مكتبة إيلاف

قصائد نصيف الناصري

إلى مؤيد عبد الستار

1 ـ ………

تمنحنا الطبيعة القلق والذعر من الموت في كل آنٍ، لكن هل يمكننا أن نعيش من دون كره الموت؟
هل نستطيع أن نمزج الموت بتجارب حيواتنا؟ هل فكرنا في الخلود ونحن نعايش موتنا بلا كرامة؟
نريد الحكمة لا الخلاص
الرفق لا الغفران.
يا أخوتي، احكموا إغلاق البرق على وجوهكم، شدوا الشمس وأنهار السماء والأبواب السرية
للشموع حول خطواتكم المتعثرة بشراسة، ورثتنا بين صحراء نيران انتظارهم يهزون قبضاتهم مجتازين
أدغال الأيام، حيث وثبات نعاسهم التي تتوسد نفسها عند انعكاس بروقنا المتيقظة.
الأمل عطية عباد الشمس وأضداده التي قدستها شعوب الكلمة، عطية الصيف وهدناته.
براهيننا وصرخاتنا المترنحة في أعراس ليل العالم المهشمة، موسيقى رهينة
تكابد عبر الأروقة الذهبية لدهاليزنا القديمة والمتناثرة ونحن نزيح الستائر
عن ينابيع الوجود لنتعذب في غبطة صلواتنا الخشنة.
أين خياط الموت الذي خاط لحيواتنا أكفانها المرتجفة في قيلولتنا الأولى وسط
ظلال رغباتنا التي جمدتها صاعقة الفناء في الظهيرة المنتوفة الريش؟
بين شجرات رماد الإنسان
نار الأبدية.

2ـ الطبيعة ميراثنا الذي يتعارض مع التاريخ

الطبيعة ميراثنا الذي يتعارض مع التاريخ
ميثولوجيا ثابتة تنفض الغبار عن رياضياتها وتنفخ النار في أهداب النجوم
الثقيلة، في شفرة الأيام،في الإشارة المحمومة المنطلقة من الموسيقى.
معرفة متجددة عن الذهب لانتزاع الرحلات وخطوط القتال التي تنعطف وتراوغ لحروبنا القديمة.
تنام الطبيعة مع زوجها الموت في جميع الفصول وتجدد القرابة بين الحيوان والمطر،
بين قطعة الخشب والصاعقة، بين الوردة العصية النظيفة ومخلب الصقر.
نغم متقطع لم تحدثه لغة، بل نبع موت تتقافز فيه الصخور الحادة والأشنات.
تشحذ الطبيعة نفسها الأسيانة بنفسها وتمزق أحلامنا المعلقة في أروقة القنديل.
الموت.

3 ـ درس الطبيعة

تستعر جمرة الفناء في ليل صيفنا المتدلي بلا فضة
الكائنات تتحلل وتتخذ أشكالاً هلامية
شفاهنا المبللة بأمطار السهاد، ترتعش بلا أمل أو وصية في صحراء العالم
وقناديل آمالنا تطفئها ثلوج السراب. ما هي القيمة الكلية لحياتنا الفانية؟
ليست الساعات الممنوحة لنا إلا قطرات في محيطات الزمان. نفتح باب الأبدية،
يسحبنا الظل المعتم لوجودنا ونسأل:هل يدمر الموت الحياة أم الوجود؟
أيتها الطبيعة :{يا من تحررينا من الحب والألم والميلاد والموت}
أحقاً إن هذا الإنسان ـ الكرستال الذي يمتلئ جمالا وقداسة كلما صعد
درجة صوب الهاوية،وهذه النمور التي تعضد الصاعقة، والطيور المنعمة
التي تمطر فوق الأشجار،والأسماك والبذور والفراشات التي تتنفس هواء
المروج،والدغل والحشرات الهائجة والمختفية في لغاتها الوحشية والأصوات
والعطور المتأرجحة بين أعناقنا، ستختفي كلها بعد وقت قصير جداً،
ويسهر عليها الموت بثلوجه الأثيرة؟
الحافات المجدبة.
التحلل.


4 ـ باب الوجود المترنح من شدة الوحشة

انتصار بلا هدف
نسيج لا مرئي
حين تطلب ميتة جميلة تشبه مفاتيح سنة جديدة. البذرة التي تتعفن في داخلك
جرثومة ربيتها وسهرت من أجلها طوال حياتك. وسط سأمك العظيم في الوجود
ورعبك من اللاوجود، سأحدثك عن هيام أمك الطبيعة في الموت،
أنت، يا من تبحث عن الخلود تحت ركام من الأوهام:
ولادة ورقة
موت شجرة
ولادة شرارة
انطفاء بركان
ولادة ريشة
موت غيمة طيور
وأنت تصعد السلم المفتوح على الهاوية
تذكر، ليس موتك كارثة، بل بذرة تتعفن في كل حين.
هل نستطيع السير في طرقات العالم من دون أحلام تقود خطانا المتعثرة؟
هل تضيء القصيدة ظلمات الوجود أو تضفي تأليهاً وكمالاً على حيواتنا؟
لا أمل سوى نحيب يائس:
يا موت، تقدم بمحراثك الرحيم وأزح صخرتك الجاثمة فوق أعناقنا المتدلية.
يالها من هاوية واسعة، هاوية العدم واللازمان. لا نافذة تنكشف منها ظلال الطبيعة
ولا اختراق للصمت
في فضاء الغموض
ولا أصداء للكلمة
لاشيء يوقظنا أو يدلنا على باب الوجود المترنح
من شدة الوحشة.


