مكتبة إيلاف (10)

تقديم وترجمة: خالدة حامد

تقديم:
استشراق أم... استرقاق؟


إن طبيعة الاستشراق، واستمرار الاهتمام به تبقى من الأمور التي تثير كثيراً من الجدل حتى يومنا هذا ؛ فقد شهد القرن التاسع عشر اهتماماً متزايداً من جانب المستشرقين الأوربيين بالطقوس والشعائر التي تجري في العالم العربي عموماً، وفي بلدان المغرب على وجه الخصوص. وغير خافٍ أن المغرب العربي كان، منذ مطلع ذلك القرن، هدفاً للمطامع الاستعمارية التي جاءت بأشكال مختلفة لعل من أبرزها احتلال الجزائر عام 1830، والادعاء بأنها " جزء من فرنسا ". وإذا كانت الظروف السابقة قد شكلت الإطار الذي تتحرك بداخله موضوعة الاستشراق، نجد أن هذا الموضوع يكتسب أهمية بالغة نظراً للدور الخطير الذي تلعبه الدوائر الاستعمارية.
وتميز ذلك القرن بتنامي اتجاهات ثلاثة تجلت بوضوح صارخ: شعور نفعي بالتفوق الغربي مع الإيغال في ازدراء الحضارات الأخرى، والانجذاب إلى كل ما هو غريب يكتنف الشرق، واهتمام علمي بما وصلت إليه العصور الماضية. وأصبح الهجوم على الإسلام على أشده من خلال إحياء ادعاءات وحجج اقترنت بصورة مسلم العصور الوسطى مضافاً إليها زخارف وتنميقات تلائم ذائقة الغرب التواق لتلك الصورة. كما اتسمت هذه الحقبة بسياسة التمركز حول الذات التي بدأ ينتهجها الغرب، مع النظرة الدونية للآخر. بل صار الاتجاه السائد تلفيقياً ينأى عن تحليل البنية الاجتماعية على حقيقتها ويتجه نحو رسم صورة تبين الصفة الكريهة للإسلام، على أن تكون هذه الصورة مرسومة بما يرضى الذوق الأوربي.
ومنذ نشأة الدراسة المقارنة للأديان في الجزء الأخير من القرن التاسع عشر، كانت هناك محاولات كثيرة للكشف عن أصول الطقوس والاحتفالات والشعائر، إلا أن مثل تلك المحاولات لم تتسم بالشمولية. وإذ يشير المنهج المقارن إلى الإجراءات التي يستعين بها الباحث للكشف عن أوجه الشبه والاختلاف بين الظواهر وفقاً لبعض المحكمات التي تجعل هذه الظواهر قابلة للمقارنة بهدف اكتشاف العوامل السببية الخاصة بظهورها وتطورها وصور الارتباط والتداخل بين كلٍ منها، نجد أن الدراسات الاستشراقية التي تخصصت في تاريخ الديانات الشرقية على وجه الخصوص حاولت التأكيد على تفريغها من محتواها وإسقاطها في دائرة أخرى بعيدة عنها البعد كله. وفضلاً عن ذلك، برزت إثنوغرافيا الشعوب الإسلامية كميدان رحب لأعمال بعض المستشرقين مثل الفرنسي إدمون دوتيه (1867 - 1926) الذي اهتم في كتابه " السحر والدين في شمال أفريقيا " (1908) ـ على سبيل المثال ـ بتقديم تحليل مطول للعبة الكرة المغربية التي يمارسها الأطفال (ينظر: ص 318 –326 ) ويعقبه وصف موجز لعدد من الألعاب المغربية (ينظر: ص 326 – 331 ). ووصف لاحتفالات " عاشوراء" (ينظر: ص 525 – 535) واستعمال الدمى فيها ( ينظر: ص 534 )، ولعبة الكرة (ينظر: ص 554 ) والنزالات الطقوسية (ينظر: ص 556 ). ولم تكن محاولات مثل هؤلاء المستشرقين تهدف،حقاً، إلى إيجاد صيغة مشتركة لفهم حقيقة مثل هذه الطقوس والشعائر والإحاطة بها، بل كان الجهد منصباً على رسم صورة لها وما يرافقها من أنماط حياتية، إلا أن هذه الصورة تعمدت الوقوف عند الملامح الخارجية من دون السعي إلى استكناه معانيها ومضامينها.
ولم يقتصر الأمر على المستشرقين الفرنسيين الذين أبدوا اهتماماً بهذه المنطقة ( مثلما سيتبين لاحقاً في هذه الدراسة ) بل كان التأثير البريطاني واضحاً أيضاً. فهذا إدوارد ويسترمارك (1862 – 1939 ) يجري بحثاً مكثفاً في المغرب ؛ إذ كتب مؤلفات عدة حاول فيها التركيز على الطقوس التي يراها تؤكد استنتاجه بوجود "بقايا وثنية ". ويسهب في كتابه "الطقوس والاعتقاد في المغرب" (1926) ـ والذي يقع في 629 صفحة ـ بالحديث عن الدمى الطقوسية (ينظر: ص 79، 330-332، 335، 340،343، 596 من الجزء الأول، والصفحات: 79 –80، 221-224،265-270، 273 من الجزء الثاني) والعلاقة بين ألعاب الأطفال والأحداث المرغوبة وغير المرغوبة (الجزء الأول ص 601 – 602 ) وعملية بيع الدمى أثناء احتفالات " عاشوراء " ( الجزء الثاني ص61)، ولعبة " السيج " ( الجزء الثاني ص 21، 278) وألعاب الكرة ( الجزء الثاني ص 171، 268، 271 ). وله أيضاً كتاب " الطقوس والاحتفالات المرتبطة بالزراعة: تواريخ معينة في السنة الشمسية والمناخ المغربيين " (1913) يعمد فيه إلى تحليل العلاقة بين طقوس ودمى معينة (ينظر: ص 20 –22، 110، 117 – 121، 124 )، وألعاب الكرة (ص: 67، 121 – 123 ) ولعبة "السيج " ( ص 123 ) ولعبة جر الحبل ( 123 ) والنزال (ص 95 ). وربما لا يتسع المقام هنا لإيراد عدد كبير جداً من الأسماء التي تمعنت كثيراً في هذه المنطقة وبالغت كثيراً في تتبع أبسط جوانبها ولعل خير مثال لذلك كثرة الأوربيين الذين ركزوا على الألعاب في المغرب العربي ؛ فقد ألّف أحدهم، جان بيير روسي (Jean-Pierre Rossie )، ما يزيد على الخمسة وعشرين كتاباً تتناول الألعاب والاحتفالات التي تجري في بلدان المغرب العربي.
وهكذا فإن أية محاولة تهدف إلى رصد طبيعة مثل تلك التحركات ينبغي أن تنطلق، بادئ ذي بدء، من استكناه التوجهات التي رافقت مثل هؤلاء المستشرقين، ولعل خير ما يوضح ذلك هو مواقف الأب فوكو والكاردينال لافيجري، رائد الحملة الصليبية إبان احتلال الجزائر، الذي قال: " علينا أن نخلص هذا الشعب ونحرره من قرآنه، وعلينا أن نعنى، على الأقل، بالأطفال لتنشئتهم على مبادئ غير التي شب عليها أجدادهم، فإن واجب فرنسا تعليمهم الإنجيل، أو طردهم إلى أقاصي الصحراء، بعيداً عن العالم المتحضر ". (مجلة العربي / ع 322 / سبتمبر 1985 م )
