اعتقد وربما يوافقني في الرأي كثيرون ان بعضا من اعضاء الاكاديمية المختصة بمنح جائزة نوبل للسلام يشعر بنوع من تأنيب الضمير كونه كان جزءا من قرار تلك الاكاديمية في حجب تلك الجائزة وعدم منحها لقداسة البابا يوحنا بولص الثاني اثناء حياته. يقينا ان البابا لم يكن بحاجة الى تلك الجائزة في قيمتها المادية او المعنوية بل ربما ان الجائزة كانت بحاجة اليه اصلا لتاكيد مصداقيتها بعد ان كثرت الشبهات حول الدوافع السياسية التي على اساسها اصبحت تُمنح هذه الجائزة. قد يتعذر اعضاء تلك الاكاديمية في انهم ارادوا ابعاد الصبغة الدينية عن الجائزة عندما حجبوها عن البابا ولكن الرجل كان مثالا في تجسيد الشروط التي يجب ان يتمتع اي مرشح لها، حيث اذا كان بعضا مِمًن مُنح هذه الجائزة قد استحقها كونه قد كرًس جزءا من حياته للسلام فان البابا قد وهب جلً حياته قولا وفعلا من اجل ارساء اسس المحبة والتعايش السلمي في ارجاء المعمورة.

لكن البابا توًج حياته حقا بالعشرات من جوائز نوبل للسلام وهي تمنح له ( شعبيا ) من خلال المشاعر الصادقة التي ابداها العشرات لا بل مئات الملايين من مختلف الاديان والمذاهب والالوان تجاهه وهو يعيش ساعاته الاخيرة. ان عشرات الالاف من الذين تجمعوا في ساحة القديس بطرس ليسهروا على امل ان يصحى الحبر الاعظم فيلقوا عليه تحية الصباح لم تسوقهم قوى الاستخبارات والامن قسرا الى ذالك المكان بل ان الكثير منهم ممًن يعتقد ان زمن الاعجوبات قد انتهى وان البابا ( قد بلغ من العمر عتيا ) وان النهاية قد اصبحت اقرب من اي وقت مضى بسبب المشاكل الصحية الكبيرة التي يعاني قداسته منها، قد توجه الى ذالك المكان و ساقته قدماه لااراديا الى تلك الساحة ليسجل في حياته انه انتصر في لحظة من اللحظات لقيم ومبادئ عمل من اجلها الحبر الاعظم عقودا من السنين.

تساءل جبران يوما فقال " هل يتعزى كسير القلب بصاحب القلب الكسير؟ أم هل يعطي الفقير الجائع خبزه للجائع الفقير؟". لقد كان الكثيرون يشاهدون علامات الوهن الجسدي على قداسة البابا في المراحل الاخيرة من حياته فكان يبدو كسير القلب فقيرا للحياة لكن الملايين من امثاله كسيري القلوب والفقراء الجياع لم يفقدوا ولو لحظة الامل والثقة في ان عزائهم لديه. لم يستعمل البابا قط اسلوب الترهيب والترغيب، الذي اعتاد الكثيرون على استخدامه، في كسب من كسبهم، لم يفكر يوما في تخصيب اليورانيوم او تصنيع الخردل وغاز الاعصاب كوسائل للحصول على الحب والموالاة عن طريق الابتزاز، لم ينشأ جيشا عرمرم ولذالك لم تُحشد الولايات المتحدة مجلس الامن عليه للمطالبة بنزع سلاحه، لم يُرسل المخبرين والجواسيس الى كل المقاهي والاماكن العامة يجلسون هناك عيونهم على عناوين صحف الصباح واذانهم الخمس جاهزة لالتقاط ما يتفوه به عباد الله، لم يهب قرشا واحدا للحصول على اصوات الناخبين كما لم يكافئ ماديا احدا من الذين خرجوا في مظاهرات المحبة والتكريم لقداسته بل كان يجمع منهم لغيرهم." كان يجول في الارض يصنع خيرا" ويوزع البركات، كان يبيع البركات وكثيرون يشترون. كان ريشة في مهب الريح، لقد تساءلت واجابت غادة السمان في يوم ما عندما كتبت " من قال ان ريشة في مهب الريح ليست احسن من حصاة في نهر راكد؟. ذهب البابا الى من أطلق يوما الرصاص عليه محاولا اغتياله فزاره في سجنه في مشهد قلً نظيره حيث اجتمع الجاني مع ضحيته وانعقدت جلسة عتاب وتسامح رهيب لان قداسته يؤمن حتى النخاع " ان أنقياء القلب سيرون الله وان الودعاء يرثون الارض وان الرحماء يُرحمون".

ذهب البابا الى الجميع ودعا الجميع اليه، صلى بكل اللغات وزار المسجد والمعبد الى جانب الكنيسة، كان بطلا لحوار الاديان والحضارات، شعر بالالم لفقدانه الازهر والارثوذكسيون والبوذيون والشيوعيون السابقون، دعى الى السلام في كل مكان، في العراق، في كوسوفو، في فلسطين. لم تكن لديه قدرة مادية لمنع حدوث الحرب في العراق ولذالك عندما بدأ يسمع الاطراف المتصارعة ينشد كل بلغته انشودة ( إحنا مشينا للحرب --- ) استخدم قداسته سلاحه الاخير فاطلق حمامات السلام من شرفة جناحه في الفاتيكان وذكًر المتصارعين ان صانعي السلام " ابناء الله " يُدعون. ولكن هيهات لاهل الخردل وغاز الاعصاب واليورانيوم المنضب ان يخطر ببالهم في ان يصنعوا السلام.

قداسة البابا يوحنا بولس الثاني، الشيخ زايد بن سلطان ال نهيان، غاندي والام تيريزا وكثيرون اخرون امنوا" ان الموت حق وان كل من عليها فان ولايبقى إلا وجه ربك ذو الجلال والاكرام " فاختاروا جميعا امتلاك اسلحة الحب الشامل والكلمة الطيبة والفعل النبيل فاصطادوا الملايين الذين قرروا ان يجعلوا مسكنهم القلب وتضم ذكراهم حنايا الصدور بينما حاول اخرون ان يشيعوا حبهم " بالرشوة والقوة " فدخل ذالك الحب من الباب وهرب سريعا من الشباك فهل سيكون رحيل البابا عبرة للاخرين.

[email protected]