ترددت في كتابة هذا التعليق على تجنيد الشاب ( محمد الفار )، من مخيم ( عسكر ) في مدينة ( نابلس )، وهو الذي لم يكمل السادسة عشرة من عمره بعد، من قبل ما يسمى ( كتائب الشهيد أبو علي مصطفى )، التابعة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وإرساله ليفجّر نفسه في سوق الكرمل في تل أبيب، وكان مصدر ترددي إحترام مشاعر عائلته أولا وأخيرا، فلا إحترام لمن يركب مركب النضال، ويجند شبابا هم أقرب لعمر الطفولة، ولكن بعد أن قرأت موقف والده وعائلته الرافض لإستغلال أطفالهم وإرسالهم إلى الموت، وجدت أن مناقشة هذا الموضوع علانية وصراحة، فيه تعزية لأسرة هذا الشاب، وفتحا لموضوع طال السكوت عليه، وسط إرهاب الكتاب والصحفيين إزاء مناقشة العديد من الموضوعات التي طرحها النضال الفلسطيني، فأصبحت كل الجرائم مبررة، طالما يتم تغليفها والإعلان عنها بغطاء مقاومة الإحتلال...الإحتلال يجب أن يقاوم، ولكن ليس بهذه الوسائل اللانضالية ولا الأخلاقية، والتي يدخل أغلبها في دائرة المزايدة و إثبات الوجود، حتى ولو من خلال قتل أطفال الآخرين.

ما معنى إرسال شاب في هذا العمر، وفي هذا التوقيت بالذات ؟. أولا: لا أعتقد أن أية شرائع أخلاقية أو نضالية، تقبل تجنيد من هو في عمر الشاب ( محمد الفار )، وإرساله إلى موت مجاني!!. وإلا لماذا لم يرسل الذين جنّدوه واحدا من أولادهم؟. هل المسؤولون عن كتائب أبو علي مصطفى،لا يوجد لدى واحد منهم طفلا في هذا العمر ليرسله للموت؟. وحتى لو تملكوا الجرأة، وأرسل واحدا منهم ولده لمثل هذا الموت، لكنت سوف أدينه، حتى لو كان جوابه العشائري: هذا إبني، وأنا حر فيه!. لا لأن إبنه ملك للمجتمع، ومن خلال حياته وحياة الآخرين، نرسّخ القيم ونبني الوطن. و ثانيا: هذا التوقيت الخاطىء، حيث الساحة الفلسطينية تعج با لإضطراب، بسبب مرض الرئيس عرفات وسفره خارج الوطن للعلاج، وإحتمالات شفائه وممانعة إسرائيل من عودته، وإحتمالات موته ( الأعمار بيد الله )، ودخول الساحة الفلسطينية المتوقع فيما لايحمد عقباه، إلى درجة أن الولايات المتحدة الأمريكية، رغم إنشغالها بإنتخابات الرئاسة، أعربت عن قلقها على صحة عرفات. في هذا التوقيت الخاطىء جاءت هذا العملية، لتؤكد أن بعض الفلسطينيين، لا يفكرون إلا فيما يخدم مصالحهم الشخصية والتنظيمية، مهما غلّفوها بشعارات: المقاومة وطرد الإحتلال. إنهم يسيئون لسمعة الشعب الفلسطيني وأخلاقياته، ولن أنسى تصريح ملكة السويد، تلك المملكة المؤيدة غالبا لحقوق الشعب الفلسطيني، قبل حوالين عامين ونصف، تعقيبا على مانشر حينها عن تجنيد منظمات فلسطينية لأطفال، ليفجّروا أنفسهم على حواجز إسرائيلية، قالت الملكة السويدية آنذاك : أعجب من الأمهات الفلسطينيات...ألا قلوب لهن ؟. وها هو جواب الأمهات والآباء الفلسطينيين، قد جاء عبر إستنكار عائلة الشاب ( محمد الفار ) وإدانتهم لمن جنّده، وأرسله للموت!!. الذين لا قلوب لديهم، ولا أي وازع أخلاقي، هم الذين غسلوا دماغ هذا الشاب، وأرسلوه لموت لا طائل من ورائه، سوى تشويه سمعة الشعب الفلسطيني!.

والغريب هو موقف السلطة الفلسطينية، فقد أصبح عملها منذ مايزيد على ثلاث سنوات هو لعبة إعادة التسلي بترديد أفعال ثلاثة ( ندين، نستنكر، نشجب ). وهذا ما أفقدها إلإحترام والمصداقية لدى أغلب المؤيدين لها في العالم، لأن سلطة أي بلد لا تقتنع بعمل ما، فمن مسؤولياتها وقفه، لا أن تنتظر حتى وقوعه، ثم إستنكاره، وهي في هذه الحالة ( ليست شاهد ما شافش حاجة )، ولكنها ( الشاهد الذي شاف كل حاجة، ومقتنع بخطأ كل حاجة، وغير قادر على وقف الخطأ )، والسؤال المنطقي عندئذ إلى متى هذا، وما البديل ؟!.

و سيبقى سؤالي قائما : لماذا لم يرسل الذين جنّدوا الشاب محمد الفار، واحدا من أولادهم، أم أن أولادهم هم قيادات المستقبل، بعد طرد ألإحتلال، عبر قتل أولاد الآخرين؟؟. أم أنهم يحبون الجنة لأولاد الآخرين، ويكفي أولادهم جنة الدنيا؟؟. المهم فلسطينيا هو سماع بكاء أفراد عائلة الشاب محمد الفار، وإدانة كافة أفراد العائلة لهذا العمل الجبان، كي نتمكن من منع و وقف هذه الأعمال غير النضالية ولا الأخلاقية، التي تسىء لسمعة الشعب الفلسطيني وتفقده من تبقى من أصدقائه في العالم، دون أن تسهم في دحر الإحتلال!!. أما التستر بإسم المناضل الكبير، المأسوف على فقدانه فعلا، الشهيد أبو علي مصطفى، فلن تخيف الباحثين عن الحقيقة والصواب و مصلحة الشعب الفلسطيني من إدانة هذا العمل، دعما وتأييدا لإدانة عائلة الشاب محمد الفار!!.

* كاتب و أكاديمي فلسطيني، مقيم في أوسلو
[email protected]