى إدارة شئون البطريركية والمجالس الملية على أسس حديثة و ديموقراطية تتواكب مع التطور الذى لابد أن تمر به مصر كلها. ان مزيد من المشاركة العلمانية و ديموقراطية الإدارة تعنى – فى ذات الوقت - أن يكون للمرأة القبطية نصيبا أكبر فى العمل الكنسى على المستويين الدينى والإجتماعى التنموى.

نحو أسس جديدة للمساواة الوطنية

تختم سناء حسن دراستها بتقييم قيادة البابا شنودة وطاقم الأساقفة الجدد فى خلق المجالين الروحى الثقافى والإجتماعى السياسي الذى مكن من حشد المجتمع القبطى فى مواجهة التحديات التى واجهته خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الماضى. كما تشير إلى أن النهضة القبطية، بكل رموزها من حركة إحياء للغة القبطية – ولو أنها على المستوى الطقسى - إلى إعادة تعمير بعض الأديرة ودعم النظام الرهبانى وتحول العلاقة بين الفرد والكنيسة إلى علاقة بين الجماعة القبطية المتضامنة والكنيسة الأم الراعية الساهرة. كما تسجل سناء حسن دور البابا شنودة كممثل عن الجماعة القبطية وقيامه بمطالبة الدولة باحترام حقوق الأقباط الجماعية وليست فقط حقوقهم المدنية كأفراد، مثل حقهم فى الحفاظ على ثقافتهم وتاريخهم وتدريسهما بالمدارس العامة، وإحترام عقيدتهم والتمتع بمزاولة شعائرها دون قيود. وإذا كان هذا هو الدور الذى حاول أن يقوم به البابا فى السبعينات والثمانينات، إلا ان الدور قد تغير بل وبهت لونه – إلى حد كبير – فى الثمانينات وإلى الآن، حسبما ترى الباحثة.
وهكذا تنعى سناء حسن وضع الأقباط السياسي حيث لا وجود لهم فى البرلمان او المراكز القيادية للدولة. أما الوزيران القبطيان، فهما من التكنوقراط وليس لهما أى دور سياسى أو وزن يمكن ان يخدم فى تحسين وضع الأقباط الجماعى أو حتى الفردى، كما انهم فى معزل تام عن هموم الأقباط ومشاكلهم.
ولذلك، ترى الباحثة انه لا التحالف التكتيكى القائم بين الكنيسة والنظام ضد الجماعات الإسلامية، ولا الحديث المنمق عن الوحدة الوطنية، بقادر على إخفاء فشل البابا فى تحقيق المساواة السياسية للأقباط، أو تحقيق المساواة فى أى مجال آخر. أنها سياسة البقاء مجردا، أكثر من أن تكون سياسة المشاركة الغعلية والإندماج السياسى. سياسة محدودة الفوائد يفرزها نظام حكم مُفلس ومنهك القوى... نظام يفتقد الرؤية الجديدة.. غير قادر على تحقيق آمال شعبه، يستمد شرعيته من شئ واحد: كونه البديل الوحيد لحكم إسلامي. ومع ذلك، بينما يقوم النظام بكبح الأصولية الإسلامية، مستخدما فى ذلك العنف المنفلت وإنتهاك حقوق الإنسان، إلا انه لا يرغب إلا فى السيطرة على حركتها، باضعافها، وليس بالعمل على محو ايديولوجيتها.
الحل فى كلمة أخيرة.. ترى سناء حسن ان دمج الأقباط فى الحياة السياسية المصرية، مع الإعتراف بخصوصيتهم القبطية تستلزم صياغة دستور مصرى جديد يعترف بالتعددية الدينية والثقافية ويحميهما. وعلى هذا الأساس لا بد أن يتمتع الأقباط بالتمثيل النسبي فى الحياة السياسية.
هذا المطلب وغيره من المطالب القانونية التى تستلزم فى ذات الوقت إجراء إصلاح دستورى عام يضمن حقوق الأقلية القبطية، يتطلب تحرك قيادات قبطية علمانية داخل مصر وخارجها. أما إلقاء اللوم على البابا أو الكنيسة، كما فعلت الباحثة، فيبدو أنه حكم فى غير محله، إذ كما سبق وقلنا فى مقالات سابقة أن الكنيسة تحملت أكثر مما كانت تستطيع وإنها فى الواقع السياسى ليست مخولة للعب هذا الدور السياسى، وليست مؤهله له عمليا. المسئولية تقع أولا وآخيرا على عاتق الأقباط كشعب، وعليهم أن يتحركوا، وبقوة، لنيل مطالبهم العادلة.
______________________________

* رئيس المنظمة الكندية المصرية لحقوق الإنسان