ولهذا السبب، تعد الدراسة الحالية محاولة مهمة لنقد الفكر الاستشراقي وطروحاته، ولا سيما في عصره الأساس الذي ارتبط، على نحو لا لبس فيه، بالكولونيالية، أو كان مقدمات لها (كما هو واضح من طروحات دوتيه، رائد الاستعمار المغربي، كما يسميه عبد الله حمودي مؤلف الدراسة). ولا يمكن أن نغفل عن حقيقة أن الثقافة الغربية ــ التي يقول د. إدوارد سعيد أن الاستشراق القائم على تفوق الذات ودونية الآخر يشكل أنموذجها المصغر ـ سعت إلى خدمة الأيديولوجيا الاستعمارية؛ إذ يرى سعيد أن الاستشراق يعتمد " من اجل استراتيجيته على التفوق الموقعي المرن الذي يضع الغرب في سلسلة كاملة من العلاقات المحتملة مع الشرق دون أن يفقده للحظة واحدة كونه نسبياً صاحب اليد العليا. ولماذا كان يبغي أن يكون الأمر على غير هذه الشاكلة، خصوصاً خلال مرحلة الهيمنة الأوربية منذ أواخر عصر النهضة حتى الوقت الحاضر؟ لقد كان العالم، أو الباحث، أو الإرسالي، أو التاجر، أو الجندي في الشرق، أو فكرَّ بالشرق، لأنه كان قادرا على أن يكون هناك أو على أن يفكر به، دون مقاومة تذكر من جانب الشرق، وتحت العنوان العام للمعرفة بالشرق وتحت مظلة التسلط الغربي على الشرق منذ نهاية القرن الثامن عشر، برز شرق معقد متشابك ملائم للدراسة في البيئة الجامعية، وللعرض في المتاحف وللاستبناء في المكاتب الاستعمارية في أطروحات علم الإنسان، وعلم الحياة، والألسنية، والأعراف، والتاريخ حول الإنسان والكون ولتقديم أمثلة على النظريات الاقتصادية والاجتماعية في التطور والثورة والشخصية الثقافية والخصائص القومية أو الدينية ". ( الاستشراق، ص 43 ).
وهكذا، يعمد "حمودي" هنا إلى إعادة قراءة أطروحات المستشرقين الفرنسيين على وجه الخصوص فيخوض ممارسة تشريحية لبنية تلك الطروحات. وتجدر الإشارة إلى أن القراءة على وفق هذه المعطيات لا تمدنا بأسرار وخفايا كنا نجهلها حسب، بل تتيح لنا فرصة الكشف عن المتاهات والدهاليز التي يحفرها هؤلاء المستشرقون.
إن الأحداث الموصوفة هنا غاية في التشابك والتعقيد على نحو يغدو من الضروري فيه الوقوف على طبيعة الدوافع التي انطلق منها هؤلاء المستشرقين في تمثلاتهم وهم يحاولون إلباس صفة الموضوعية على ما يصورونه. فلئن كان إحياء الصليبية أمراً يستحيل تحقيقه بين المسلمين، فقد وجد هؤلاء أن البديل يكمن في تمزيق بنية هذا المجتمع ورسم صورة لدينه وطقوسه عبر ربطها بسلسلة من الممارسات والشعائر البدائية من جهة، وبأديان وثنية موغلة في القدم من جهة أخرى لتفريغ القالب الإسلامي من محتواه. بمعنى إنهم عملوا على تلمس جذوره في مجاهل الماضي القديم في محاولة لتصيد أوجه تشابه، ولو بعيدة، مع ما ينشدونه.
والذي يتبين من هذه الدراسة يدفعنا إلى الوقوف أمام حقيقة أنه تسود أذهان المهتمين بالاستشراق فكرة راسخة مؤداها أن ثمة " بقايا " تتجسد في الطقوس والشعائر التي تُمارس في احتفالات إسلامية خاصة جدا. ولما كانت هذه الفكرة غاية في الخطورة، فإني سأذكر بعض الشواهد عليها:
1 ـ محاولة الفصل، الواضحة جداً بين العرب والبربر من خلال الاهتمام المغالى فيه بتتبع أثر الطقوس والشعائر التي تجري في مناطق البربر من المغرب العربي حصراً، مع التأكيد في الوقت نفسه على وجود دين بربري قديم جاء الإسلام و " طمسه ". ويتضح ذلك بإصرار دوتيه ولاووس على أن التضحية والاحتفالات المرافقة لها ذات صلة وثيقة بدين بربري موغل في القدم، أو السعي، على الأقل، إلى إيجاد تكوين ثقافي مختلف. وبهذه الطريقة يتم شطر هذه البينة المتماسكة إلى شطرين عرقيين غير متجانسين، لا يشبه أحدهما الآخر.
2 ـ إصرار دوتيه ولاووس على فرضية " البقايا الحضارية "survivals من خلال التطلع إلى الماضي، ولا أعني به الماضي الإسلامي للمجتمع الذي يعملان على تشريحه، بل إلى ماضٍ روماني مع التركيز في الوقت نفسه على بقايا الحقبة السحرية التي تحاول إضفاء الطابع الروحي على الخوف والرغبة. الهدف من ذلك هو تلمس الجذور في مجاهل الماضي القديم ومحاولة تصيد أوجه تشابه مع أديان أخر لا تمت للإسلام بأية صلة، بمعنى أنها محاولة تقفز فوق الدور الإسلامي لتثير انتماءات وصلات جديدة تعود إلى ما قبل الإسلام ( وخير دليل على ذلك آراء مولييرا وخليفتيه دوتيه ولاووس). في حين يرى مولييرا أن مثل هذه الاحتفالات تعد علامة على تفسخ المجتمعات التي تمارسها فضلا عن كونها من " بقايا " الوثنية الموروثة من الرومان. وبذا تتضح خطورة هذه المحاولة الرامية إلى تهميش دور الإسلام في الثقافة البربرية في شمال أفريقيا وعزله عن كل قيمه الروحية والإنسانية والاجتماعية، والتغافل عمدا عن روحه ومضمونه الساميين.
وغير خافٍ أن الطقوس نمط من أنماط السلوك الذي تبديه المجتمعات كلها. ومن الممكن استعمالها لتعريف البشر أو توصيفهم. لهذا فأن القضية المهمة التي ينبغي الالتفات إليها هنا هي قضية الوعي اللانقدي لمشكلات الأعراف أو التقاليد المشتركة، أو " الطقوس" عموماً بتحولاتها كلها، فالسعي وراء الوصول إلى "بقايا " تبدو عملية غير علمية واعتباطية أصلاً، لأنها غير عقلانية في مجملها، وبالتالي فان محاولة عقلنتها تبدو عملية غير علمية أيضاً.
ختاماً أود الإشارة إلى بعض الأمور التي عرضتْ لي أثناء الترجمة:
* لا يمكن أن نغفل هنا الجهد الذي بذله "عبد الله حمودي "في محاولته النقدية للفكر الاستشراقي،إلا أن دراسة واحدة لا تكفي للوصول إلى حكم قاطع بصدد ما أورده من أفكار يبدو بعضاً منها على درجة من الحساسية.
* حاولتُ في هذه الترجمة توخي الدقة الشديدة والإبقاء على روح النص الأصل وإن كنت أجد صعوبة في نقل المصطلح البربري، إذ كان " حمودي " يعمد إلى إيراد المصطلح البربري بحروف إنكليزية، ولهذا حاولت إضاءة النص ـ كلما اقتضت الضرورة لذلك ـ من خلال إيراد عدد من الهوامش التي ميزتها عن هوامش المؤلف بإضافة كلمة ( المترجمة ) في نهاية الهامش. كما أرجو الانتباه إلى أن الكلمات المحصورين بين قوسين مربعين [ ] هي من إضافتي أنا، أما الكلمات المحصورة بين قوسين هلاليين ( ) فهي موجودة في النص الأصل.
* أود التنويه إلى أن الآراء التي طرحتُها في هذا التقديم معنية بالدرجة الأساس بالمواقف الاستشراقية التي بيّنها " حمودي " في دراسته هذه حصراً ولا تعنى بالاستشراق عموماً.