5 ـ هاوية مصائرنا المتعثرة

حياتنا القصيرة تحت نارك الأبدية يا الله، فكاهة بلا معنى
مأساة يغلفها العبث. لماذا يفنى كل ما في العالم؟
ما جدوى العالم إذا كان زائلا ً؟
أبحث دائماً في الكتب المقدسة وهياكل الطبيعة عن كلمة ـ شجرة
يتوارى خلفها النور الذي صنعته أوهامنا وخيباتنا بانتظار موتنا الذي
نجهله تماما ً، وأنت يا الله، تنام بسلام في {قانونك الخفي}وتتركنا نتيه
في صحراء مليئة بأوهام ورموز تتنفس فيها مصائرنا المتعثرة.
نومنا الذي تغمره أعشاب الشواطئ السعيدة بانقطاعاتها عن الجذور
ينكتب طهره في ارتعاشة ظلمات الهاوية.
ليس ثمة ثمار قناديل في وجوهنا التي تصوب نظراتها إلى الأعالي.
يا إله هدناتنا المنخفضة
إله الكلمة المتقنعة
إله الصرخة المنزوعة الأحشاء في تعاقب براهيننا الكلية
انصرنا يا وهم الأسرى وصالحنا مع الموت
نجنا وامسح دماء عبيدك المسفوكة على الطرقات
ضعنا في المزالق، وفي المهالك تاهت خطواتنا
اظهر يا إله عطفك، يبتهج الكائن
يفرح العالم.

6 ـ المادة، الاحساسات، الفكرة، الذرات

في الحجر، الأنهار، العشب، الفضاء، الجبال ، الكواكب،
عين الحيوان، المعابد، ريش الزمن، يد السنبلة الممدودة،
تنفس الغصن تحت الثلج، لا وجود للروح ولا للذهن
كيف تصل الروح حتى تتحرر من المادة إلى العليقة المشتعلة
في ما وراء الخليقة؟ هل الغبطة في اللامتناهي
أم على التراب والطبيعة ـ الخديعة؟
في شوقنا وعطشنا إلى اللامرئي نخترع الآلهة من أجل المحتوى
الرمزي للوصول إلى ينابيع الأبدية.
موت في الموت
وحب في الموت
تدور الذرات
وتتفاعل الذبذبات
والعقيق الأزرق للروح يتلظى في ماهية عذاباتنا الأزلية.
آلهتنا صور وأساطير
المسيح لا يقبل التناسخ الهندوسي
وبوذا يرفض التثليث المسيحي
هل للعالم غاية؟
هل له علة أو مغزى؟
في هذه الزهرة النحيلة المرتعشة في ليل الصيف:
البتلة، التويج، الساق، النسغ، المدقة، الأوراق،
وحده الجمال ـ قنديل الروح
يشع ويمطر من سماء المادة التي تحتضن الأزل.

7 ـ ضجر الإنسان الذي يرحل من دون أمل

تماثيل منحوتة من ينابيع عتيقة. تماثيل ضجر وتململ
تماثيل ظلام وحجارة كريمة، ضجر في الشهوة ـ الصقيع
في أنفاسنا التي تتضور من الجوع، في الحشرجات العميقة لوعودنا المندفعة أمام تعفناتها،
في وجوهنا المعلقة والخبيئة في حافات الظلال والمفتوحة على أرض القبلة
في مخالب النار المتسلحة بشهقات الأنهار
في صمت الصيف الذي يهدم باندفاعاته السدود والأعمدة العالية لضجرنا الشائخ
في سهاد المرجان والاخطبوطات الذي يتألق في انعطاف الموجة
المزدوجة. كيف أنزع القناع عنك يا كلمة مبددة،
لا صوتها يسهر ولا ثمرتها تجرح البركان؟
شواطئ انتظارنا مليئة بالطحالب والريش والأصداف والغبار
بأي حجر نلوذ حين يتقدم خر يفنا، دافعاً أمامه أثدائه المترجرجة والمتشابكة؟
تهبط البذرة من سلم الليل ـ المرآة، وتتوسد خشخشاتها التي ادخرتها لأحلام الصيف؟
محراث الضجر يحفر تربة عظامنا الشائهة في دهاليز تململها، ضجر الفضاء
ضجر الأمكنة والعصور كلها، ضجر النظرة المملحة للفهد الذي يكمن للطريدة
ضجر الإبرة أمام أجنحتها الخضر التي لها عيون منبطحة
ضجر المياه فوق الأرض الصخرية المختنقة في عطشها
ضجر الإنسان الذي يرحل من دون أمل أو ظل متحفز
على أبواب العالم المتصدعة. الكينونة، الإرادة،،الفعل
ضجر الولادة المتشابهة من دون أغنية ولا كلمة مؤرقة
ضجر الوسادة المنكسة للحظة الموت المعتمرة رائحة الهاوية،
يا إله ضجرنا، ترتد صلواتنا إليك مرتطمة برماد تضرعاتنا الشائكة
امنحنا صاعقة نحيي فيها تمزقاتك وأهدابك المظفورة ليأسها وتعفناتها
امنحنا مرآة نهدئ فيها جنوناتك التي تختزل وتحلج حيواتنا النهمة
لامتحان ضجرها وتفاهاته القديمة. نيران سهادنا مرصعة بالصرخات والرياح الثقيلة.
لماذا لا توقظنا البراكين ولا هفهفة السنبلة؟
هل نحن نسور توجعها أعشاشها المأهولة بالقبور المتألمة والمتأوهة؟
حيواتنا طرق بلا علامات. لن نصل إلى فجر العتبة الهادية
ولن نجد بذور المعادن المتأججة التي تفيض في ترملها،
حيث تمتد ظلال الأبدية إلى ما لانهاية،
شعلة الضجر تبحث عن جهة متنفسة للعالم المزدحم بالأنقاض
وأجنحة الساعات الهرمة.
ليل العشبة.

8 ـ شعلة الماضي

يا موت: امنحنا شمعة أخيرة، لم تبق ِ لنا العاصفة ريشة نجمة ولا غصناً
نلوذ برحابه. في أعالي منابع أ نهارنا تنبتُ حشائش أحزاننا العالية وتنشر
أريجها فوق هضبات ليل العالم. لنا تحت سماء العراق المشققة منازل أطبقت فوقها الهاوية
ولنا في شجر النخيل المهدم ضوء شفيف. الذكرى شعلة ـ الماضي
والبرق يترك أسلحته العارية فوق التراب بانتظار فجر جديد يعيد
للأرض شفافيتها، نعمة الديمومة والغفران،
قلنا : هذه الأحلام الأسيرة، لهب السيف الذي يدفئ أسرارنا الكبيرة
وقلنا : هل نتلهف إلى أيامنا التي دفناها هناك معلقة بين السفح والهاوية؟
أين نجد الآن خزائن الطفولة التي تحنو على رماد مصائرنا المتأرجحة
بين الينابيع والحجارة؟
هذه الجروح العميقة التي تئن وتتنهد في كهوف حاضرنا المنزلق صوب
الهاوية، وعود آمال تغزل لنا السعف الدفين وتدلنا على طريق الرابية.
أيتها الذكرى ـ يا شعلة الماضي
اصعدي
وليكن لهبك العاصف دليلنا إلى الأدراج.

