قرأت قصة جميلة ذكرها الدكتور أحمد صبحى منصور فى احدى مقالاته، ونظرا لعلاقتها بعض الشىء بموضوع الدكتور زغلول فقد رأينا أن نبدأ بها تمهيدا لما نود أن نتحدث فيه فى هذه الحلقة:
فى عصر الخليفة المأمون كان الشاعر العتابى يسير فى شوارع بغداد، فدخل السوق وهو يأكل الطعام، وكان ذلك يخالف المروءة أو" الاتيكيت" لدى ارباب الطبقة العليا، ولذلك احتج عليه صديقه قائلا "أتأكل الطعام فى السوق ويراك الناس؟" فقال له العتابى ساخرا: "وهل اولئك ناس؟انهم بقر"، فاحتج صديق العتابى وزمجر، فقال له العتابى: "سأريك ان كانوا ناسا أم بقرا" ثم صعد الى الربوة ونادى فى الناس"ياقوم هلموا أحدثكم عن رسول الله(صلى الله عليه وسلم )، فتدافع اليه الناس واجتمعوا حوله، واقبل يحدثهم يقول: روى فلان عن فلان عن فلان ان رسول الله. (صلى الله عليه وسلم)قال. وظل يخرج من حديث الى أخر وقد تعلقت به العقول والقلوب والعيون، وسيطر على المستمعين، اذا حرك يده يمينا تحركت رؤوسهم يمينا، واذا أومأ برأسه يسارا التفتوا يسارا،
الى أن قال لهم... وروى غير واحد(اى أكثر من واحد)أنه صلى الله عليه وسلم قال : اذا بلغ لسان احدكم ارنبة انفه دخل الجنة))وسكت... فاذا بكل واحد من المستمعين يخرج لسانه يحاول ان يصل به الى ٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍانفه، واصبح منظرهم جميعا مضحكا، فالتفت العتابى الى صديقه ساخرا وقال: ألم اقل لك انهم بقر؟
انتهت قصة الدكتور أحمد صبحى منصور.
نعود لدراستنا عن كتابات الدكتور زغلول النجار و ابداعاته المعرفية.
بتاريخ 17 يناير 2005 كتب الدكتور زغلول النجار ما يلى:
"وحينما قرأ المستشرقون هذه الأحاديث النبوية الشريفة ظنوا الحجر الأسعد قطعة من البازلت الذي جرفته السيول من الحرات المجاورة وألقت به إلي منخفض مكة المكرمة.
ومن أجل اثبات ذلك استأجرت الجمعية الملكية الجغرافية البريطانية ضابطا بريطانيا باسم ريتشارد فرانسيس بيرتونRichardFrancisBurton جاء إلي الحجاز في هيئة حاج افغاني، وذلك في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي(1269 هـ/1853 م) بهدف سرقة جزء من الحجر الأسود والفرار به إلي بريطانيا، وبالفعل تم له ذلك، وبدراسة العينة المسروقة ثبت أنها من أحجار السماء، لأنها تشبه احجار النيازك، وإن تميزت بتركيب كيميائي ومعدني خاص، وكان هذا الاكتشاف سببا في إسلامه، وقد سجل قصته في كتاب من جزءين بعنوان رحلة إلي مكة(AJourneyToMecca)، وتوفي بيرتون في سنة1890
م/1308 هـ."
وبادىء ذى بدء لابد لنا من شكر الدكتور على ايراده هذا الكم المكثف من المعلومات، كما يسعدنا كذلك ان نستغل المناسبة فى شكر جريدة الأهرام القاهرية على خدماتها الجليلة لعقل القارىء العربى باطلاق الدكتور زغلول النجار عليه..، و بعد..
بالفعل كما ذكر سيادته، جاء الضابط والمستكشف والرحالة ريتشارد فرانسيس بيرتون الى مكة فى الوقت الذى ذكره متنكرا فى هيئة حاج أفغانى، لكن ما عدا ذلك من المعلومات مما ذكره به كثير من الباطل وعلاقته بالواقع لا تخرج عن كونها فبركة سينمائية ولى للحقائق..
1- الجمعية الملكية الجغرافية البريطانية لم تستأجره و انما هو الذى عرض الفكرة أن يذهب فى رحلة استكشافية الى شبه الجزيرة العربية..
2- لم يكن الهدف من رحلته الكشف عن الحجر الأسود كما ادعى العلامة، بل اننا لا نبالغ عندما نقول ان الحجر الأسود لا علاقة له برحلة هذا المستكشف، بل الهدف كما يقول هو فى كتابه مجموعة أشياء أغلبها استكشافى فى المقام الأول ( راجع المصدر الأول ص 1 حتى ص 5 )
3- لم يقم الرحالة البريطانى بسرقة جزء من الحجر الأسود كما ادعى الدكتور زغلول النجار، حدوتة السرقة جزء من الفبركة الدرامية التى أراد سيادته أن يلعب بها على أوتار مشاعر القارىء، ولتفاصيل تجربته مع الحجر الأسود راجع المصدر الثانى من ص 300 حتى ص 303.