خالدة حامد



الأنثربولوجيا الكولونيالية لعيد الأضحى واحتفالات التقنّع
" بحثاً عن دين ضائع "


لقد بدأت الطقوس والألعاب واحتفالات التقنّع، التي تعد علامة فارقة على حلول السنة في المغرب العربي عموماًMaghreb، والمغرب Morocco بصورة خاصة، تستقطب اهتمام المراقبين من الخارج أواخر القرن التاسع عشر، ومعظمهم من الفرنسيين ولا ريب، وذلك يرجع إلى الحضور الإمبريالي الطويل الأمد في المنطقة. ولا يستثنى منهم سوى إدوارد ويسترمارك (3)، الذي سنناقش أمره لاحقا. أما بالنسبة للكتابات التاريخية العربية، فإن لم أكن مخطئا، أقول أنها لم تنبس ببنت شفة عن الاحتفالات التي تجري خارج نطاق التقويم الإسلامي الرسمي. فهل كانت الإدانات وأشكال الشجب التي تصدر عن مختلف المثقفين المسلمين بخصوص التقاليد الشعبية، التي تُصنّف كلها تحت مصطلح عام وفضفاض اسمه "الأعراف المشتركة"، إلماحات إلى تلك الاحتفالات؟ فتعليقاتهم لم تتعد الذم البسيط أبداً. وسواء أكانت هذه الممارسات فظيعة للغاية أو مألوفة للغاية فإنها لم تحرك مفكريّ شمال أفريقيا وتدفعهم إلى مسك أقلامهم. ففي بداية القرن السادس عشر لاحظ ليو الأفريقي(4)Leo the African، وهو الياس بن الحسن بن محمد بن الوزان alias al– Hasan ibn Muhammad ibn al – Wazzan احتفالات المشاعل (5) في فـاس (6). إلا أنه كان في هذه الفترة يكتب بالإيطالية بروح المعتنق للديانة المسيحية بعد أن غيّر اسمه وبدأ حياة جديدة، أي كان يكتب بوصفه مفكراً كاثوليكياً تربى في كنف البابوية الشديدة التوق لكل ما يخص المجتمعات الإسلامية من معلومات.
مما لاشك فيه، أن كل مظاهر العربدة في احتفالات التقنّع في شمال أفريقيا هي من صنيع أطراف خارجية. فالاحتفالات تجري في كل مكان تقريبا: في جبال الأطلس وسهول شمال المغرب وجبالة the Jbala والريفthe Rif. كما أنها لا تقتصر على المناطق الريفية حسب لأن ملاحظات المراقبين تتوفر بكثرة أيضاً عن مراكز حضرية كبرى مثل فاس ومراكش. وتحدث في الجزائر في ورقلةOuargla ، وفي جبال الأوراسAuras وفي مواضع أخرى. ويصفها لاووس (7) في تونس، محتذيا بذلك حذو مونشيكور Monchicourt الذي شاهدها في القيروان، كما قادتهم محاولاتهم إلى ليبيا، بل إلى مصر أيضا ً(8).
أما في المغرب، فتقع معظم هذه الأحداث بين عيد الأضحى والاحتفال بالسنة الهجرية الجديدة. وبحسب ما نجده في اللهجة العربية، تطلق على هذين الاحتفالين تسمية "العيد الكبير" و " عاشور " على التوالي. في حين أن تسمية " عاشور " موجودة عند البربر، إلا انهم يطلقون اسم " فسقة" (9) faska على عيد الأضحى. وتكون هذه الفترة مقدسة للغاية في التقويم الإسلامي. ونظرا إلى أن هذه التقويم يتبع النظام القمري، كان لابد من جعله يتماشى مع التقويم اليوليوسي (10) (أو الفلاحيfilahi)، الذي نجده في شمال أفريقيا يتحكم بالأنشطة الزراعية. ويتميز هذان الشهران، اللذان تطلق عليهما تسمية " ذو الحجة " و"عاشوراء" في التقويم الإسلامي، بالحج إلى مكة، وعيد الأضحى، والاحتفال بالسنة الهجرية الجديدة (11). وتحدث جميع هذه الطقوس في مدة أربعين يوما (بين أول أيام ذي الحجة والعاشر من عاشوراء )، وتكون مشحونة جدا بالمعاني الدينية التي تبلغ أوجها في الحج إلى المشاهد الإسلامية المقدسة وعيد الأضحى وتنتهي مع الاحتفال بالسنة الهجرية الجديدة.
تجري المواكب واحتفالات التقنّع بين عيد الأضحى والاحتفال بالسنة الهجرية الجديدة، تحديداً. وغالبا ما تتزامن مع عيد الأضحى في الريف، بينما ترتبط في المدن بالسنة الهجرية الجديدة ارتباطاً وثيقا. وكما هو الحال مع عيد الأضحى والاحتفال بالسنة الهجرية الجديدة، ترمز هذه المواكب واحتفالات التقنّع إلى التحول الزمني. وقد أفاد من هذه الملاحظة كل من كتب عن الموضوع تقريباً بوصفها دليلاً على أن هذه الاحتفالات أعياد وثنية قديمة تحتفي بتجدد الطبيعة التحمت مع التقويم الإسلامي.
إن طبيعة الرموز والعناصر الأخرى في هذه الاحتفالات تجعل مثل هذه الفكرة واردة تماما، وهذا ليس بالأمر المدهش، إذ نجد في كل مكان محاولات التوفيق بين المعتقدات المتعارضة على الصعيدين الديني والثقافي. ومع ذلك تكمن مشكلة المدرسة الفرنسية لشمال أفريقيا بأسرها (والتي هي مسؤولة، من جهة أخرى، عن تقديم افضل التوصيفات لمثل هذه الاحتفالات التي تتضمن عنصر " تقنّع " ) في إصرارها على مفهوم " البقايا الحضارية (12) survivals. وتعمل مثل هذه المقاربة، بصورة آلية، على عدم الربط بين الاحتفالات الوثنية والإسلامية، أو أنها حينما تعترف بوجود الأواصر بينهما، تنفي خصوصية الأخيرة لتقارنهما بالمعنى الذي تزعم أنه موجود في الأولى [أي الوثنية]. ويُلاحظ أن مثل هذا الرأي لا يحجب دلالة كل احتفال حسب، بل الأخطر من ذلك انه يخفي معنى تعايشهما وديالكتيكهما في العملية الطقوسية ذاتها. ففي بداية عشرينيات القرن العشرين، فنّد إدوارد ويسترمارك، الذي استند في مقاربته إلى مدرسة الحوليات، هذا التوجه النظري الذي عززته تحيزات ذلك العصر. ولا نجد ضرورة في تلخيص تلك البحوث هنا، إذ أن بعضها يفي بإيضاح الكل، ويُمكِّن من تسليط الضوء على الإسهامات والجدالات ويضع كل منها في سياقه.
أما ما اسماه مولييرا (13) بكرنفال منطقة الجبل، وهو اسم تداول استعماله منذ القرن التاسع عشـر، فيحدث بعد عيد الأضحى ويدوم ثلاثة أيام (14). ويمكن وصف الحدث بأنه فعاليتان: جولة البحث، التي يطلق عليها المؤلف اسم "الاستجداء" (15)، وسلسلة من المشاهد التي يؤديها أمام المنازل مجموعة من الممثلين جميعهم من المسلمين الذكور الذين يتنكرون بمختلف الشخصيات التراثية. ويستمر كلا الحدثين ليشكلا حدثاً كاملاً بدلا من عمليتين منفصلتين. ويقوم سكان القرية، وهم الجمهور أيضا، باللحاق بهم لدرجة أنهم يندمجون في الدور، أحيانا، فيرجموا إحدى الشخصيات، أو اكثر(16)، بما تقع عليه أيديهم. وتأخذ هذه الشخصيات المقنّعة كل ما يعطى لها، وتمثل مشاهدها أمام كل منزل:

يجري الكرنفال مرة واحدة في السنة ويدوم ثلاثة أيام ويتزامن مع عيد الأضحى. وفي اليوم الأول ينتشر الممثلون المُقنَّعون في القرية عند الظهيرة تقريبا ثم يبدأون جولة الاستجداء ليتلقوا بعدها ما اختار الناس إعطاءه لهم: خبز، لحم، بيض، دجاج، قمح... ولا حاجة للقول أن القرية بأسرها تسير في إثرهم، تحيط بهم، تبدي إعجابها بهم، تطلق صيحات المرح عند سماع طرفة أكثر بذاءة من غيرها (17).

يمثل هؤلاء المُقنَّعون عشر شخصيات: الباشيخ Ba-Shaikh أو البابا العجوز (18)، الذي يجده مولييرا مطابقا لشخصية " الكبير " في الكرنفالات عادةً، وزوجته، والحمار والزنجية، واليهودي وزوجته اليهودية، والقاضي، والقائد والحرس (19). والباشيخ رجل عجوز ذو قرنين بلحية بيضاء يرتدي "خرق قذرة " ويضع " جلد ماعز على هيأة قبعة " ويُسبِّح بمسبحة حباتها من قواقع الحلزون. وتكون أعضاؤه التناسلية بارزة للعيان على شكل " شريط صوفي من جلد خروف وباذنجانتين تتدليان بين ساقيه "، وبجانبه زوجته الحبيبة المتخنثة، رأسها يقطينة مجوفة ليحاكي رأس المرأة وثدييها يقطينتين أخريين وتحمل جرة قطران " تمثل عطور نساء منطقة الجبل ". أما الشخص الذي يلعب دور الحمار فيضع على رأسه " جمجمة حمار حقيقية، مقصورة ومجففة، تُبدي فكين وأسنان مهولة ". أما أعضاؤه التناسلية، فحجارتان كبيرتان خِـيطتا في كيسين مع هراوة مسودة بالقطران (20). ويرتدي اليهودي بُرنُس قذر ومقزز، ويضع قلنسوة ضيقة مميزة مع ذيلين بقريين كـ " ذوائب شعر رجال إسرائيل ". وكان عليه أن يتفادى، باستمرار، الضربات الموجهة له أثناء طريقه وهو يواصل سيره منتحباً. وتحميه زوجته التي ثدياها عبارة عن يقطينتين، وجسدها ووجهها مصبوغان بمادة كلسية بيضاء [تستعمل لطلاء الجدران ]. وعلى العكس من ذلك، فإن القاضي شخصية مهيبة بعمامته المهولة المؤلفة من صفين معقدين من الحبال، ماسكاً مسبحة حباتها من قواقع الحلزون، ويتأبط كتلة من الفلين تمثل " القرآن الكريم" لإصدار الأحكام التي تتناقض مع العقل تماما. أما القائد فذو وجه ملتحٍ و " بشع "، يضع عباءة حمراء طويلة ولا يفتأ يلوح بالسيف بضراوة، وتستقر عند قدميه مجموعة كاملة من القدور والمقالي. وأخيراً هناك الحرس: " بسيوفهم المشرعة، ووجوههم المتوعدة يملؤها الحقد، وهم متنكرون مثل قائدهم بانتظار كلمة أو لمحة منه كي يندفعوا بقوة لينقضوا على الضحية المختارة" (21). أما الزنجية واللص فهما ممثلان هامشيان [كومبارس] في الحكايات التي تؤدي هذه الشخصيات. وهنا تكون المشاهد على نوعين رئيسين أيضا: السخرية من الأعراف المحلية، والمشاهد التي تقلب معايير الحياة الاعتيادية رأساً على عقب. وفي الحالة التي يصفها مولييرا، يرتبط القلب [التغيير إلى الضد] inversion بالحياة الدينية ارتباطاً وثيقاً.
ويطلق القائد حرسه على الضحايا الذين يطأهم بقدمه. وتتمثل متعته المفضلة بالمواربة والطعام. أما الشَبِق العجوز، الباشيخ، فتستحوذ عليه قدراته الجنسية المتناقصة وهو على استعداد للفعل في أية لحظة. وتسحبه زوجته أمام القاضي الذي يعلن طلاقهما ويقرأ، في الجلسة ذاتها، عقد زواجه عليها ! ثم يقترح الزوج حلا وسطا: إن يشتركا بها معاً (22). وتقوم الزنجية بعجن الطين لصنع الخبز وتحضير الكسكس couscous (23). أما اللص فهو لا يفتأ يجرب ألاعيبه وحيله ويُمسَـك في كل مرة ليزج به في السجن الذي يعود إليه حالما يطلق سراحه منه.
وكما هو الحال مع الباشيخ، فإن اليهودي عجوز بغيض تحميه زوجته التي تسيء معاملته وتخونه بسبب عجزه الجنسي. وكلاهما يتحدث العربية بلكنة يهود المغرب ومفرداتهم على نحو يلفظان فيه السين شيناً. وتسحب الزوجة زوجها أمام القاضي وتشتكي قائلة: " إن روحه ميتة " (عاجز جنسياً). ويدين القاضي العجوز المسكين ويحكم عليه بأن " يعلوها عشر مرات في الليلة" وإلا يعاقب بالسجن ! في هذه الأثناء يعلو الباشيخ زوجته وهو ما يزال مستغرقاً، لكنه لا ينجح فيتوسل إليها أن ترشده، وعند ذاك تفتح له كيساً يختفي فيه، ثم يخرج مذعوراً يصيح: " هذا ليس فَرْجاً ! إنه بئر، أخشى أن أغرق وأعْلَق هناك !" (24).
هذه هي المشاهد التي يمكن تصنيفها بأنها ساخرة، ويمكن رؤية أسلوب القلب في الصلوات التي قلبت رأسا على عقب. فالكل يجتمع لأداء الصلاة باستثناء الزوجين اليهوديين واللص. ويتوضأ الباشيخ تحت أنظار زوجته، ويقوم بقية المصلين بغسل رأس الحمار(25)، ثم يستدبرون القِبلة. أما كلمات القاضي، الذي يؤم المصلين، فبذيئة وفاحشة بدلا من أن تصدر عن القرآن الكريم.. كل شيء يجري بالمقلوب، حتى أيدي المصلين، التي تكون مضمومة معا أثناء الدعاء، نجدها هنا مقلوبة ظهراً لبطن.
ويلفت مولييرا الانتباه إلى حقيقة أن الفعاليات الموصوفة آنفا تحدث بعد عيد الأضحى لكنه لا يوضح شيئا عن أصل الجلد الذي يغطي رأس الممثل الرئيس. إذ ستتكشف أهمية هذا التفصيل كاملةً لاحقاً. والحق انه لا يذكر شيئا أبداً بخصوص الرجل الذي يرتدي الجلود. أما ويسترمارك، الذي زار المناطق التي وصفها مولييرا اعتمادا على المعلومات التي يتلقاها من الرواة وصولا إلى وهران Oran، فيلاحظ أنه ابتداء من عيد الأضحى، غالبا ما تظهر شخصية متنكرة بالجلود بجوار الباشيخ (26) وهذا يوحي بوجود شبه بالاحتفالات التي سأصفها في أعالي الأطلس.
والأهم من ذلك كله أن وصف مولييرا مقتصر على المشاهد التي مُثِّـلَت في الشوارع والتي لا تجد لها تفسيراً يُذكر. ويبدو أن مقصده من هذا الوصف إيجاد حكم قيمي عنصري عن فساد المجتمع المغربي وسلطته على نحو يستدعي الإصلاح الفرنسي لهما حتماً ( إذ كان وقت الاحتلال آخذ بالاقتراب )، ومؤشر مبهم على الأصول. ولهذا السبب تجده لا يدرك مجاز السخرية والحس الاحتفالي الذي تزخر به المشاهد التي لا يرى فيها " سوى لعبة داعرة ودنيئة ربما تكون متنمطة بنمط الساتورناليا Saturnalia (27). وهكذا تبرز هنا ثلاث ثيمات رئيسة: فساد هذا المجتمع والسلطة التي تحكمه، فظاعة وتدني الحالة الأخلاقية البدائية أو المتفسخة، ذاكرة الأعراف الرومانية. وفي الوقت الذي لن يتطرق فيه إلى أولى الثيمتين في الأعمال اللاحقة، نجد أن مفهوم بقاء الأعراف الرومانية والمسيحية، ولا سيما تلك التي تخص الدين البربري الأصلي، سيتمتع بشعبية كبرى في الأدبيات الاثنوغرافية للثلث الأول من القرن العشرين. ويمكن أن تتجلى فائدة هذا الرأي في انه يتفادى مسألة العلاقة بين هذه الأعراف والإسلام أو انه يركز على التوتر بينهما.وسيصر ويسترمارك،من بين الآخرين، على ما يسميه هو " تحدي العقيدة الإسلامية (28). وشرع دوتيه (29) وبعده لاووس بالبحث في دين البربر البدائي، منطلقين من اعتقادهما بأنهما قادران على إعادة بنائه من " بقاياه" التي يظنان أن بمقدورهما اكتشافها في احتفالات السنة الجديدة.
سأقصر مناقشتي على هؤلاء الكتاب الثلاثة، ليس لأنهم الوحيدون الذين صوروا احتفالات التقنّع بل غيرهم الكثير أمثال اوبين Abuin وبيارني Biarnay (30)، الذين كرسوا لها صفحات مذهلة أيضا ـ إذ اهتم الأول بعرض مسرحي شاهده في فاس لاحظ فيه استعمال أسلوب القلب والسخرية، واهتم الثاني بقبيلة في الشمال حدثت فيها مشاهد تماثل تلك التي ذكرها مولييرا (31). ومع ذلك، تبدو التفسيرات التي اقترحها دوتيه وويسترمارك ولاووس الأكثر اتساقاً، كما أن لاووس يضع بيلمون Bilmawn في دورة طقوسية تميز مختلف مراحل التقويم.
ففي مراكش، حيث استقى دوتيه ملاحظاته، يظهر بوجلود (32) في الشوارع صباح اليوم الذي يعقب عيد الأضحى، كما في فاس، لكن الفُرجة الكبرى تحصل بمناسبة عاشوراء أمام الحاكم أو القائد، بالضبط مثلما شاهده اوبين في العاصمة المغربية قبل الاستعمار. ويذكر دوتيه أنه في عام 1907 أجري العرض المسرحي الذي قُـدِّم في بلاط السلطان، في بلاط المدَّعي بوحمارة (33) Bu Hamrra المعروف بأنه قاتل السلالة الحاكمة وكان يسعى ليحل محلها بذريعة حماية البلاد والمجتمع الإسلامي من الهيمنة المسيحية (34). ويكشف هذا التقارب بين سلطة مشروعة لكنها متنازع عليها وقوة متنافسة، عن تأسيس الاحتفال كعلامة على السيادة وامتياز بها. وربما يكون هذا هو السبب وراء كونه يحمل طابع السخرية والتهكم من الأحداث على نحو يكشف عن المجتمع كله أمام ناظري الأمير. وفضلا عن ذلك، توحي قراءة العمل الذي قدمه يوجين اوبين ان هذه السيادة شاهد على صورة العالم الذي تتطابق حدوده مع حدود "المملكة السعيدة " (35). وبحسب ما يذكره دوتيه في تصويره هذا، نجد أن السخرية، التي لا تستثني أحداً حتى البلاط، لا تفقد طابعها أبدا:

