الضحية مذنبة والمجرم معذور
التحرش الجنسي ..جريمة بلا عقاب

إيلاف: من هذا المجتمع الذي يسعى و بشتى الأساليب والطرق إلى تحسين صورته بشكل مستمر تطل "الفضيحة " برأسها بخجل ، هذه الفضيحة التي يمنع الإعتراف بوجودها. وفي حال تجاوزت الممنوعات الكثيرة التي احاطتها فإن الحل و الحكم مسبقان مهما اختلفت الأسباب و الحثيات المحيطة بها.فأي مناقشة موضوعية عن التحرش الجنسي مرفوضة وأي افصاح عن تجربة سيئة محصور بالأم أو الشقيقة أو الصديقة ، لينتهي الإرهاب الجسدي هناك .هذا الإرهاب الجسدي الذي ولسبب ما يمارس على جميع الفتيات و النساء بمختلف درجاته وأشكاله .
وفي مجتمع لا يمكن الإجهار فيه بعلاقة جنسية طبيعية ، تتستر "التحرشات الجنسية " بإستياء وخجل و خوف الضحايا ، والنتيجة مساحة أوسع لممارستها ، وأذى أكبر للمتعرضين لها .

ما هو التحرش الجنسي:


التحرش الجنسي وببساطة هو ما يطال النساء فقط ، وإن كان بعض الرجال يتعرضن له وإنما في حالات نادرة جدا . في الوقت الذي يعتبر بعض علماء الإجتماع أن التحرش هو عمل واع مقصود يقدم عليه إنسان مهووس لنزعة جنسية أو شهوة يسعى إلى تنفيسها بأساليب مختلفة عبر "تخطي" المساحة الخاصة للمرأة ، يميل البعض الآخر إلى استبعاد الدافع الجنسي .فالتحرش في هذه الحالة ينبع من علاقات التسلط والسلطة والرغبة في إذلال وإهانة الطرف الآخر .. المرأة.من هنا فإن أي سلوك جنسي يأخذ شرعيته من الفوقية السلطوية الإجتماعية والسياسية والثقافية الذكورية .
هذه "الظاهرة " التي تدخل في دائرة المسكوت عنها إجتماعيا وسياسيا تعيشها المرأة يوميا في الشارع وفي وسائل النقل وفي المؤسسة التي تعمل فيها وأحيانا في البيت ، يمكن تقسيمها الى أنواع ودرجات فمنها البصري والسمعي و الجسدي المباشر .
إذن هناك أنواع مختلفة يختلف تأثيرها باختلاف درجات القرب الجسدي .فعبارات "التلطيش " في الشارع التي تطال كرامة الفتاة أو توصف جسدها بطريقة مهينة تزعجها ، وهنا يتداخل البصري مع السمعي، تعد تحرشات . الا أن الضحية في هذه الحالات قد تتأثر لبعض الوقت ومن ثم تنسى أو تتناسى ما سمعته ، الأمر الذي ينطبق على المعاكسات الهاتفية والتي تكتسب صفة التحرش حين تتحول إلى الحاحات و اتصالات متكررة .
أما التقارب الجسدي ، وهو الأكثر ضررا من السمعي والبصري ،فينتشر وبكثرة في وسائل النقل العام بالدرجة الأولى . هذا المكان الذي يضمن كثافة بشرية تحول دون إعتراض الهدف وتؤمن في الوقت عينه التقارب الذي يسعى له من دون إثارة أي شبهات .كما تنتشر الظاهرة نفسها في أماكن العمل و المنازل ، بمعنى آخر الاماكان التي تمارس فيه السلطوية الذكورية .

فلتحتشم ..