9 ـ في حديقة سعدي يوسف

اكتشفت هذه الكلمة
عندما كنت أتأمل شجيرة الحبق الوحيدة في حديقة سعدي يوسف
في عمان، اكتشفتها في اللحظة التي تذكرت فيها ذلك الكوخ المنعزل
في { راوندوز } الذي قصفته مدفعية ميدان الفرقة 23 عام 1987
وقتل فيه شاعر كردي، هذه الكلمة التي اكتشفتها
فككت لي المعنى الغامض لهذه الجبال التي عبرتها عدة مرات، حاملاً فوق
رأسي نذر النسور. أي لهب كانت تخفيه هذه الكلمة؟
أحياناً كانت تغطسني في بئر من الدماء وتعلمني المعصية، وأحياناً أخرى
كنت أخونها فتهرب مني لائذة بصمتها الذي يعذب صرخات العالم :
ليل الأبدية يضيء مقبض القصيدة
ويزيح الموت عن طريق الشاعر.

10 ـ البقاء لكلمته العميقة الخالدة

البقاء لكلمته العميقة الخالدة
هو اليعسوب الرائي، غواص الأعماق اللانهائية
راصد النهنهات في الأعالي، وارث الأرض والسماء ومقاليدهما
الشرارة المضيئة دائماً في الهاوية، الذي يكشف القناع عن أساس الوجود
والذي يلقي على الليل النهار ويقوي عزائمكم ويديم صمودكم
ضد التفسخات والذي يحرركم من سجن هذا العالم المشؤوم
ويخلصكم من عدوانية الطغاة المتوحشين ذوي العقول الشيطانية.
البقاء لكلمته العميقة، النار الكبيرة التي نضجت للتو في جنائن الحدس
لا يطلب منكم المثول خاشعين ليعظكم
بل ليمنحكم الشعلة ويفك رهائنكم ويطرد عنكم الخمول
والانهزامات ويعلمكم التبختر والمواجهة أمام الفناء
البقاء لكلمته
هو الشاعر ـ اليعسوب.

11 ـ الإله والملك في أخطاء أدونيس النحوية

في قصيدة مليئة بالأخطاء النحوية لأدونيس مكتوبة عام 1981
اكتشفت كيف يتحول الإنسان إلى إله والموت إلى ملك.
أجمل ما فينا يختطفه الموت وتنهشه مخالب الزمن الحادة
لكن هذه القصيدة المتنفسة والأكثر سطوعاً من الهاوية
هي إرثنا الباقي، نحن الشعراء سدنة العالم
سنرفع الراية فوق خرائب فجر الإنسان.
هذه الشجرة التي تخرج منها الغابة، وتخرج من الغابة الإوزة الجميلة
في طيرانها المنير، هي مغامرتنا في الصراع ضد الصرخات والأصفاد
التي تكبل الإنسان، أكفنا المرتعشة مع موسيقى القنديل
عارية إلا من الجمرة الدائمة.

12 ـ الديمومة تتنفس في ليل الشجرة

شفافية كينونات، انعكاسات بواسطة الكلمة النحلة،
الوردة المتيقظة والعاشقة لانفجارات العالم التي نلمسها في تلاحم
هاويته وصيرورته، في تنفساتها، في تنهداتها ، تكبر وتزداد جمالاً كلما تصلبت
أغصانها واقتربت من الموت، نشوة مضادة، توهجات مكبوتة لسماء ترفع
أدراجها وتنحني لمرور الغيوم ، الديمومة تتنفس في ليل الشجرة وتحطم الأحلام.
جروح أشواقنا السرمدية انفتحت فيها عيوننا على
أنهار تسيل فيها الفراشات والمدن القديمة،
صيحة الثمرة المحفورة في غبار الروح،تلمسها إشعاعات الوجود
كما تلمس شظية تسقط من هندسة الزمن.

13 ـ عطش الشهداء

كنت أحلم بانفجارات الذهب والنوم في المروج التي تعطرها الصاعقة
بالحرية توقظ كرستالات الكائن، بالمحاصيل الضائعة التي يتقنع فيها طائر أبو الحناء
بالصحراء رقيقة الجاذبية، بالمرأة ـ الإعصار
بالغبطة تتقهقر في تنفس المفاتيح، بالينابيع تطرد الصيف وتهدي الرماد الى القبلة
بالزمن ـ الشراع، بالأفعى تغفو على ركبتي المنحوتة في سهر الشفق،
لا أحلام الآن، أريد النوم فقط لأغني عطش الشهداء.

14 ـ نصبوا الشراك بين الأدغال

جاءوا عبر الوادي المظلم يتقدمهم رتل بغالهم المكتظة بالحشرات و قناديل
خصوما تهم التي تطلق حمولتها من بعيد. أسلحتهم المزيتة حجبت عنا
قيلولة النجوم العتيقة، وسجونهم أيقظت ذخائرنا من نومها الهادئ،
من أين جاء رجال المكائد هؤلاء؟ من دلهم على طرقاتنا وأعشاشنا اللامرئية؟
في الوادي كانت لنا ضباء ترعى نباتات الشمرة، كانت لنا الثعالب المستأنسة لخبثها.
الغزاة انهمكوا في هندسة أعمالهم الدافئة. نصبوا الشراك بين الأدغال والثمار السهرانة
أخذوا النيازك ـ الغنائم / وكلابهم تعوي خلف النهر الأكثر جموداً من صرخاتنا المستسلمة.