نجد في مراكش أن بوجلود الهَرِمHerrma bou Jloud يُقدم في العيد الكبير، إلا أن احتفالات التقنّع، والاهم من ذلك، المسرحيات الصغيرة، تحدث في عاشوراء في الهواء الطلق. ويعد هذا العرف متطوراً إلى حد كبير، كما يتم أداء بعض المشاهد الهزلية الحقيقية، ولا سيما أمام السلطان. ويدخل الممثلون بلاط المشوار وتكون المشاهد الساخرة التي يؤدوها مليئة بالطرافة. وعلى غرار ما يؤدى في أي مكان آخر، فإنها تصور القاضي والمحاكمة الساخرة،إلا أن النجاح الأكبر يتم ادخاره للسفير الأوربي بمترجمه وأمنائه الهزليين، ولا سيما وزراؤه الذين يتم تصويرهم فورا على نحو يبعث على السخرية الذكية. وتعد هذه الحرية في السخرية اكثر الأمور بروزا لأنها كثيرا ما تحدث أمام الوزراء الذين يُسخر منهم في الوقت الذي قد يشعر فيه بعضهم بعدم الارتياح إلى حد ما إلا أن زملاءهم والسلطان يهدرون بضحكات مجلجلة فلا يملكون خيارا سوى التظاهر بالرضا (36).