كما جرت العادة في المجتمعات الشرقية ، فإن المرأة هي المسؤولة عن أي تصرف "ملتو " يقوم به الرجل .. فمن يقدم على التحرش الجنسي قد يشار اليه بكلمة "مهووس" ، مقابل الضحية التي تعتبر المسؤولة الوحيدة عن الاسباب التي دفعت الرجل إلى هذا التصرف .
وفي الوقت الذي يلقى فيه المجتمع ، وخاصة الذكوري منه ، باللوم على شكل و ملابس و تصرفات النساء ، تبرز الاحصائيات التي تؤكد أن التحرشات لا تطال اللواتي يلبسن من الملابس قليلها ، وإنما تطال المحجبات ايضا . حسنا ، فهو لا علاقة له بشكل مباشر بمظهر أو عري المرأة ، وانما نابع من اختزال شخصها في جسدها والنظر إليها كموضوع جنسي لا أكثر أي أن الصورة التي يرسمها عن المرأة - إنها أداة للجنس - تدفعه الى التحرش بها .ولو سملنا جدلا ان المرأة قررت عدم الخوض في أي إختلاط إجتماعي ، والبقاء في منزلها ،ألم تثبت الاحصائيات وقوع حالات لا تعد ولا تحصى من التحرشات داخل المنازل ؟ فأين تذهب هذه المرأة .. إلى كوكب النساء فقط !
الوضع هو كالتالي ، تخرج الانثى إلى الشارع لتجد " عددا لا يعد ولا يحصى " من المعاكسات ، الكلامية والبصرية ناهيك عن التحسسات واللمسات . وحين تصل إلى عملها لتؤدي وظيفتها ، تحاول جاهدة السكوت عن كل ما قد يحصل لها ، لتعود إلى منزلها مجددا صامتة ومتسترة عن أي حادثة قد تكون تعرضت لها .
بإختصار المرأة تتعرض للتحرشات في اي مكان تختلط فيه اجتماعيا ، وفي حال أفصحت عما يدور فهي السبب الذي دفع الرجل الى ذلك . فيتم اتهامها بالقيام بتصرفات معينة فسحت له المجال أو أنها لم تحتشم كفاية بالتالي توجيه دعوة مفتوحة لمن يريد أن يتحرش ما يطرح سؤالا ، هل المجتمعات التي لا عري فيها أوجدت الفضيلة ؟ ام ان الفضيلة هي التي تدفع الى الترفع عن كل هذه الأمور واحترام حقوق وقدسية جسد الآخر وعدم محاولة اهانته بأي شكل من الأشكال .
هذا التحليل المعمم يفضح الخلل الذي تعاني منه المجتمعات الشرقية ،فلوم المرأة نابع من النظرة الدونية لها وإعتبارها كتابع وأن الرجل هو السيد فلا يخطئ وإن اخطأ فلا عتاب عليه .وبغض النظر عن سلوك المرأة أو مظهرها الخارجي ، التحرش هو فعل جرمي والرجل ملزم دينيا وقانونيا بعدم اقترافه .الخطوة الاولى للحد من هذه الظاهرة هو رفع المسؤولية عن الضحية وتحميل "المذنب " ذنب فعلته .. يليها ضرورة إفصاح المرأة عن الحادثة كي يعاقب المجرم قانونيا ، إلا أن المشكلة الاساسية تتمحور حول عدم الافصاح .
أسباب التكتم :

ما هي الأسباب التي قد تدفع بشخص تعرض لاذى نفسي أو معنوي أو جسدي إلى عدم الرد على هذا أو المطالبة بمعاقبة الجاني ؟وما هي الأسباب التي تلزم الضحية بمعاناة صامتة لأن الإجهار سيجعل منها المجرمة ؟ الجواب وببساطة هي المجتمعات الشرقية بكل مفاهيمها . فهذه المرأة التي حددت مكانتها بدرجات أدنى من الرجل مرغمة على الخضوع التام لذكورية السيد وكأنها ملك له فيتم التعريف عنها على سبيل المثال بزوجة فلان أو إبنة فلان .وبالتالي عليها التقيد بالقوانين التي تراعي صورته ولو كان الصمت إنتهاكا لكرامتها وجسدها . وإنطلاقا من الصورة الإجتماعية المرسومة للمرأة والرجل فالتستر يبدو افضل الحلول مقارنة "بالعار" الذي سيلحق بالعائلة .
وفي حال تخطت المرأة العقبة الأولى وقررت "التبليغ" عن انتهاك تعرضت له ، فإن النبذ الإجتماعي لها بالمرصاد وكأن تبرير "الغريزة" أو الإثارة الجنسية هو حل لكل المعضلة . فإن كانت التجارب أثبتت أن الحيوان قادر على التحكم بغريزته ، فكيف يمكن "لإنسان " واع يفكر ويحلل الا يتحكم بها .السلاح المعتمد هو دفع المرأة الى الشعور بالذنب ، أي أن التحرش تم بسبب مظهرها او طريقة تصرفاتها او تواجدها في مكان لا ينبغي ان تتواجد فيه ، في المقابل تبرز التقارير والاحصائيات لتؤكد ان التحرش لا علاقة له بمظهر او تصرفات المرأة وانما نابع من خلل ما عند الرجل . نقطة بديهية لا تحتاج الى مناقشة ، لانه لو كانت المرأة هي التي تحاول اثارة الرجل ودفعه الى التحرش بها لما توقف الامر عند لمسات ولم كلف نفسه جهد الاغتصاب .. لكان فعل جنسي طبيعي برضى الطرفين . الاولى اغوت الثاني وحصلت على ما تريد . معادلة غاية في البساطة ، وعلى الرغم من ذلك يحاول المجتمع قلب المعادلة والتخلي عن اي منطقية والقاء اللوم على الانثى .
وفي ظل استمرار الصمت ، فمن سيوقف هذا المجرم عن ارتكاب جريمة اخرى بحق الكثيرات .. هل هي القوانين ؟ هل هناك قوانين تحمي المرأة في الوقت الذي لم تجد فيه الحماية من خلال اعراف مجتمعها الشرقي ؟