15 ـ صيدلية الأبدية

ظلال أيامنا المنتصبة، أعمدة رومانية لا يوقظها العطش ولا أنفاسنا
المتقطعة والمطبوعة في كتب الصيف.
{ الماضي ـ الذهب
أنت دعوته بالأب الجميل
مات من دون أن تراه
هل كان لديك الوقت لتحضر جنازته؟
كنت منشغلا ً بقص وتشذيب حشائش موتك
تهدمت أسوار الوطن ودخل الأعداء بأشجارهم المغلقة من جديد }
والآن ـ لا جرح يغفو ولا صرخة تزيح الغبار عن عشب حيواتنا المشققة
ظلال أيامنا المنتصبة والمحترسة في كل الأزمنة، مستترة في حشائش أوثانها
ولا تومئ للعاصفة، والظلام العذب يسند أجراسه بحذر خشية الكوكب
الذي يرطن محملاً بأسلحته الكبيرة ويمهد الطريق للقادمين إلى صيدلية الأبدية.
وحدها الدمعة الجليلة جلال الحجر، الدمعة التي نأسرها ونكسرها ولا تتألم
برق سماء أخرى تحضن تحت قصدير تأملاتها المرتعشة لغات وحروب الماضي.
ما الذي يجعلنا نتعذب في غبطة الظلال العصية والممتنعة؟
القرابين المعلقة.

16 ـ الهاوية القنديل

حياتي مترنحة، مرتعشة تهزهزها العادات مثل وعود تمطت وتهرأت
في جغرافيتها. ظلامي الذي بستنته يعريني كما برق يأسر البحر
ويضيء الحافات في الهاوية المحطمة. في أسرار الطحالب، في خيانة اليد وعشبها الطويل
في ضوء السنبلة المعدة للقربان، في الأرض المحفورة حيث امتحان الجذور والأثداء
في الشفاه الممتدة على الشواطئ ـ الأبواب، في دوران الأفلاك، في البذور التي ينعشها صوت الصيف
سأذهب إلى حيث لا تدركني حياتي، الحلم قناعي الحاضر القديم، عشب صرخة يختر قني، يكو نني،
مياه القنديل في تماسكها، في تقاطعها، في توافقها، رغبات مختومة في الظلمات،
هل الوجود والعدم يتعارضان دائماً؟ هل يذوبان معا في شكل { ما فوق ـ الوجود }؟
هل الثمرة التي تطلب وجودها هي التي تدمره؟ هل سكن المنفى فينا نحن الذين نحيا في اللاوجود؟
المتأمل يرى كل شيء إلا نفسه حين يهدم الدرج بعد أن يصعد إلى الهاوية،
عين الشاعر المنقلبة، وميض هاوية لا قعر لها، الهاوية للنشور، الصيف الليل في تعطفه وتحنناته على الغرباء
الهاوية قبر القوس، الكلمة ثدي القنديل، الهاوية النمور ضد العدالة وتوحشها، الدمعة للتدنيس
الهاوية تقودك إلى الآلهة، نيران الموتى حدائق تنفتح على الضفاف
الهاوية تتمطى بي، هل يحارب الملوك من الضجر؟ الهاوية راية يعجز الجبل عن تركيزها، الجبل الريش
الهاوية تتفكك في تململها، قمح الأدلاء في أرض التيه
سأخرج من حياتي، أدخل في الهاوية، تستقبلني بحنو صاعقة الحلم وتريني العالم خارج أسواره الحصينة.
هل يذهب المنفي إلى الحقول الموقدة
حين تبكي الشموع؟

17 ـ الباب الوردي الأكثر سهراً من الثلج


المرتعش في المرآة الجانبية
ستموت هنا وحيداً حيث نفيت
ستنسى هنا كما لو عشت حياتك، نحلة ضجرة في أشجار لا يملكها
أحد، ستحمل صليبك من دون مشيعين أو رخامة يكتب فيها اسمك
عبوديتك الهادئة واللصيقة لشقوق القصيدة، أحلام تنغلق على نفسها
في مواجهة البحر ومطرقته الأكثر ضخامة من ليالي المنفى الثقيلة.
دائما في النيران المربوطة بجروح القتلى، مع صيحات الطيور
مع الجراد الذي يحدق في مرآة الأشجار المحروثة
مع الفراغ ونوافذ دهاليزه المغلقة
ستبقى من دون ضوء أو نسيم أجنحة يدفع الأسلاك عن جروحك
المفتوحة، سينسونك، ستكون ثمة دمعة وحيدة ويابسة وراء
شعلتك التي خلعتها بإهمال على الرصيف، الحياة العاصفة التي عشت،
الحروب التي حطمتك،
الوطن الذي خذلك،
الخراب في أعالي الأنهار، والظلام ينطبق على الأرض النبية
حيث لا ثمرة تستيقظ ولا مطر يحنو في صراخه على سياج الحديقة.
كم وددت أن تكون جمرة تدل الطريق إلى الغريب
أو قافلة تدل المدينة المتنهدة إلى الحرب؟
آه، أيها القصب النقيض الشديد الصمت
أيها الباب الوردي الأكثر سهراً من الثلج المرتعش في المرآة الجانبية
قارعو طبول الهزيمة يخرجون إلى العيد ولا يمسحون دموعهم.
زمن الدهليز ـ الخيانة
للذين يعلقون صور الأجداد على الجدران الرمادية الخضر.


18 ـ دليلنا الذي كفناه باستقامة


الكلمة عيادتي
أيقظتني، أنهكتني، طاردتني وفي زعفرانها نمتُ وتدثرت وتواضعت
حين انقضت على آمالي صقور السجن ذات المخالب اللينة السخونة،
غسلت في نيرانها السهرانة خطيئتي ونسجت كفني وضوء الأبدية
أكلت من خبز قربانها وفي ظلال تماثيلها اللامرئية تطهرت.
هجرات في المجاهل، في الشقوق، في الأنهار، السفوح، الهاوية، الخزائن.
الكلمة ـ السحاب على الكتف
ضوء في سقف اليد
وفوق الرأس طعم النجوم التي مضغتها الشجرة.
هل تعود إلى أبوابك المغلقة وتناقضاتك الدائمة؟
النبع الذي ينزف من الصخرة العارية المغطاة بذهب الأحلام الرقيق
أكان دمعتك التي ربيتها في حقول القمح منذ سنوات؟
في الظلال الموحشة، في أظفارها الشاذة الجميلة
في أنقاض المهد ـ الضريح
في صيحة الريح الوحشية لسلالم أ نهارنا العتيقة
كانت حشرجاتنا التي تجمدت هناك تصعد دائماً من دون جمرة
رفيقة، وحيدة فوق النوافذ الصدئة، في العتمة المنقلبة
الآن ـ امتدت سنوات النفي وما عاد المهد ـ الحلم هو ما تأمل في رؤيته
أو صيانة عهوده، صعدت الأشواك في مرآة ليلك الكهل.
في الكلمة عثرت على تعزية، وفي التعزية
على حصان لا يجرح موتك في الريح التي تدفع أشرعته.
هذا الغصن المقطوع الذي يظلل الغريق العاشق
هو الحصان الذي يحمحم عند بوابة الليل، الغرباء وضعوه هناك.
الكلمة هنا من أجل تضميد جروح العالم
من أجل الوعود التي لم يف بها أخوتنا الحكماء، أصهار المكيدة
والنجوم المتأرجحة المختفية والخائنة.
في المجاهل، في خشخشات أوراق أشجارها الخفيفة
يصعد هناك دليلنا الذي كفناه باستقامة ويحرث
الأرض الخطرة للذين يحملون صلبانهم.
الكلمة ـ الحرية.


