نعيش في العالم العربي في ثنائيات عجيبة وتتجاذبنا متناقضات غريبة ويطحننا الجهل والتخلف وتكبلنا الاراء المسبقة والافكار الغيبية. وتتمثل هذه الثنائيات في الجدل الدائر بين التقدم والتخلف، الاصالة والمعاصرة، القديم والجديد، التراث والحداثة، الفكر العقلاني والتفكير السلفي (فليس هناك فكر سلفي بل تفكير هو صنو التكفير بتغيير ترتيب الحروف). ولا زلنا حتى الآن لم نحسم الموقف من هذه القضايا الفكرية التي لها تأثير مباشر على حياتنا الحاضرة. وبسبب التأخر في حسم مثل هذه القضايا لصالح منفعة الانسان العربي ولصالح الاجيال القادمة فسنبقى نعيش في أزمات متلاحقة وكل ما نقدمه هو الهروب الى الماضي الذي نحاول جاهدين اسقاطه على الحاضر،
أو لجم التقدم والدوران الى الخلف. إن الاجيال القادمة ستحسم بالتأكيد مثل هذه القضايا لان سمة التاريخ هو التقدم، وعندها ستصب جام غضبها علينا لاننا لم نوّرثها غير الهزائم والتفنن في الرجوع الى الخلف وتبرير هذا التخلف برواية القصص الخرافية والاساطير الغيبية التي نتذكرها من زمن كان العلم يمارس فيه بطقوس السحر وكان العقل مغيب لصالح البهلوانات.

إن الجهل هو عدونا الاول، وهذا الجهل ناتج عن أمية قاتلة لازالت تمسك برقاب العباد في معظم الدول العربية، ولا زالت نسبة هذه الامية مرتفعة حيث تبلغ 40% من عدد السكان البالغين (عدد سكان العالم العربي 275 مليون نسمة ويضاف اليهم 7 ملايين نسمة عدد سكان الصومال وجزر القمر)، وتشكل النساء 68% من هذه النسبة. وتتوزع هذه النسبة بشكل متباين حيث تضم مصر ام العرب ربع عدد الاميين. يضاف الى هذه المصيبة ان واحدا من كل أربعة أطفال هو خارج المدرسة، حيث يشكل ذلك 10.3 مليون طفل.

هذه هي التربة التي تنمو فيها هذه الثنائيات والتي حتما تفرز تناقضات مرعبة تسيطر في التفكير العربي المعاصر، وهذا هو المستنقع الذي يفرز الافكار الغيبية والتفسيرات الشيطانية للعالم التي يتشبت فيها الفرد وخاصة من حملة الشهادات ارباع المثقفين. وهذا أدى الى كوارث دفعنا ثمنها غاليا والى مصائب قذفتنا الى خارج الزمن فأصبحنا خارج محيطنا. إن الامثلة على التناقضات في التفكير العربي المعاصر كثيرة، نذكر بعضا منها لتعيننا على استخلاص العبر والدروس التي قد تساعدنا إذا وضعناها في إطار العقل على السير قدما لمحاولة التخلص منها تمهيدا لحل إشكالية الثنائيات التي ذكرناها سابقا.

اننا شعوب غير قارئة وكأننا بيننا وبين الكتاب عداوة متاصلة وقائمة، ولذلك تلعب الكلمة المسموعة دورا في تكوين وعيننا. فنحن شعوب حماسية تثيرها كلمة وتخمد شعورها كلمة أخرى. وهذا يؤدي الى ان جل وعيننا في المشاكل الحاضرة التي نعاني منها يعتمد على بعض ما نقرأه في الصحف أو نسمعه في الفضائيات. أي أن المعرفة التي نمتلكها للمشاكل المعاصرة هي معرفة سطحية لا تعتمد على الحقائق والارقام والتحليلات الجادة. ولان الطبع البدوي مسيطر فينا فإن ما نقوله هو الصحيح ولا نعترف بالرأي الاخر بل نحاول أن نقمعه ونسكته. وعندما نتحمس الى قضية ما فاننا نعتقد ان ما نقوله هو الصحيح وعلى الجميع ان يتبعنا ويتخلى عن رأيه، فلا مكان للآخر في حياتنا، ولا نعترف باختلاف الاراء، وهذا الاختلاف بدعة غربية وهو من عمل الشيطان رجس يجب أن نقاومه. دعونا نتأمل بعض الثنائيات في التفكير العربي المعاصر عن طريق بعض الامثلة:

1. في خضم الحرب الباردة بين النظامين الاشتراكي والامبريالي، كان التفكير العربي يعيب على الاتحاد السوفياتي والدول الاشتراكية ديكتاتورية أنظمة الحكم فيها وإن شعوبها محرومة من نعم الحرية التي ترفل بها شعوب الدول الغربية. وكم تباكينا على تكميم الافواه وكبت الانفاس وحجب الرؤيا في هذه الدول، وكم تداولنا روايات سولجستين وبولغاكوف وأعجبنا بتصريحات ساخاروف في نقد النظام السوفياتي. وفي المقابل كنا نتغنى بالديمقراطية الغربية والليبرالية الاميركية وكنا نعزو التقدم العلمي والتكنولوجي الى اجواء الديمقراطية وواحات الحرية السائدة في الدول الغربية. كنا نحقّر الصناعة السوفياتية ونشكك بالسلاح السوفياتي الذي قاتلنا وأحرزنا بعض الانتصارات به وعزينا انكسارنا وهزائمنا المتكررة الى هذا السلاح. وعندما انهار الاتحاد السوفياتي واندثرت الكتلة الشرقية وأتجهت روسيا وغيرها من الدول الى استيراد النموذج الغربي في الانتخابات وتبنت إقتصاد السوق حتى صببنا جام غضبنا على تلك الشعوب التي لم تقدر الاشتراكية ولم تثمن العدل الاجتماعي والمساواة وأصبحنا نردد ليل نهار بان امريكا نفسها تفتقر الى الديمقراطية وان ديمقراطيتها زائفة وانها تحكم من قبل 120 عائلة وهي التي تتحكم في الاقتصاد الامريكي وبالتالي تفرز رئيسا لخدمتها. تناقض غريب أعتقد اننا به نحاول أن نبرر الوضع الحاضر الذي نعيشة

2. ما يحدث في العراق يقدم انموذجا على الثنائية التي تؤدي الى إغتراب الفرد عن واقعه لا بل عن الزمن الذي يعيش فيه. لقد إختلفنا حول الدور الامريكي في العراق، هل هو احتلال ام احلال ام مساعدة لشعب ظل مقهورا من طاغية حول شعبه الى عبيد في الداخل ومهجر يبحث عن مأوى في الخارج. ويتسائل البعض بغباء اين الديمقراطية والحرية التي اتت بها امريكا؟ اما عن الديمقراطية فان برمجة اجراء النتخابات تعد تتويجا لها. فليتنافس العراقيون حول من يحكمهم عن طريق صناديق الاقتراع. اما عن الحرية، فكل الحركات السياسية العراقية تعمل في النور دون خوف أو ارهاب بقطع الاعناق، حتى الفضائيات تبث من يصف علاوي بالخائن وعميل امريكا وكذلك من يطالب بقتال الامريكان! ثنائية غريبة! عندما كان صدام في السلطة كانوا يطالبون بازاحته، وعندما قوض حكمه أصبح بطلا وابن العراق.

3. الثنائية الغريبة العجيبة، وخاصة بين الذين يدعون الثقافة وهم كما قلنا أرباع مثقفين، تتمثل بموقع المطالب والمنظر والمتفرج. فهم يطالبون شعوب الاتحاد السوفياتي ببناء الاشتراكية وهم يرفلون بخيرات الامبريالية الامريكية ويقفون طابورا للحصول على التأشيرة الامريكية (بالمناسبة فان طوابير الحصول على تأشيرة امريكية في الدول العربية التي تقّبح امريكا ليل نهار وتنعت شعبه بأقذر العبارات هي ظاهرة تستحق الدراسة). ويطالبون الشعب الفلسطيني بالاستشهاد والمقاومة وعدم اللجؤ الى المفاوضات وهم يجلسون في مقاهيهم يستمتعون بلذة المشاهدة، حتى تحول الشعب الفلسطيني في الداخل الى شعب امي (لكثرة إغلاق الجامعات وامدارس)، والى شعب معاق (بسبب الاصابات والتشوهات من قبل جيش الاحتلال)، والى شعب يعاني من سوء التغذية بسبب الفقر (فالاقتصاد مدمر والمصانع مغلقة والاسواق خاوية). كذلك نريد للعراقيين ان يتحولوا الى قنابل موقوتة ضد الامريكان وعملاؤهم، وكأن الامريكان يتواجدون في العراق فقط. ثنائية غريبة عجيبة. نقف طوابير امام السفارات الامريكية ونقف احتراما لكل من يحمل شهادة امريكية ونسافر للعلاج في امريكا ونريد ان نحول مجتمعاتنا الى مجتمعات رقمية كامريكا، وقولا ننشر ثقافة الارهاب بين الشباب لقتال الكفار واعوانهم.

تعيش الشعوب العربية في ثنائيات مخيفة، يروج لها الدراويش وكتاب الحجب والبهلوانات والسحرة. في كل مجال من مجالات الحياة تسيطر هذه الثنائية، في السياسة والاقتصاد والحياة الاجتماعية والثقافية والفكرية والفنية. فلا عجب أن أقرأ اليوم لمن يسمي نفسه عاشق الاوطان بان مقاتلي الفلوجة لم يهربوا "لانهم لصوص الهوى العراقي المجنون، ولو لم يكونوا عشاقا لجدائل دجلة لخرجوا من المدينة من أول زخة رصاص". لكنه يكتب من بريطانيا ولم يدر ان الذي استطاع الهرب فقد هرب والباقي وقع في فخ الطوق المضروب، وفي الموت ما نفع الغناء والعشق؟
د. هاني عبيد