إن هذا المشهد الذي سجله اوبين ودوتيه هو مصدر تسلية المدن، بينما يصور مولييرا حدثاً ريفياً. وعلى الرغم من كل شيء، يمكن ملاحظة المسافة بين " رائد " الاستعمار المغربي هذا، وخليفتيه إذ تتسم أعمال هذين الاثنين بتناقض الأحكام القيمية وحسٍ بالملاحظة يتسم ببرود أكبر. فالعديد من المشاهد والشخصيات تبدو في كلا المنطقتين: هزليات القاضي، الأحكام الهزلية، أنماط الفحش والبذاءة، والسخرية من رجال الدولة. إلا أن المسرح الريفي يفسح مجالا أوسع للشبق الجنسي وشبح العجز الجنسي الذي يجلبه الهَرَم إلى الإنسان.
أما عمل دوتيه الذي يصور الاحتفال بين الرحامنة The Rehamna (37) في الجنوب وفي ضواحي مراكش فيأتي نوعاً من المجاملة للوصف الذي يقدمه مولييرا الذي يركز على شمال البلاد، ولا تحدث احتفالات التقنّع هناك في عاشوراء حسب، بل في عيد الأضحى أيضاً.
وتدور المشاهد، التي تشابه ما يعرض في جبالة إلى حد كبير جدا ؛ حول مغامرات الهَرِم Herrma وخطيبته اليهودية ازونا Azzuna ؛ فالماعز العجوز المقرّن عبثاً يحاول " مجامعتها " لكنها عنيدة ونهمة. وهنا تأتي المحاكمة، والحكم الصادر عن القاضي الذي يذعن لمفاتن الشابة. وفي نهاية العرض، يندفع الجمهور صوب بوجلود متظاهرين بقتله. ويكون هذا العرض المسرحي مصحوباً بموكب ومطاردة ومظاهر أخر (38).
لقد وصلت المعرفة باحتفالات التقنّع، التي حظيت بإسهامات ثرة، إلى أوجها في عشرينيات القرن العشرين مع المسوح المفصلة جدا والمقدمة بعناية من قبل اميل لاووس وادوارد ويسترمارك. وقد واصل لاووس بحثه على طول المسار الذي سلكه دوتيه ومقتفيا أثره في تطبيق فرضيات فريزرFrazer (39) على " كرنفال البربر". اما ويسترمارك فمعنيّ أكثر بالملاحظة الملموسة، ومقارنة مختلف التفسيرات التي يقدمها زملاؤه الفرنسيون.
كما ان عمل لاووس المتميز عن لغات البربر واثنوغرافيتهم، والذي أضفى فيه صفة الأهمية على الاحتفالات والألعاب، أعقبه فورا بمسحه الكبير الآخر الذي كرسه لتراثٍ كان راسخا تماما يعرف باسم " احتفالات المشاعل " (40) ويحظى بيلمون بمكانة مبجلة في الجزء الثاني من الدراسة، في حين خُصِّص الجزآن الأول والثالث لبيان الطقوس التي تظهر فيها شخصية مركزية (عاشوراء، بينو Baynu تلغونجا Tlghonja، اسلي Iilsit، تيسلت انزار Tislit unzar " (41) الذي يتم تبجيله في الاحتفال لمرة واحدة فقط ليُدمر بعد ذلك، أما بيلمون المحتفى به في عيد الأضحى في كل مكان، فيأخذ مكانته في هذه المجموعة المبجلة التي تضم المعبودات القديمة لآلهة البربر الأصلية.
ومن الممكن الوصول إلى معنى افضل لهذه الآلهة من الوصف الذي يبدو ان لاووس قد اسبغ ملامحه الأساسية على الاحتفال اعتمادا على عدد من الحالات التي لاحظها بصورة مباشرة أو غير مباشرة:

إن الكلمة عربية وتعني " الرجل الذي يرتدي الجلود "، أما المقابلات البربرية لهذه الكلمة فهي: بويلمون bu–ilmaun أو، بيلمون، bilmaun أو بوبطين bub–tain أو بو إسلين [وتعني العريس أيضاً ] bu–isliyen أو تغسدوفت [ أي: الذي يرتدي شيئاً ] tagesduft وجميعها، باستثناء الأخيرة ، تتشكل من قاعدة الأداة "بوbu " ذاتها وتعقبها كلمة تعني " جلد ". ويرتدي بوجلود جلود الخراف أو الماعز المأخوذة من الأضاحي التي تنحر في اليوم الأول من العيد. وتوضع هذه الجلود على جسده العاري. ويرتب الجلد الذي يغطي ذراعيه بطريقة يتدلى بها من يديه. أما وجهه، المسود بالسخام أو بمسحوق ما، فيختفي وراء قناع كان، أصلاً، قربة قديمة مصنوعة من جلد ماعز تستعمل لخض الزبد. ويزين رأسه بقرنيّ بقرة أو برأس خروف يفتح فكيه بعصا صغيره ليكون بأبشع شكل. وغالبا ما توضع في نهاية كل قرن، برتقالة فيها حزمة من الريش، وكثيرا ما يغطي رأسه أو كتفيه بنباتات خضراء، إلا أن هذه الأخيرة لا ترى إلا على نحو متفرق، في طنجة على سبيل المثال. وأخيرا، تكتمل شخصية بوجلود البشعة بعقدين أو ثلاثة، ومسبحة هائلة حباتها من أصداف القواقع، فضلاً عن ما يميزه من سمات ذكورية قوية.
وكقاعدة عامة، يتنكر بهذه الطريقة شخص واحد من كل دوارdouar ، أي قرية أو جزء من قبيلة. لكن في المدن، على وجه الخصوص، كثيرا ما يرى المرء ثلاثة أشخاص أو أربعة يتنكرون بهذا الشكل ويلعبون الدور الرئيس. كما ترافقهم فرقة موسيقية بالمزامير والطبول وحشد كبير من الأطفال الذين يتفوهون بكلمات بذيئة ويرجمونهم بالحصى. ويشق بوجلود طريقه صامتا حول الدوار أو الإغرام ighrem ويذهب من خيمة إلى أخرى، يتوقف أحيانا لأداء بعض الخطوات الراقصة والقيام بمحاكاة كاريكاتورية ساخرة للمصلين، كما يزور الشخصيات البارزة في كل حي: الباشا، أو القائد أو شيخ القرية، بل حتى المرابط.. مقدّم الزاوية moqqadem of the zawya (42) الذي يحييه بمختلف درجات الحفاوة التي ترافقها البهجة دائما. كما يدخل البيوت ويطارد الأطفال الذين يفرون من أمامه فزعاً من نظرته، وغالباً ما يضرب أي شخص تصل إليه عصاه، وكثيراً ما يحمل عمود طويل أو اثنين قد يصل طولهما أحيانا إلى أربعة أمتار أو خمسة، ويبدو أن الجزء المهم في الدور الذي يؤديه بوجلود هو ضرب الرجال والنساء ومس الخيام بعصاه.
وعندما لا يكون بوجلود متسلحا بعصاه، وهذا استثناء، فانه يستعمل قبقابه أو حجارة ملصقة بالجلد الذي يغطي يده اليمنى. وان حقيقة قيامه أحيانا بلصق ظلف شاة أو ماعز بنهاية عصاه تجعلنا نخمن انه يفضل الضرب بقدميه، فإذا ما فر الناس من أمامه فإن هذا مرده الخوف من ضرباته، وقد قيل إن المرضى الذين يمسهم يشفون، كما انه يحفظ الأصحاء من السقوط بين براثن المرض (43).
أما بين آيت (44) ناظر Ait Nadhir ، فيذهب بوجلود ( الذي يسمى بو ايسليخن Bu –islikhen ) داخل الخيام حيث يسحب الأوتاد ويقلب القدور والمقالي رأسا على عقب (45)، ثم يلقي بنفسه بجانب الموقد فيثير سحابة كثيفة من الغبار من خلال التدحرج في الرماد. وهو موضع خوف النساء كثيرا إلى الحد الذي يدفعهن إلى الهرب حال رؤيته. لكنه حينما يظهر، يتصرف معهن بطريقة يمكن تفسيرها بأنها طقس جنسي ؛ فهو يعاملهن بخشونة وعنف، يضربهن بقطعة من الجلد تتدلى من ذراعه اليمنى فيهربن لتفادي ضرباته. وهو لا يضرب إلا النساء والأطفال، ومن المرجح وجود شخصية مماثلة له تماما بين " آيت وارين " Ait Warain الذين يحتفلون بكرنفالهم في العيد الكبير عموماً. ومن بين الشخصيات الكرنفالية الأخرى، تظهر عروس بوجلود وتسمى " تاسليت (46) بوجلود " Taslit Bu–Jlud " التي يؤدي شخصيتها رجل متنكر بزي امرأة ترتدي هنديرة (47) handira عجيبة. وتظهر هذه العروس في الدوار لحظة نحر الخروف الأول، وحال ظهورها يترك الرجال والنساء خيمهم ويحيّوها بتعليقات ساخرة ومازحة تتسم بالبذاءة. وتنطلق العروس باتجاه الجمهور وتضربهم بقوة بكل ما تقع عليه يداها، ولن تتخلى عن متعتها إلا بعد تدخل الأقارب الذين يجثمون أمامها وأيديهم مشبوكة إلى الوراء.وعند الليل، تتسلل هذه العروس الهُزُء إلى الخيم حيث تخفي وجودها بالإشارة إلى زوجها بضرورة إعطائها مكانه.
تبدأ جولات بوجلود عشية عاشوراء تحديداً في المناطق التي يحدث فيها الكرنفال احتفاء بهذه المناسبة، أو عموما في اليوم الثاني من أيام العيد الكبير الذي يسمى [بالبربرية]" آس نبولحساسن" ass n–buhlsasen أو نحر الزليف (48) nhar azellif، وتدوم ليومين أو ثلاثة وتستغرق أسبوعا أحيانا وتحدث في مناسبات نادرة خلال اليوم. كما أنها تكون مربحة أيضاً إذ يحظى الممثلون والعازفون بالبيض وقطع اللحم، والقطع النقدية وهم يجوبون المنطقة، ثم يتشاركون في هذه الأموال، ويأكلون اللحم أو يبيعوه مرة أخرى في حالة كثرته ليشتروا أطعمة أخرى أو للقيام بوليمة. ويشتري أحد الأشخاص الدجاج ليختتم الولائم ووجبات الطعام بدعاء من النوع الآتي:

إلهي منّ علينا بالسلام !
إلهي امنحنا عفوك
وأنعم علينا بسنة خيرات !

وضمن السياق نفسه يقول بني (49) إزناسين The Beni – Iznacen:
الهي ارزقنا المطر !

وينتهي الكرنفال بمأدبة ودعاء لا يمكن الشك في قدسيته. وفضلا عن ذلك، من الخطأ التركيز فقط على الجانب البذيء والفاحش من مسيرة بوجلود إذ يبدو أن السكان المحليين يرون هذه الممارسة مهمة للغاية على نحو لا يمكن أن نفسره بأنه انجذاب للمشهد. فالممثلون، الذين يتم اختيارهم من ذوي المكانة المتواضعة أو الرعاة أو الخماسة (50)Khammas أو اللصوص أو من أفراد إحدى الأسر، لا يجدون المتعة دائما في أداء هكذا نوع من العروض العامة بأنفسهم. وفي بعض الأحيان، يتولى شيخ القرية (51) أو الحشد مهمة الحصول على الجلود التي سيرتديها بوجلود، كما انه غالبا ما يحظى بمبلغ مالي فضلا عن ما يكسبه في جولاته. أما في قبائل جبالة فيتم تأجير شخص أو أكثر لأيام الاحتفال السبعة ويرتدون ملابس على النحو الذي وصفناه آنفا ثم يسيرون في دشر ddsher (52). ولا يلعب بوجلود الدور الرئيس، فهو يشفي المرضى ويحصن من يمسه من الخطر. بمعنى ان الهدف من الاحتفال الذي يظهر فيه بوجلود بدور الممثل الأساسي وهو إنزال البركات للعائلات والتحصن من البلايا والمتاعب طوال السنة القادمة (53).