19 ـ ميراث شيوخنا الذي نحافظ عليه ونصونه من الصدأ والنسيان

من أية تخوم هبت علينا رياح الوطن العنيفة ونحن في هذه الأصقاع الغريبة
ندشن قبور شيوخنا وأحلامهم الخلابة؟
{ تساور الرغبة الشاعر في الموت طوال حياته }
دفنا الشيوخ تحت حائط سور مظلم ودفنا ريشهم وساعاتهم ومحفوظا تهم
لم نكتب الأسماء ولا تواريخ الميلاد والموت، لأنهم لم يهبوا للدفاع عنا
حين اجتاحنا طوفان القتل في بيوت وجبال وبراري الوطن،
استعذبوا الخروج وناموا في العراء يتوسدون خطب مؤتمراتهم
وسكاكين انشقاقا تهم، صقور هرمة تنتحب في أقفاص صنعتها بنفسها، تمشط أجنحتها
رياح المنفى ويضيئها الحنين، هكذا اعتبرنا شيوخنا حين ألقينا عليهم
النظرة الأخيرة، أولئك الذين لم يحطموا الأبواب بالأسلحة ولم يوقظوا براكيننا.
رياح، رياح تتشابه وتتماثل مع القبور التي أعدت لنا في ليل المنفى.
ميراث شيوخنا الذي نحافظ عليه ونصونه من الصدأ والنسيان.

20 ـ أداعب موتي وأهزهز مرآته في دهليز البجعة

في هذا الدهليز
عشيقة خائنة تدس السم في طعام البجعة، لسانها العفيف يقطر
غلظة وسفالة، أوثقتها عند منتصف الليل في سلم مهدم
نادت على محاربين من العصور الوسطى، جعلوني أنظف حدائق
في كوكب آخر، أغرز سكاكين في ليمون موضوع على طاولات
غير موجودة
سال دمي
وسقطت مبعثراً
تعلقت أنفاسي بمسامير مكسورة
نهضت وضمدت جروحي لاهثاً تحت أشجار نجمة تقلب صفحات
غيمة مستعجلة. المحاربون الغلاظ بأسلحتهم المشحوذة وجزما تهم
الضخمة، راحوا يثبتون كلمات محروقة فوق جبيني وتحت قدمي
خلعوا ثيابي
وسلبوني شبابي
لملمت نفسي وتظاهرت بالموت، تركوني معرى أداعب موتي وأهزهز
مرآته في الدهليز مع البجعة.

21 ـ أرض التيجان المزروعة على الأحلام الجريحة

أرض التيجان المزروعة على الأحلام الجريحة
الأرض التي شردت أبنائها وهدمت جسورهم المترنحة
متذمرة حتى من حقولها التي تحترق وتنزف، ومن جبالها التي تنعطف في طرق لا مرئية
أرض ـ سبخة
بكينا عليها وصلينا من أجل أن يعود إليها ورثتها القتلى
لكنها ألقت بصلواتنا إلى الهاوية، وبلا ندم أو حكمة
ظلت نائمة في خمودها المفتوح على مصراعيه.


22 ـ مصابيح صيفنا العليلة ـ أشجار فوق الطيور

يا بلاد الهاوية
في عوائك المستمر منذ قرون، في رقادك المجرم الطويل، في أوهامك المتجددة دائماً
في شواطئك الذهب التي بلا زنا بق أو أجراس، تصعد الرقصة القصيرة
لحشراتنا التي تستوطن ليل القتل، أين سطوات صقرك الإمبراطوري الرث الآن؟
أعشاب، أصوات ظلام قبور، جلود كوبرات، أصابع ربيع مسلوخة، ليل مدافع،
والرغبات المرمية في براميل القمامة، والجنرالات فوق التل، والأعداء الذين توهمنا هم،
من عوائك تصنعين أوركسترا تمتد حتى تخوم الأبدية
ومن أيامك المبعثرة على طرقات العالم، تشتلين دمعة حادة
الحافة، ومن حبك المجنون، معبراً لتهريب شهقات الماضي.
يدك التي رملتنا، أغلقت خلفنا الباب وتدثرت في رائحة الأنقاض.
نسمة يابسة تجهل جروح السر وات، يا بلاد الهاوية
أشجار فوق الطيور، حيث تتأرجح مصابيح صيفنا العليلة،
أشجار خمول، ضجر، دوائر، شمس اللا عقل التي تلهث
وراء كلابنا وهي تطوي الرايات،
يا بلاد الهاوية، يا ليلاً ينجرف تحت الأمواج حيث استراحت أحلامنا
مياهك المليئة بالأسرار، مياه سجونك وبطشك، مياه الغبطة العدوة،
مياه معصيتك، مياه الاعدامات، المليئة بالنسيان، الملتوية.