من يحمي المرأة ..

من المنطقي بمكان ان تتمكن الضحية من اللجوء الى القضاء من اجل تحصيل حقها ومعاقبة المجرم ، مفهوم شائع ومطبق في كل المجتمعات . الا ان للقوانين وعلاقاتها بالتحرش الجنسي قصة مختلفة . ففي مناخ اجتماعي و ثقافي لا يساوي بين المرأة والرجل فان الضحية هنا في موقف الاضعف وغير قادرة على انتزاع الحق القانوني لردع المعتدي بطريقة تكفل عدم تكرار هذا الفعل .. فعدم التكافؤ يحول دون لجوء المرأة الى القانون للمطالبة بحق اقرته الاحكام التشريعية الاسلامية والشرائع السماوية ومبادئ حقوق الانسان . وفي حال قامت المرأة باللجوء الى القانون ، فالعقبة الجديدة هي اثبات ان التحرش المعنوي او الجسدي قد تم ، فكيف تثبت احداهن ان هذا الشخص هو الذي قام بملامسة جسدها او حتى اغتصابها . امر غاية في الصعوبة في ظل قوانين لا تزال مجحفة بحق المرأة .. فالمناخ العام في الاطار القانوني يفضل احيانا الا تلجأ المرأة الى القضاء وادلاء شهادتها مرة تلو الاخرى لان في ذلك ايذاء مضاعف لها في حال لم تتمكن من اثبات افادتها .
. اما التعريف القانوني للتحرش فهو عمل مشين أو تهديد هدفه إجبار شخص على القيام بأعمال ذات طابع جنسي. كما قد يكون تصرف متكرر (شفهيا, كتابيا, سلوكيا أو بأي طريقة أخرى) له طابع جنسي، موجه ضد شخص أوضح للمتحرش رفضه التام للفعل الموجه ضده .وبالتالي فان كل تحرش جنسي هو مخالفة جنائية يمكن للضحية تقديم شكوى ضد المتحرش على ان يتم التحقيق في الامر وتقديم لائحة اتهام ضده في حال وجود أدلة كافية. الخطوة التي تلي الابلاغ هي رفع قضية مدنية الى المحكمة ومطالبة المتحرش او المتحرشة بدفع تعويضات. وفي حال ثبوت واقعة التحرش الجنسي، باستطاعة المحكمة فرض تعويض مالي او عقوبة بالحبس .
اذن المرحلة الاساسية في "رد الاعتبار" ومعاقبة المجرم هي الاثبات .. الامر الاصعب .وبين توسع هامش عدم القدرة على الاثبات وما ينتظر المرأة من معاناة في حال ابلاغها وفشلها في الحصول على الادلة الكافية ، كان الصمت والتستر .
.. وختاما ، لنطرح الوضع كما هو ، إن المرأة العربية واعية تماما انها ملامة على فعل اجرامي مرضي قام به الرجل ، بالابلاغ لدى المحكمة عن تحرش تعرضت له لو لم تكن تعرضت لذلك فعلا . المطلوب هنا ليس الغاء القوانين وانما ايجاد صيغة معينة لحماية هذه المرأة التي لم تجد الحد الادنى من الحماية في مجتمعها ان تعتمد على سلطة اعلى قادرة على معاقبة المجرم والترفع عن الصاق العار بها لانها اعترضت على انتهاك تعرض له جسدها .