توقفت قليلا أمام خبر تبرع الممثلة الأمريكية ساندرا بولوك بمليون دولار لضحايا زلزال وطوفان أندونسيا وإقليم أتشيه، لم يكن الباعث على توقفى أمام هذا الخبر،هو التبرع أو شخص ساندرا بولوك فقد سبق وأن تبرعت بمبلغ مماثل، لصالح الضحايا من قرابة الأربعة ألاف نفس الذين قتلوا فى حادث الهجوم الإرهابى على برجى مركز التجارة فى مأساة الحادى عشر من سبتمبر، ماجعلنى أتوقف هو المعنى الأعمق الذى يستدعية تبرع ساندرا بولوك، من إحساس بالمشاركة فى الرابط الأعظم الذى يربط بين بنى البشر وهو الإنسانية، ذلك الرابط الذى تجاوز؛ حين قررت ساندرا التبرع؛ كل التمايزات العقائدية والدينية والعرقية، تجاوز النظرة الشوفينية الضيقة التى تجعل المتبرع يفكر فى إطار قبلى عشائرى، يقصر الصدقة على بنى جلدته وأهل الجوار الضيق. كانت كلمات السيدة مارشا إيفانز، رئيس الصليب الأحمر الدولى، تعليقا على تبرع ساندرا بولوك ؛ أكثر دلالة على المعنى حين قالت:

( مرة أخرى، فى مثل هذه الأوقات السيئة، نعبر عن إمتنان عظيم لساندرا بولوك، لما ظهر منها من تسامح وإيمان وقناعة بالمهمة الإنسانية العالمية، إنها نموذج للخير الشخصى ).

( تسامح وإيمان ) ؛ نعم، فأكثر من ثلثى الضحايا هم من مسلمى أندونيسيا، أكبر الدول الإسلامية قاطبة، تلك الدولة التى ضربها الإرهاب الأسود قبل عامين، حينما فجر متطرفون منتجع بالى حيث قتل عدد كبير من الغربيين ومن بينهم صديقه لساندرا بولوك نفسها. المهم أن ساندرا بولوك حينما قررت التبرع ؛ لم تستدعى بداخلها أى من نوازع التعصب أو النظرة الأنانية التى تجعل الإنسان ينزع نحو تقييد مبادراته، وجعلها وقفا على فئة من البشر يعتقد خطأ ؛أنها أولى بإحسانه من سواها، وفق منطق، الأقربون أولى بالمعروف.

الحاصل أن سباق التبرعات يحتدم وبشكل مدهش ليتجاوز أفرادا كساندرا بولوك وجاك شيراك الى كيانات تجارية وإقتصادية وإعلامية مثل شركة كـوكـا كولا ( المكروهة عربيا ) وفـايـزر وميكروسوفت وشبكة التلفزة cnn وشل، بل إن العدوى إنتقلت الى الدول، فبعد إعلان اليابان عن رصد نصف مليار دولار، دخلت الهند فى سباق مع الولايات المتحدة فى عمليات الإنقاذ وتقديم المعونات ليس الى سيرلانكا الإمتداد الطبيعى للهند فقط ولكن الى أندونيسيا المسلمة وجزر المالديف المسلمة أيضا والتى تخرج رئيسها مأمون عبد القيوم فى جامعة الأزهر المصرية. أما ماهو أكثر إثارة للدهشة فهو قيام أهالى بـلدة بيسلان – هل تذكرونها ؟ – تلك البلدة التى إستيقظت ذات صباح لترى أطفالها يذبحون ويقتلون فى أول يوم دراسى بمدرستهم فى إحدى الغزوات الجهادية المباركة، قامت تلك البلدة الصغيرة بجمع تبرعات تساوى ستة وثلاثين ألف دولار وتبرعوا ببطاطين منزلية مستعملة وملابس شخصية وسلموها الى مندوبى الصليب الأحمر لإيصالها الى المنكوبين.