23 ـ فراشات تخطف الجزادين وتعض الأطفال في الشوارع

في أحلامي الأخيرة التقيت بوجوه صدئت تحت ظلال القضبان
التقيت بطيور مليئة بسماوات وبمدن تدل الطوفانات الى البيوت.
هل كانت حياتي التعيسة من صنع يدي؟
ثمة أدلاء بخرائطهم وكاميرا تهم يدلون العاصفة على أشجار أيامي.
ليل عدو، ليل طاغية، آه، يا أرض الذهب اللهب والنخل القتل
تحية لضروعك التي خلقت جناتنا المسيجة بالحراب، تحية لترملك ِوالخراب
تحية لرياحك ِالحانية على الموتى والتراب، تحية لنا نحن ملحك الذي تبعثر في السراب.
أصدقائي الذين ضيعتهم المنافي ووحدتهم القصيدة، ليست لي عطورهم
وليست لهم صرخاتي، في الطريق إليهم كانت حمولتي صورة السياب ونخلة وشظايا قذيفة.
ألقيت عني مذلتي واستلابي وصرخت : وداعاً لأرض عشقناها ودمرتنا
وداعاً لأرض ابتلعت مصائرنا، وداعاً لأرض سلطت القتل علينا
كانت أياما ظالمة يا إلهي، كانت جحيمات
كان القمر العراقي الجميل يصب زيتاً حارقاً وكانت الفراشات
في الشوارع تخطف الجزادين وتعض الأطفال في الشوارع،
كانت كل ندبة في الشمس مقبرة لأحبتنا، وكل غصن ينكسر، فجرنا الذي يموت.
جمجمة هنا وأخرى هناك وما بينهما تتنزه الاطلاقات، الشمس فوق العراق عربة إسعاف
والأمطار سجن.

24 ـ هلاكات ـ وساوس

كلما حدقت في المرآة، لمست موتي وتمددت تحت ليل زئيره اللطيف
هل لي قبر سوى المرآة ؟ هذه الحياة التي عشتها، شظف، قلق، تعب، رعب،
هلاكات، وساوس، فجيعة إثر أخرى تلد وتنمو وتشيخ،
هل للإنسان مزية على الحيوان؟ كلاهما يموت ميتة عادلة.
العشبة، العشبة تكمن للصاعقة في الحقل الضباب.

25 ـ فاتح أسبانيا

تحت عشب النجوم المكسيكية، نجوم الهنود الحمر التي حاولنا دائماً
الإمساك بسكاكين وقائعها المأساوية، رأينا الجندي الأسباني الأكثر
انتظارا للصاعقة من شجرة، يمضغ التعاليم الشيطانية التي أعطتها له
الملكة إيزابيل وربما الملك فردينا ند المنتشي بتطهيره الشامل لشبه
الجزيرة الايبيرية من آخر عدو موري، هذا الجندي محترف القتل
جواب الآفاق بملابسه الرثة وسيفه الأشد لهباً من الجحيم
الذي كان يجلس تحت الأهرامات الازتيكية ويتذكر سنوات شبابه
في معسكرات الأسر عند الموريين في طنجة والقيروان.
ماذا فعل يا اوكتافيو باث بمناجمك ورهبانك وآلهتك التي خلقها
هنديك الأحمر؟ ما الذي تفعله المكسيك بعذراء غواديلوب
وأوهام المسيحية المتحضرة ومصارعة الثيران؟
قمح صخري في فم القديس الهندي، دنس في { حجر الشمس }
وأسبانيا العليلة منذ قرون، كلها قبر لقصيدتك التي هي ضمادها وعطرها.
باث ـ القديس
فاتح أسبانيا.

26 ـ شقة على الطراز السويدي

أعيش هنا منذ شهور في شقة على الطراز السويدي
تهتز حياتي فيها متأرجحة بين الألم والضجر
أين أهرب من رماد الماضي الذي يسيجني بسياجات طويلة؟
أين ألبد من عواء جروحي؟
كل القبور التي شيدتها تهدمت، والحياة في هذه الشقة لا تشبه
تلك التي عشتها في كوخ القصب في [ الناصرية ]ولا ذلك البيت
القبر في بغداد ولا ذلك القسم الداخلي في [ الباب المعظم ] الذي
كنت ألبدُ فيه في هروباتي المتكررة من الخدمة العسكرية،
ولا ذلك الملجأ المقصوف فوق جبل [ نواخين ]ولا تلك الغرفة
المظلمة والرطبة في [ عمان ]، ضع يدك فوق رأسي المتألم
قذائف ثقيلة ستنهض من سباتها، ليل حياتي هنا، دمعة كبيرة
ما أوحش الحياة في شقة على الطراز السويدي،
ـ ما الذي تريده أيها الغجري، يا جواب الطرقات الهرمة ومغني العذابات
واللوعة الشجية؟ ـ [ الجدران بأهلها ] أريد ظل نخلة في هجير العراق
أريد ليل العراق
أريد قبراً بالعراق
أريد ضيم العراق.

27 ـ حديث صاحبة الحانة الأسبانية

جئت حانة [ مالقا ] الأسبانية في [ مالمو ] تثقلني الهموم والأوجاع
أبحث عن انكيدو آخر يمنحني إنسانية السلوى
عن كأس يدفع لي بالمجان أفرغ فيه بعض أحزاني، قالت لي صاحبة الحانة :
ـ [ إلى أين تسعى يا نصيف الناصري
أن الحياة التي تريدها لن تجدها
حين خلقت السلطة المنفى، قدرت الموت على المنفيين واستأثرت
هي وشرطتها بجنات الوطن
أما أنت يا نصيف الناصري فليكن كرشك فارغاً دائماً
وكن حزيناً متحسراً طوال الوقت
وأقم النواح في كل يوم من أيامك
والطم واصرخ صباح مساء
واجعل أسمالك نظيفة وزاهية
واغسل رأسك واستحم بالديون
ومارس العادة العلنية
وافرح الوسادة التي في حضنك
وهذا هو نصيب الشعراء في المنفى.

28 ـ انخيدونا

انخيدونا
بعد سنوات، عندما عرفت إنك تعيشين في ذلك الدير الصغير
بأرض البافاريين، توقعتها أن تصل لأرى بروق الموسيقى
التي منحتني إياها عزلتكِ المسقية بمياه البراكين
توقعتها أن تصل، توقعتها أن تصل، لحظتك الأبدية.
كم من الجبال والأرخبيلات عبرت وفي داخلي يتململ سر انقطاعكِ
عن المجيء إلى الينابيع، ينابيعنا التي نشفت من الشظف والضغينة؟
مازلت بانتظار لحظتكِ تلك، لحظة الديمومة.
الصاعقة.

