بوركت يا جارانج. بوركت أيها المناضل الشجاع، المُحنَّكْ الذي استطاع أن يفهم لعبة السياسة كما يجب ويوظفها لمصلحة شعبه المقهور. بوركت يا من استخدمت السلاح والتفاوض كل في وقته، فأجبرت الطاغوت أن يأتيك ساعياً ويجالسك ويبتسم لك وهو يكرهك، يبتسم لك بعد أن كان يتعالى عليك ويهددك! الطاغوت ومعه جيوش الدولة وجماهير من الرعاع الجهلة، وأكثرهم يختفي وراء ستارة الدين وعقولهم وقلوبهم مثل القنبلة الحارقة متخمة بالغل والحقد وبراكين العنصرية. ضمائرهم ماتت بسموم التطرف والخزعبلات. الذين خرجوا على مفاهيم الإسلام وأصروا على أن يقلبوا دين ناس الجنوب بالقوة، وان يعربوهم بالقوة، وفي نفس الوقت يبقوهم في مرتبة العبيد! أليسوا سوداً أصحاب رطانة؟!
سلطة الخرطوم العنصرية سفّاكة الدماء أحرقت قرى الجنوبيين بسكانها وشتتهم ظلماً وعدواناً مرة باسم الدين ومرة باسم الوطنية، وهاهم الآن يجلسون مذلولين مع شجعان الجنوب. هاهم يوقعون صاغرين اتفاقية السلام، ثم يعودون ليقيموا الحفلات في الخرطوم مدعين سعادتهم بالسلام؟ يا سلام! إن هذا السلام قبلوه صاغرين وقلوبهم في حسرة وأنوفهم مغروسة في التراب. أضاعت حكومات الخرطوم المتعالية سنوات وسنوات وسنوات في حروب عنصرية فانهار كل السودان في الفاقة والتخلف. تخيلوا أن الخرطوم العاصمة ليس فيها صرف صحي ولا شبكة مياه؟! تخيلوا أن الكهرباء موزعة على كل منطقة من مناطق العاصمة المثلثة مدة ساعتين في اليوم؟! تخيلوا أن المنطقة النوبية ليس فيها طريق معبد مثلها مثل مناطق الجنوب والشرق والغرب؟! كل هذا التخلف والسودان من أغنى دول العالم بثرواته المتنوعة وشعوبه التي يغلب عليها السماحة والطيبة وسلاسة المعاملة، حتى وقعوا تحت حكام الطيش من عسكر مدعين مشيخة فلوثوا ينابيع الشعب الطيبة. حكام الخرطوم يحتمون في تأويلات دينية ليبرروا دمويتهم وعنصريتهم ضد الجنوب بحجة أن الجنوب به نسبة غير مسلمة؟! بل لأنهم أي الجنوبيين غير عرب؟! وننظر في وجه من يدعوا العروبة، فإذا بهم سود والملامح الزنجية فيهم! وهم أنفسهم أدعياء الأصل العربي حين ذهبوا إلى الخليج العربي ليعملوا فيه، واجهتهم العنصرية البدوية التي اعتبرتهم عبيداً؟! وهم أنفسهم السودانيون المتحمسون للعروبة، حين دخلوا الجامعة العربية جوبهوا بالرفض من لبنان خاصة على أن السودان سود الوجوه افريكان! بل قال مسئول لبناني.. ما نريد عبيد! طبعاً كان المسئولون السودانيون وقتها من الشمال وليس من الجنوب.
الآن السلطة في الخرطوم تقيم الأفراح وكأنها كانت من الأصل تسعى للسلام! جهازها الإعلامي الساذج يمتلئ بالأناشيد وهتافات للتنوع الثري في السودان! الآن! الآن وبعد حروب نصف قرن؟! الآن وبعد أن لامست نصال الثوار رقابكم تنادون بالسلام ثم تدعون أنكم حكام سلام؟! يوما ما عله قريب سوف تتم محاكمتكم بسبب ضياع ألوف الألوف من الأنفس في مقتلة غبية، يوما ما عله قريب سوف تتم محاكمتكم بسبب المليارات التي ضاعت هباء منثوراً.
نعود لجون جارانج.. تقدم أيها القديس حامل راية الحق بالسلم وبالسلاح. أنت الجانب المكمل للقديس العظيم نيلسون مانديلا. أنت الجانب الافريقي من المهاتما غاندي، فلك قضية لها ظروفها وكل شعب له ظروفه وكل بيئة لها ظروفها، بل كل زمن وله ظروفه. وكل منكم أخذ معطيات شعبه وبيئته وأحوال العالم من حوله، ثم خرج بالأسلوب الأمثل، ومع أبناء وطنه الثوار حقق طموحات شعبه. لك التقدير والاحترام أنت وكل المناضلين الذين معك، أنت وكل مناضلين دارفور والمناضلين في الشرقية والشمالية. فليكن دين المناضل ما يكون.. ليكن مسيحياً أو مسلماً أو يهوديا أو بوذياً، ليكن ما يكون لكن في أول الأمر ليكن وطنياً منتمياً لشعبه الخاص المضطهد ثم لوطنه الكبير حين يعترف وطنه الكبير بخصوصية إقليمه الثائر، بخصوصية شعبه ويعاملهم على أنهم مواطنون مثلهم مثل غيرهم، ويتم تعويض شعبه عن كل العذاب الذي عاناه، وبعدها، وبعدها فقط يضع السلاح ويسترخي.