يحدث هذا فى الوقت الذى خفت فية صوت العالم العربى والإسلامى تماما، وتراجعت حتى أنباء النكبة الإنسانية من الواجهات الإعلامية العربية، لتغطى عليها أنباء الوساطة المهيضة بين العقيد الليبى والحكومة السعودية، والبشائر بوقف الحملات الإعلامية بين البلدين، يحدث هذا وقد حملت الأنباء لنا قيام دول عربية غنية بتقديم تبرعات تتساوى أو تقل عن تبرعات بعض الأفراد فى الغرب وتتفوق عليها تبرعات بعض الشركات. لم نعثر على أثر لرجال مال وأعمال عرب يمتلكون فضائيات بعض قنواتها الدينية لاتكف ليل نهار عن الحديث عن التكافل والتراحم والجسد الواحد والبنيان المرصوص، كما لم نسمع صوتا للدعاة الفضائيين وشيوخ الفتاوى والداعيات من الممثلات السابقات، لم نسمع كلمة واحدة عن الملايين من مسلمى أندونسيا والمالديف الذين تقطعت بهم السبل وحاصرتهم الأوبئة ورائحة الجثث ويتضور أطفالهم جوعا وهم يجرون تحت المروحيات كى يظفروا بعلبة خبز أو كيس طحين، سأكون عنصريا أنا الأخر وأتحدث عن مسلمى أندونسيا والمالديف وبعض مسلمى سيرلانكا، أما باقى الضحايا فهم ليسوا بشرا وليسوا من أمتنا المختارة ولذلك سنستبعدهم، حتى هذا الموقف العنصرى ضنوا به على الضحايا، وتحدث شيخ فى فضائية دينية عن العقاب الألهى وغضب السماء، وسألتنى ريم إبنة أختى، إذا كان الله غاضبا من الكبار، فلماذا يغضب على ( العيال الصغيريين )، ولم يرد الشيخ على ريم، وتحدث خطيب مسجد الرحمة بشارع جسر السويس بالقاهرة أيضا عن غضب الجبار القادر وعن المعجزة الكبرى فى كون كل البلاد غرقت وبقيت المـأذن وحدها شاهدا لتدل على عظمة الإسلام !!.

إجمالا لم نسمع أصواتا، سمعنا صراخا يوظف الكارثة توظيفا خرافيا يكرس مفهوم الغضب والعقاب وذهب أحدهم فى ميكرفونه الى أن الكارثة غضب من الله حاق بأندونسيا لأنهم ولوا أمرهم إمرأة وهى السيدة ميجاواتى الرئيس السابق، لم نرى طحنا ولكننا سمعنا قعقعة، وتململ عن أناس كانوا فى أشد الحاجة الى الطحن والطحين. كعادتهم التى أورثتها إياهم ثقافتهم المريضة سكتوا فى مواطن البكاء وقعدوا حيث تنبغى المبادرة والنجدة، لا تزدهر قرائحهم وحناجرهم إلا عند كل مقتلة، هم فى جاهزية دائمة للصراخ ولطم الخدود من أجل إنفصالى الشيشان أو الفلبين أو كشمير، من أجل إنتحاريين زرقاويين، من أجل برنامج تيلفزيونى ليس على هواهم، بالأمس قتلتنا السيدة الكاتبة المصرية المتأسلمة بمقال فى " الشرق الأوسط " عدد 4 يناير ؛ عن المؤامرات الأمريكية والغزو الفكرى والمدرسة الأمريكية التى تتأمر بالقاهرة على عقول المسلمين، وكلام معلب منتهى الصلاحية يدغدغ المشاعر السطحية للدهماء ولم تنبس الكاتبة ببنت شفة عن المعذبين فى البرك والمستنقعات ومثلها فعل كل فصيل الصراخ والندب فى الإعلام العربى.