29ـ النافاجو [ عن أصل النار ]

النافاجو
[ قبيلة هندية في المكسيك ]
كانوا يعتقدون أن الحيوانات أكثر حظاً من البشر
لأنها تمتلك النار.
النمر
والوطواط
والسنجاب
كانوا أصدقاء للنافاجو
حيث منحوهم أجمل ما في الوجود.

30 ـ رسالة إلى حسب الشيخ جعفر

أين تصوب نظراتك يا حسب والأفق مظلم وبهيم؟
هل مازلت تعيش في [بيت الصفيح ] المعلق في سفح مهدم
بجبل [ اللويبدة ] وتصحوا في الفجر مهموماً مع صياح أول ديك؟
أين ولى أضيافك الذين كنت تولم لهم كل مساء؟
انقضى يا حسب زمن الطيبة والكرم والأصدقاء الذين يأكلون زادك
ينفضون عنك من دون أن يتذكرك أحد منهم بكلمة طيبة
هاأنت الآن وحيد، لا عمل، لا مستقبل إلا ما تبعث به إلى صحف
قد توصد أبوابها بوجهك بين ساعة وأخرى، لا ترى أحدا ً، لا تفكر بلقاء أحد
الانتحار ليس حلا ً، والعودة إلى بغداد مستحيلة.

31ـ مرايا صدئة

الأطفال الذين يطاردون الفراشات في الحديقة
والآباء الذين يضطجعون تحت شمس الصيف
والذين ينزهون كلابهم، والذين يغنون ويرقصون، كلهم في سرور ونعمة
إلا أنت الجالس في البعيد على مصطبة متهرئة
نظراتك تكسرات أغصان وأيامك رمل وصبار تسمع ما بينهما
تنفسات الطبيعة المتقطعة. الأشجار في الشفق البعيد مرايا
صدئة تعكس ظلال حياتك على هذه الأرض المتعبة.

32 ـ في الحانة الإيطالية

عبر في [ مالمو ] التي ذكرته بمدينة شاهدها في فيلم الصيف
الماضي جميع الأرصفة والميادين والمنعطفات، كان يبحث عن
عناوين ووجوه أصدقاء موتى وأشياء غامضة تدمي القلب
وحين طال طوافه، اختار ركناً منعزلاً في الحانة الإيطالية الصغيرة
رائحة الماء في النهر المحاذي رفعت ذكرياته الثكلى من سراديبها
وطيور النورس التي حسبها أصدقاء قتلى، كانت تقترب منه
بشدة حتى أن ريشها الذي تركته فوق رأسه كان رسائل من
جنود وشعراء غيبوا تحت التراب، النادلة ذات الملامح
الفلبينية حيته ببلاهة ووضعت كأس الفودكا كمن يضع مكيدة
فوق الطاولة، ظل ساعات يحتسي الفودكا اللاذعة ويتذكر
وجوه شعراء تركهم في عمان وبغداد وأمكنة أخرى
كان حزنه ينماع كما ينماع الملح في الماء
ظل يشرب ويتأمل
يشرب ويتأمل
وحين أسند رأسه إلى الطاولة ذات الشمعدان البيزنطي
بدأ نشيجه المعذب يسمع من بعيد، كان يبكي لوعة
ويرثي منفيين أمواتا وموتى أحياء في منافي وحروب
الوطن ـ القبر.

33ـ سنبلة فارغة


ما من فجر ـ ما من أمل
الموت نجمتنا المضيئة في كل آنٍ.
السنبلة وحدها تعرف كلام الأنهار، تعرف السر وعناده
نغوص عميقاً في أذرع موتنا كما يغوص ألم في جمالات جرمه
موتنا الأليف يطير فوق مداخن ليل العالم وفي الكهوف.
ذبلت آخر كلمة، آخر قلعة شيدناها
الآن ـ نخلط صقورنا مع الظلمة الحانية من أجل الفناء الكامل
المدهون بحشائش موتنا. جفت ضروع الصيف، الأنفاس،
ضوء الأحلام. هذه الكآبة التي تتململ في يدي، زهور لغات
تنتظر الحريق، والبشر الذين ينامون، الذين يموتون في عاداتهم
يكسرون آخر حلم قبل مجيء الفجر.
ألمحها في الكأس، القبلات العميقة المطوقة بالأنفاس المنمحية،
الصرخة، صرخة الموت في متاهته الأمينة، حيث الحياة في قاع ليل الإنسان
سنبلة فارغة.

34ـ وديعتنا من أجل إذلال الليل

هنا أشجار ممدودة باتجاه أعناقنا، تفتح نوافذها الذهبية وتتوسل
رفعنا عن الأرض حيث الريح تكشف مناجم جديدة وساكنة
لملوك رحلوا العام الماضي إلى تخوم بعيدة.
لا سهر يصفو ولا كلمة تتقد في دموعنا الأسيرة.
البرد وطينه المحمل بالألم يسكن مرآتنا ويهدم
أعمالنا القليلة التي يقتات منها النسيان.
الجمرة السهرانة، وديعتنا من أجل إذلال الليل وانحناءات ظلاله
الخشنة.خارج أسوار السنة ندفن أيامنا المقطوعة، نغطيها بكلمات
وساعات تركض محمومة صوب الشاطئ الغريب للظلام
لكن نار رغباتنا التي تضيء صمت القبور، تفاجئ الماضي ودفأه
المرفوع والمعلق بين العيد والسجن، لاشيء يصعد في الثلج
لا العظم
لا الحجر
لا الضوء
آه، لماذا نحن بعيدون عن السراج؟ لماذا تكرر عيوننا سهرها وتتجمد النظرة الحادة؟

35ـ أعمق من ليل الحجارة

انطفأت القناديل وتهدمت شواطئنا الحصينة والمحروسة
لم تبق الآن سوى الخطوط القاسية التي تركها العدم لحيواتنا
المليئة بالنحيب والأعشاب العالية المضمدة الرؤوس التي تنهض
في المرج الدافئ العميق للخراب وتبحث عن الجمرة التي تنبئنا
بالموت المزدحم في طرقه اللانهائية المفتوحة على حافة الأبدية
حيث عمل الإنسان يشبه لزوجة النملة.
أعمق من ليل الحجارة يتقدم الموت الباسل
لا سقف للإنسان سوى النحيب الذي ينفرج ويظلم.
الثلوج ظلال موقظة لهتافات الموتى.