جارانج أنت وكل المناضلين الأمازيغ والأكراد والشيعة والتركمان والمسيحيين عامة والأقباط في مصر خاصة والنوبيين وكل أقلية في هذه البركة الآسنة العنصرية، البِركة المتخلفة من قرون التخلف من الخليج إلى المحيط، بوركت أنت وكل الأبطال المناضلون ضد المشعوذين باسم الإسلام والإسلام منهم بريء، الإسلام السامي المحب للإنسان، والمدرك لحريته ومسئوليته برئ من دمويتهم وطغيانهم وانغلاقهم وقنابلهم وخناجرهم وتأويلاتهم المسمومة.
أقول.. الأقليات في الشرق الأوسط سيكون عليها أن تزلزل هذا الجمود الفكري الذي تحول إلى عطن. الأقليات بتنويعاتها عليها أن توقظ هذه المنطقة من أثقالها الغبية وتحرك الفكر لتنطلق وتلحق بالعالم من حولها الذي ينطلق بسرعة الليزر.
حكام المنطقة الطغاة من كان منهم يرتدي بذلة افرنجية ومن يرتدي العقال ومن يرتدي العمامة ومن يضع خنجراً في وسطه، كلهم، كلهم طغاة ولن يتزلزلوا إلا بالقوة. كلهم شرسون ولن يتواضعوا ثم يركعوا خانعين إلا إذا جابههم أمثال جارانج ومانديلا والشاعر النيجيري المشنوق كين سراويوا.
بوركت يا جارنج أنت وشعبك الجنوبي السوداني وكل الأقليات التي تصر أن تكون مواطنتها من الدرجة الأولى وتنال خصوصيتهم مكانتها، وترفض أن تكون مجرد رعايا وتحت رحمة الأغلبيات العنصرية الطاغية، وترفض أن تتلقي الفتات تحت راية التسامح الكاذب.
أقول لقومي النوبيين.. متى يظهر فينا جون جارانج ويستطيع مغالبة حكومات مصر التي تضطهدنا من سنوات وسنوات وتجلب غيرنا ليستولى على موطننا؟ متى يكون لنا مركز حقوق إنسان يدافع عنا؟ متى يكون مؤتمرنا النوبي الأول؟ أقباط مصر يدفعون الآن ثمن نيل حريتهم الدينية وثمن نيل حقوقهم كمواطنين مصريين، وإن كان بهم الآن اندفاع وعصبية، فكل هذا ردود أفعال للظلم العظيم الذي وقع ويقع عليهم من قرون وليس الآن كما يدعي البعض، ومن يتشكك فليقرأ التاريخ بأقلام المنصفين، فليقرأ كتاب هوامش الفتح العربي لمصر، تأليف سناء المصري. وحين يستمع المسئولون للأقباط ويتخذوا خطوات جادة لبناء الثقة، سوف يؤكد الأقباط أنهم يعملون على حل القضية القبطية من داخل الإصلاح المصري عامة، أي جزء من كل، وهذا ما أتمناه للقضية النوبية، أن تتم خطوات بناء الثقة حتى يقتنع النوبيون أنهم فعلاً مواطنون مصريون مثلهم مثل مهجري قناة السويس على وجه المثال، وأن ما قدموه من تضحيات لمصر لن يضيع هباء وينتهي الجحود البشع الذي يتجرعونه، يطمئنون بأنهم سينالون حقوقهم كاملة، حينها سوف يصرون ويؤكدون أن حل القضية النوبية يجب أن يكون من داخل عملية الإصلاح التي يجب أن تتم في مصر ومن داخل مصر. ونفس الشيء تماماً على نوبي السودان. فلا يوجد نوبي يقبل ضرر لأي من البلدين، بل كل نوبي يأمل في تكامل وتقدم شامل لهما معا، ثم لهما معاً ومع بقية بلدان حوض وادي النيل وكل الجنوب الافريقي.
دفعت يا جارانج الثمن ودفع قومك الثمن، حينما تجبر عليكم حكام الخرطوم الطواغيت، بل واجبرتموهم على أن يدفعوا هم أيضاً ثمن طغيانهم عليكم فزلزلتم قواعدهم الواهية وفضحتموهم في كل أنحاء العالم. دفعت يا جارانج ودفع شعبك الثمن الباهظ لنيل الحرية ولهذا كان نجاحك. ومن يرفض دفع الثمن لن ينال نجاحاً، بل يستكفي بالبكاء والنحيب واستجداء الشفقة، والعالم لا يشفق على جبان، العالم يعجب بالشجاع العاقل الذي يريد حقوقه ولا يريد إرهاباً ولا ضرراً، الشجاع العاقل الذي يعترف بميراث الإنسانية كلها ويؤيد كل تنوعات الشعوب العرقية والعقائدية والفكرية، يؤيد كل تنوعات الشعوب الثقافية.
العالم يتحمس لمن ينهض ويحمل رايته ويكون مستعداً للتضحية بنفسه أولاً، وبعدها يساعده العالم.
دمت بنورك يا جارانج ودام شعبك الجنوبي الإفريقي العظيم.
حجاج حسن أدّول
أديب نوبي مصري
[email protected]