فى العام 1994 إستضافت إحدى النقابات المهنية المصرية التى قفز الإخوان الى قيادتها كاتبة وناشطة بوسنية إسمها سلمى اثمانيفيتش على ما أذكر، وكانت إحتفالية كبيرة بالكاتبة الهاربة من جحيم موستار وسراييفوا، وقف الطبيب الإخوانجى الشهير الذى تحول الى مناضل سياسى يخطب ويصرخ ثم قدم الأخت المجاهدة التى لم تكن تفهم العربية، وقفت السيدة ذات الملامح الأوربية والشعر المنسدل ممسكة بالميكرفون وجعلت تشرح باللغة الفرنسية التى كانت تجيدها العذاب اليومى وسط الثلوج والجوع والمذابح لأهل البوسنة، قالت أنه لاتوجد أجهزة تدفئة بسيطة أو بطاطين أو أدوية وتمنت على الحاضرين أن يرسلوا معونات من هذا النوع، وقالت: أبلغنا منذ شهر بوجود شحنة معونات كبيرة كتبرع من مجموعة من سيدات الخليج لأهالى البوسنة بميناء تركى، وقام الصليب الأحمر الدولى والهلال الأحمر التركى بجهود مضنية لإيصالها الى سراييفو عن طريق زغرب بكرواتيا فى رحلة معقدة عبر نقاط التفتيش إستمرت خمسة عشر يوما، وذهبت لجنة برئاسة السيدة زاهية زوجة نائب رئيس البوسنة على عزت بيجوفيتش لإستلام الحاويات المرسلة تمهيدا لتوزيعها، وعند فتحها صعقن لكونها عبارة عن رسائل من ايشاربات الحجاب والنقاب وسجاجيد صلاة ومصاحف مترجمة ومصاحف عربية وأشرطة تلاوة قرأنية وبعض البطاطين والملابس المستعملة، أسقط فى يد زوجة النائب التى كانت تتوقع أطنانا من الأغذية الجافة والألبان المجففة للأطفال والأدوية الأولية وأطنانا من البطاطين ومعدات تدفئة وأجهزة تعويضية لمن فقدوا أطرافهم، لكن شيئا من ذلك لم يكن موجودا بالحاويات المباركة، قبضت السيدة سلمى على الميكرفون وهى تستعطف أعضاء النقابة المصرية ؛ الذين حولوا اللقاء الى مؤتمر سياسى إسلامى، قالت السيدة سيلفوا بلية ثلاث مرات، أرجوكم لاترسلوا أشياء كهذه، أرسلوا أشياء تعيننا أولا على أن نبقى على قيد الحياة...!!!

حدث زلزال وطوفان تسونامى ولم نسمع لنقابة أو جمعية صوتا لا فى مصر ولا فى العالم العربى بأسره، هذه الجمعيات الفلاشية لاتلمع إلا فى أجواء الإحتقان والتهييج والتألييب، هذه الأصوات مشغولة بالكثير من ملفات التهييج واللطم والإثارة، إنهم يكافحون من أجل جماعات الإنفصال فى روسيا والهند والفلبين والأسكيمو والمريخ، يكافحون من أجل مجاهدى نحر الرؤرس فى العراق، يكافحون من أجهل مضطهدى الإيشارب فى فرنسا الباغية، يكافحون من أجل إستعادة مجد الأندلس لكى يصبح نادى ريال مدريد فى يوم من الأيام ناديا عربيا صرفا موحدا بالله.

قيادة مظاهرة تندد بتأمرالمحيط الهادى والقشرة الأرضية وتحالفهم مع راميسفيلد وكوندليزا رايس ضد المسلمين لن يصبح مجديا ومقنعا، قيادة مظاهرة تضامن مع ابو بكر باعشير ومفجرى بالى ضد الحكومة الأندونيسية أسهل بكثير من قيادة مظاهرة لمساعدة المنكوبين الأندونيسيين بتسونامى. لهم الله أولا وأخيرا، هو الوحيد القادر على تسخير اليابان والهند، وكوكا كولا، وفايزر، وميكروسوفت والداعية المجاهدة الأخت ساندرا بولوك لمساعدتهم، ودامت حناجرنا جهيرة عزيزة قوية.

[email protected].. كاتب من مصر