36ـ خونوا موتكم ، خونوا شمعته العليلة

يموتون بلا ظل ولا شمس صديقة، حيواتهم المشئومة جمدها الخوف والحصار
ليل المخلب يتمدد فوق أغطيتهم وكلماتهم لا تزأر. البوم والعنكبوت والخفاش في الأهداب
في الكلام، في الحدائق المظلمة والعاطلة، يا من تموتون بلا ظل ولا دهشة
يا من تحولتم إلى حشرات، لشموسكم طرق العالم وترتجفون وتقشعرون وتتعذبون وتنتحبون
خونوا موتكم، خونوا شمعته العليلة، لماذا أنتم بعيدون عن الظل والعنقود؟
يا إلهي : ما هذه الحيوات المزروعة للرماد الثقيل تحت عيون تنظر إلى التماثيل المحطمة؟

37 ـ حياتك التي تكسرت قناديلها هناك

هذه الحياة اللعينة التي تحمل ماضيها هنا وسط الرعب والجحيمات.
الحياة التي تشققت سقوفها هناك، والآمال الخائبة
دعها هي والماضي تغني الفردوس المفقود إلى ما لانهاية
لكن تذكر، الآن ـ في هذه المدينة حيث ضوء الفجر يرفرف
فوق الصخور والمطر يتراقص بنفسجياً والسنابل تتنفس في الحقول
فإن كل شيء عدا هذه الأشياء، أوهام وجهود ضائعة
قل لحياتك التي تكسرت قناديلها هناك : [ وداعاً، وداعاً لتلك الأيام الميتة ].

38 ـ برودسكي، البحر الكريم

زاحفاً تحت ليل المنفى الطويل، يرتل صلواته التي تنكرها
آلهة الدولة، ضوء كلمته يشع في كل مكان من العالم
برودسكي : البحر الكريم، إله الشعراء المنفيين الذين علمونا أن لا نخون الضمير.
من شعلته العصية، عرفنا الأسرار.
لماذا نرفع أبصارنا دائماً صوب سماواتك الغريبة؟

39ـ شمس مستمرة كما الأبدية

تر وتسكي،
قلعة عالية ذات جدران خضر، مكتبة، محابر، سنوات نفي،
سنوات حسرة، سنوات المدن الغريبة، ابن اغتيل غدراً،
ابنة انتحرت في ظهيرة عدوة، تاريخ الثورة الروسية،
الثورة الدائمة، الثورة المغدورة، دسائس وطغيان ستالين،
تر وتسكي، شمس مستمرة كما الأبدية، لحية رسول ونظرة صقر،
فوق رخام القبر المفتوح على الفجر الوردي، يقف ويضمد شجرة جروح الإنسان.

40- اعترا ف إلى سعدي يوسف

طلبنا من السياب أشرعة
وطلبنا البركة
لا بويب في ليل العراق عرفناه
ولا أطفأت في صقيع المنافي
تنمل أقدامنا الحركة.
أية مشاعل نرفعها عن السر؟
أمام بيت الغيمة في جيكور أضعنا المفتاح، فأضاء البنفسج سنوات الرغبة والحديقة.
الساعات المعلقة في ليل المنفى تعبت من موتنا وتعبت أحلامنا في صيف الخشخاش.
الضفاف تفك الأسرار عن البراعم وتدفع ظلالها
عبر الانخطافات المصفوفة للضوء والتي لا شكل لها.
لماذا يفرغ الموت ذو الأهداب الخضر حمولته عند باب الهاوية؟
تكسرت كل القناديل، لا تنظر إلى صورة البلاد الميتة.
في الشد والجذب، عبر الطيران والهبوط
بين الانعكاسات الرخوة للنور الذي يحيط بالمستقبل
حيث الذاكرة تتململ في اللاشيء، يتكلم الإنسان باتجاه جناح
يغطس في الأعماق.
بعيداً عن [ جبهة النهر ] البيت خراب الآن، والمدافع تهزه نوافذه اللامرئية
بيت الكلمة الخلابة، بيت الفقدان.
وأنت تستند على حافة الأفق في الظلام
حزيناً ومعنى [ بعيدا عن السماء الأولى ]
إيماءتك الندية تطير مع الإوز العراقي، انتظرناك في الأرض / البلقع
وكانت مشاعلنا تدخن طوال الشتاء، وكان الفراغ يغطي قرنفل احساساتنا
الآن _ نتعرى إلا من غضبك وشموسك ونطوف في الآفاق
هل قلت لي [ لا تتكئ على قنديل مريض ]؟
لكن تغيير الجلود والنوم تحت نسيم ومصارف الأمريكان،
سهل يا سعدي في {الآلة الكاتبة}.
هذه العشبة المدوخة، لقد ربيناها وكان بويب طفل الخسارات،
سكبنا فوقها خمرة نذورنا، والآن صعدت وصارت بحجم العالم،
العشبة / المنفى، هي ورقتنا الرابحة الوحيدة أمام الشمس الزرقاء
والهاوية سندير لها ظهورنا.

ولد في الناصرية عام 1960. درس في مركز لمحو الامية وتعليم الكبار، 1975 - 1976. جُند إلزاميا في الجيش، 1979 - 1991 . أصدر أربع مجموعات، ضمها مجلد حمل اسم "جهشات" عام 1986 بطريقة التصوير بالدفلوب. أول ظهور أدبي له كان في العدد 18 من مجلة " الكرمل" عام 1986 عبر 7 قصائد. نشر بمبادرة من عبد الوهاب البياتي مجموعة حملت اسم "أرض خضراء مثل أبواب السنة" عام 1996، المؤسسة العربية للدراسات والنشر. نشر في صحيفة "القدس العربي" دراسات عن الشعر والموت، وملاحظات حول الشعر العراقي الراهن. ظهر اسمه في انطولوجيا "لون البعد" الألمانية التي حررها المستشرق شتيفان فايدنر عام 2000. دفع الآن مجموعة جديدة الى " دار ألواح" في اسبانيا، لكنه اهملها بسبب اعتقاده بعدم جدوى الشعر الآن. ظهر اسمه في المجلد الأول من ديوان الشعر العربي المعاصر الذي حرره محمد عظيمة. يقيم في السويد.

[email protected]