4- علق الرحالة البريطانى على الحجر الأسود "بينما كننا نقبل الحجر تفحصته بدقة، و ابتعدت وأنا مقتنع أنه من أحجار النيازك، لكن الملفت للنظر أن أغلب الرحالة أجمعوا على أنه من الأحجار البركانية"(المصدر الثانى ص 169)، و فى موضع آخر "لن أتعرض هنا للأصل الخرافى للحجر الأسود، بعض الاعتقدات بخصوص هذا الحجر حقا منافية للعقل(absurd) " (مصدر 2 ص 300)، و فى نفس الصفحة أضاف "أرى أنه حجر نيزك مألوف"، و هو هنا يورد رأيه أن الحجر مجرد نيزك معتاد(common areolite) أى من أحجار السماء كما ذكر الدكتور زغلول، لكنه لم يذكرها بالانبهار الذى حاول الدكتور زغلول ان يمرره للقارىء، عندما ألمح ان الحجر به شيئا اعجازيا الهيا، الرحالة البريطانى لم يقل هذا ولم يشعر بهذا.
5 - لم يذكر سيادته من الذى قام بدراسة العينة التى ادعى أنها مسروقة، و هل الجمعية الجغرافية الملكية لديها معامل لتحليل الأحجار؟ و ما هو التركيب الكيميائى والمعدنى الخاص الذى تميزت به تلك العينة التى يتحدث عنها؟ هل معنى ذلك أن هذا التركيب المعدنى لا يوجد مثيل له فى الكون؟
6- نظرا لأن الرحالة لم يكتشف أن الحجر الأسود من أحجار السماء كما ادعى الدكتور زغلول النجار، فهو لم يعلن اسلامه، والقبر الذى دفن فيه فى لندن فى مدافن الكاثوليك بمورتليك (mortlake) يحمل صليبا ( المصدر الأول ص 1 - المصدر الثالث ص 362)، و موضوع ديانة الرحالة الانجليزى أمر محير جدا فشل الكثيرون فى الجزم به، لكنه بالتأكيد ليس بالسذاجة التى صوره بها الدكتور، ولمزيد من التفاصيل عن حياة الرحالة وديانته راجع المصدر الثالث.
7- الكتاب الذى نقل فيه ريتشارد بيرتون تفاصيل رحلته اسمه "A Personal Narrative of Pilgrimage to Al-Madinah and Meccah"، و ليس كما ذكر العلامة (AJourneyToMecca) و بما أنه عالم و حامل لدرجة الدكتوراة، فهو بالتأكيد يعرف قيمة اسم أى مرجع يذكره أى باحث فى أى عمل يقوم به، و الفرق بين الاثنين واضح لا يحتاج لقوة ملاحظة!
والملفت للنظر هنا أنه وقع فى هذه الأخطاء فى فقرة صغيرة لا تقارن بحجم ما يكتب أسبوعيا، وهو من هو، على الأقل اذا نظرنا له كحامل لدرجة الدكتوراة، فماذا لو تخيلنا أن تلميذا فى الصف الخامس الابتدائى كتب فقرة بنفس المساحة و أخطأ عددا مماثلا من الأخطاء المعلوماتية، هل سينجح و يتم نقله للصف السادس الابتدائى؟
وعودة مرة اخرى لقصة الدكتور أحمد صبحى منصور، و التى تدور أحداثها فى عصر الخليفة العباسى المأمون(198-218ه/813-833م) منذ نحو اثنى عشر قرنا، هل ينطبق نفس الكلام على الواقع الذى نعيش فيه اليوم؟ لن نتعرض للاجابة هنا، بل سنتركها لعقل و ضمير القارىء.. يحددها بنفسه..
و السؤال يبقى هل القارىء العادى يعرف أن كثير من معلومات الدكتور، فى أهون الأحوال، خاطئة وغير صحيحة؟ اذا كان لا يعرف فنحن محقين فى وصفنا لما يمر به العقل العربى بأنه نكبة، واذا كان يعرف، فقد أخطأنا فى الوصف، لأن الأمر فى هذه الحالة أكبر بكثير من كلمة نكبة..
ليس ما كتبت هنا للشماتة، بل للحسرة و الحزن على ما أصاب العقل العربى، بحيث يبدو لى أن البعض اذا قال أى شىء من نوعية "ريان يا فجل" سيجد من يقتنع حقا بانه "ريان يا فجل"، و يبدو كذلك ان الكلام الذى نسمعه كثيرا عن العقل العربى، أنه مغيب و يسبح فى بحور من الأكاذيب وعلى استعداد لتلقى أى شىء يلقى له باسم الدين،.. هذا الكلام مع الأسف يبدو صحيحا.. بصورة تبعث على الأسف و الحزن و الأسى، وهى صورة حقا قاتمة وتوضح لنا حجم النكبة التى يمر بها هذا العقل..
عماد سمير عوض
المصادر :
1-A Personal Narrative of Pilgrimage to Al-Madinah and Meccah volume I
Francis Richard Burton
Dover Publications
سرد شخصى لرحلة حج الى المدينة و مكة - الجزء الأول
2- A Personal Narrative of Pilgrimage to Al-Madinah and Meccah volume II
Francis Richard Burton
Dover Publications
سرد شخصى لرحلة حج الى المدينة و مكة - الجزء الثانى
3- Captain Sir Francis Richard Burton - A Biography
Edward Price
Da Capo Press- New York
كابتن سير ريتشارد فرانسيس بيرتون - قصة حياته
- آخر تحديث :




التعليقات