وفضلا عن ذلك يصر لاووس،عند الكتابة عن بيلمون وتحديد مفهومه لموت الإله وبعثه، على العلاقة بين عيد الأضحى واحتفال التقنّع، لكنه يكتشف أن ذلك يكون على حساب إزالة الشخصية الإسلامية من التضحية (54). ويلاحظ وجود رجل مكسو بالجلود بين قبيلة سكتانة Sektana المجاورة لقبيلة آيت ميزان Ait Mizane ، كما يذكر أن المرء يواجه شخصيات مثل اليهودي والحداد فضلاً عن شخصية أخرى تقوم بتشغيل منفاخ الحداد. وينتبه لاووس إلى أن وجود اليهودي مسألة عامة في احتفالات شمال أفريقيا الكرنفالية، كما انه يتلاءم مع الاحتفال الذي يماثل فيه نحر الضحية رؤية ضحية الإله التي تمثل السنة القديمة المثقلة بالشرور المحدقة بالإنسانية. ولعل ثيمتيّ الشخصيات اليهودية وكبش الفداء مغروستان تلقائيا في أذهان الممثلين (55).
ويفسر لاووس الاحتفالات الكرنفالية كلها، سواء أكانت تحدث أثناء عيد الأضحى أم عاشوراء، وسواء أكانت تميز العيد الموسمي أم حدثاً ما في التقويم الشمسي، بالاعتماد على الفرضية ذاتها: دراما موت الإله وبعثه حيث يتم الاحتفال باقتراب السنة من نهايتها ( أي تأفل وتموت ) وبداية زمن جديد. ويتبنى دين زراعي قديم، يعتمد تجدد الطبيعة، ممارسات أدخلتها أديان جديدة: المسيحية ومن بعدها الإسلام. وتقدم هذه الآراء مادة جاهزة لمعلومات إدوارد ويسترمارك التجريبية ونقده على نحو مكثف للغاية ولا يخلو من سخرية.
ونشر ويسترمارك،عام 1926، عمله الرئيس عن المغرب بعد زيارات مكثفة للمنطقة(56). وقد ركز بحثه على شمال البلاد، أما البقية فكانت عرضاً واضحاً وذكياً معضداً بالكثير من الملاحظات الدقيقة. وقد استعمل منطقاً فكرياً ينظم ملاحظاته ومعلوماته عن المنطقة. وقد أضفى هذا المنهج على عمله صفة الملف الهائل الذي يبحث فيه المرء عبثاً عن تفسيرات متقاربة. ومع ذلك، تبدو تعليقات ويسترمارك عن الرجل الذي يرتدي جلود الماعز واضحة وقد قدمها أول الأمر في " الطقوس والاعتقاد في المغرب " Ritual and Belief in Morocco ، ويعود إلى الموضوع ذاته في محاضراته التي نشرها في " البقايا الوثنية في الحضارة الإسلامية " Pagan Survivals in Mohammedan Civilization.
ومع وجود الكثير من الاختلافات، يتضمن هذا الاحتفال شخصية مركزية ترتدي جلود الأضاحي، فضلاً عن زوجته (المسلمة) ويهودية تحل محلها أثناء غيابها. وتكتمل الصورة بالشخصيات اليهودية، وبالحيوانات أحيانا ( الأسد، الجمل، البغل،… الخ ) وتتوجه النسوة إلى بوجلود كي يضربهن ليهبهن الخصب وينجبن أبناء أصحاء. وتبعاً للظروف، يقوم الرجل المرتدي الجلود أو اليهودي بذر الرماد على أولئك الذين يجرءون على الاقتراب منهم، كما أن الحيوانات التي يتم تمثيلها لا تكون من حيوانات الحِمل غالباً. وفي بعض الأحيان يظهر إلى جانب بوجلود واليهود رجل عجوز ضعيف وعاجز جنسيا لا يستطيع إرضاء زوجته، فضلا عن وجود المسيحيين. ويضم المشهد أحيانا خنازير أيضاً، ويقودهم بوجلود جميعا في موكب مصحوب بفرقة من العازفين تتجول من منزل إلى آخر أو من خيمة إلى أخرى لجمع الهبات وليُبارك النسوة والأطفال. وعلى الرغم من أن الرجل الذي يرتدي الجلود يطرد الشر بعيدا ويحمل البركة، يعمل السكان على السخرية منه دوماً ومهاجمته ودفعه، بل ضربه، وطرده بعيدا عن مساكنهم (57).
ويتطلع دوتيه ولاووس إلى الماضي، ولا أعني به الماضي الإسلامي للشعوب التي يصفون عاداتها، بل أبعد من ذلك وصولا إلى العصور الرومانية والمسيحية وإلى عصور أقدم من ذلك تصل إلى أبعد من الماضي البربري. ولم يترك اوبين وبيارني أي تفسير لما شاهداه. أما مولييرا فيجعل الاحتفال في مصاف الكثير من العلامات التي يراها ترمز للتفسخ ومحاكاة للفساد المرافق لاحتفال ساتورناليا: أي، الوثنية الموروثة من الرومان.
إن هذا البحث عن ماض، يصبح فيه التاريخ الإسلامي لشمال أفريقيا حكاية بسيطة هامشية، سيصل أقصى شكل له على يد من خَلَف مولييرا، ومن بينهم دوتيه ولاووس اللذين مهدا الطريق ولفقا العقيدة. وبعد ذلك، تبدي الأنثربولوجيا الإنجليزية أيضاً اهتماما قليلا بشمال أفريقيا. فالبحر المتوسط المسلم مقسّم أصلاً بين خصوم استعماريين، وكان المغرب حصة الفرنسيين، ومع ذلك، يجري ويسترمارك بحثا مكثفا في المغرب مبديا اهتماما شديداً بـ "البقايا الوثنية ". ومن هذه النقطة تحديداً، قلّما يختلف منهجه عن "الاهتمامات العلمية" الكبرى التي ألهمت بقية الدارسين ؛ فدراسة الإسلام وأعرافه تقع في دائرة الاستشراق ؛ أما دراسة العادات والأخلاق والسلوك العام، ولا سيما البربرية، فتخص الأثنولوجيا.
أما بالنسبة للمغرب تحديداً فقد غاص الباحثون، بعد المرحلة الاستكشافية، بدراسة منظمة للمدن والقبائل، ثم ألّفوا الارشيفات، وقاموا آخر الأمر ببحوث انتقلت من الاثنوغرافيا إلى محاولة تقديم تفسير نظري من نوع ما (58). وقد أدى تقسيم العمل على هذا النحو إلى دفع دوتيه لدراسة أنواع الأضاحي كافة، بضمنها الإسلامية، لكنه لم يقارب الموضوع من منطلق النظرية بل من النتائج التي توصل إليها الدارسون بخصوص الأضاحي التي وجدوها في أنواع أخرى من التراث. وحذا لاووس حذوه ولم يتطرق إلى التضحية الإسلامية إلا حينما يظن أن بمقدوره البرهنة على انها متفقة ودين بربري أصيل. ويرى كلا المؤلفين ان عيد الأضحى واحتفال التقنّع محض نسخة، شبه متنكرة بألوان إسلامية، لقصة بربر البحر المتوسط الموغلة في القدم: أي، مقتل الإله وبعثه من جديد.
هل ينبغي لنا أن نضيف إلى هذا الانقسام ؛ بين الحقول المعرفية التي تدرس الإسلام تحت الهيمنة الأجنبية، تاريخ اثنولوجيا الدين في المغرب العربي على وجه خاص؟ مازالت القصة غير معروفة جيدا إلى الآن، ولا يستطيع المرء إلا الإشارة إلى الموقع الهامشي لممارسيها فيما يخص الدوائر التي انجذبت حول مدرسة الحوليات آنذاك، إذ لم تثر شمال أفريقيا والشرق الأدنى إلا قدرا قليلا من الاهتمام هناك، كما ظلت الاثنوغرافيا وتفسيرها شأنا من شؤون الإداريين والمؤولين ووكلاء النظام الإداري لمدة طويلة. ولعل انتقاءيتهم، التي ربما تكون نتيجة البعد، هي التي تفسر اعتمادهم على أعمال كل من فريزر وموس (59).
وهذا بعيد عن القول أن مثل هذا التقسيم للعمل العلمي يعتمد اعتبارات أكاديمية محضة. وبإمكان المرء ان يخمن بسهولة انه مرتبط بمصالح وعلاقات سياسية. كما أن سياسة العلم المعنية، في هذه الحالة، بإيجاد دين بربري، قد عززتها الإسهامات المسيحية التي تقرّب هذه الثقافة من القيم الغربية. وإلى جانب كون هذا الاتجاه يؤثر في الاثنوغرافيا، فإنه يتخلل ممارسة التاريخ ويؤدي إلى نظرية تطور ضلت طريقها بفعل الأسلمة والتعريب وليس ثمة حاجة للتعريج على حقيقة ساطعة تحيط بنطاق الخطاب العلمي بأكمله وتذهب إلى ما وراء دراسة الممارسات الطقوسية والأفكار الدينية التي تشكل مجالات اهتمامنا الوحيدة هنا (60).
إن هذا البحث عن الخصوصية، والمنطلق من اعتبارات سياسية تبين حدود السياسة العلمية، يؤكد حقول دراسة معينة. إذ ينتج عن النظم التأويلية الكبرى في العصر استعمال مفاهيم معينة لتفسير حقائق معروفة أو لتغيير مسار بحث معين من اجل الوصول إلى معلومات جديدة. فالتطورية ونزعة المقارنة (61) عند فريزر لهما تأثير فاعل في دوتيه ولاووس. ومجددا نقول أن التطورية التي اختاراها تجعل من التضحية المسيحية ذروة الاتجاه الذي يحدد معايير الاعتقادات والممارسات الأخرى كلها. ولعله كان من الطبيعي ان يتطور دين بربري بالاتجاه الذي يوصله إلى التصور المطلق للتضحية لولا العقبات التي وضعها الإسلام في طريقه.
من الممكن اقتفاء أثر هذا الرأي،الذي صاغ دوتيه جزءاً واضحاً منه، في أعمال لاووس أيضاً.فلاووس يعود لثيمات سلفه، بالضبط مثل ويسترمارك الذي يرجع إلى مدرسة الحوليات من أجل المقاربة التي ستمكنه من تحدي نتائجها. سألقي نظرة عجلى على هذا الخلاف قبل تقديم وجهة نظر عامة تكون مهادا يستند إليه بحثي عن تلك الإسهامات الأولى.
من الصعب القول إن إدمون دوتيه لم يكن عارفاً بعمل مدرس