قراءة سياسية ـ سيكودرامية

"أنا ذلك الكذاب، الذي يقول الحقيقة دائماً"
جان كوكتو

لم تستطع سنوات المنفى الثقيلة والخانقة أن تثبط آماله الكبيرة، ولا المكان أن يطمس هويته، فقد قرر لحظة وصوله أمريكا، لاجئاً، أن يجعل من كتاباته سلاحاً، ومن غرفة مكتبه الصغير، ورشة عمل يومي وساحة حرب ضد من شردوه.. ضد من خنقوا صوت الحرية في بلاده.. ضد وحشية وبربرية الإستبداد في كل مكان. على أحد جدارن غرفة مكتبه المعتم، كان دورفمان يعلق صورة مواطنه بابلو نيرودا، كانت تضيء له وحشة سنوات الإغتراب، وبالقرب منها كتب بخط يده عبارة، كان إستعارها من أحد معارفه القدامى، الروائي الأرجنتيني "هارولد كونتي" سلفه في المنافي. تقول العبارة: "هنا ساحة الحرب، ساحة معركتي، ولن أغادرهاً أبداً".

كتب دورفمان الرواية والقصة القصيرة والنصوص المسرحية والسينمائية والدراسات النقدية في الأدب والفن. (**) وقد ترجمت نتاجاته تلك الى مايقرب الخمسين لغة.. شغل ومايزال موقع بروفيسور في جامعة ديوك في نيويورك لتدريس أدب أمريكا اللاتينية، إضافة الى نشاطه كمحرر دائم في صحف واسعة الإنتشار أمثال نيويورك تايمس، لوس أنجلوس تايم، ناشينال، فيليج فويس، وغيرها. عرف عنه أيضاً ناشطاً بارزاً في الدفاع عن حقوق الإنسان. عاد دورفمان وبرفقته زوجته وولداه الى تشيلي عام 1990 بعد زوال بينوشيت وقيام السلطة الوطنية المنتخبة، ومنذ ذلك التأريخ وهو موزع بين بلاده والولايات المتحدة الأمريكية وأوربا.

( لابد لأحد ما أن يبق حياً، ليروي ماحدث )


لقد تم تصفية الكثير من أصدقاء دورفمان ورفاقه في ذلك اليوم الفاجع الرهيب، يوم الإنقلاب على حكومة أليندي، في الحادي عشر من سبتمبر 1973 ساعة إقتحام قوات بينوشيت قصر لامونيدا. أما هو فقد نجا بإعجوبة من موت محتم! كان دورفمان يشغل موقع بروفيسور لمادة الأدب والنقد محاضراً في جامعة تشيلي. وكان ُرشح في عام 1971 مستشاراً ثقافياً ضمن هيئة المستشارين الخصوصيين للرئيس أليندي في قصر لامونيدا. في مقابلة أجراها معه داني بوستل في مجلة The Progressive الأمريكية عام 1998 قال دورفمان : ".. كان عليّ أن أكون في قصرلامونيدا في ذلك اليوم الفاجع. كانت هناك قائمة بأسماء الأشخاص الذين ينبغي تواجدهم في الأحداث أو الأوقات الطارئة، وكان إسمي واحداً من تلك الأسماء، لكن أحداً لم يتصل بي ذلك اليوم، وتركوني أستمتع بنومي ذلك الصباح. لم أفهم السبب مطلقاً!! وبعد ثلاث سنوات، وعن طريق الصدفة، قابلت الشخص الذي كان مسؤولاً عن تنظيم تلك القائمة آنذاك وإسمه فرناندو فلوريس، وفي ذلك اللقاء فقط عرفت سر بقائي حياً!! لقد أخبرني فرناندو أنه شطب إسمي من قائمة المناوبة تلك في ذلك الصباح، وحين سأ لته عن السبب، صمت قليلاً وغار عميقاً، عميقاً، كما لو أنه إراد إن يسترجع تلك اللحظات المرعبة ثانية.أخيراً، تطلع نحوي قائلاً : " حسناً.. كان لابد أن يبق أحد ما حياً، ليروي ماحدث "..
لم تكن ثمة معجزة دينية وراء بقائي حياً، ولاأومن بأن قوى غيبية هي التي أنقذتني من ذلك الموت المحتم. لكنني موقن بشيء إسمه قدر الإنسان أو هو ذلك الشيء الذي يحيل الأحداث التي تجري في حياة الإنسان، الى شيء ضروري لابد من حدوثه. مافعلته أنا، حسب ظني، هو أنني أحلت نفسي الى راوي حكايات. وهكذا أمضيت الخمس والعشرين عاماً الأخيرة أروي قصة شيلي بطرق مختلفة.
الكثير من كتاباتي تتحدث عن إنسان تنتابه فكرة ما تلازمه على نحو دائم، وهي أنه يعيش كالشبح. وأن كل شيء ماهو إلا مجرد وهم. هناك أناس يموتون من أجل أن نستمر نحن على قيد الحياة. فلزاماً علينا أن نقدم لهم شيء ما. كيف يمكننا أن نفعل ذلك ؟ كيف يمكننا أن نتحدث إليهم، نحكي قصصهم، ومن أجلهم، بل وعلىالرغم منهم ؟ ومع ذلك، فإن قصصي ليست قصصاً عن الموت فقط. كلا، إنها قصص عن الحياة، والتغني بها أيضاً."


إستوحى الكاتب عنوان مسرحيته " الموت والعذراء " من رباعية شوبرت الوترية التي تحمل ذات العنوان، وهي قصيدة مغناة من تأليف ماتياس كلاوديوس 1740 ـ 1815. أما الثيمة فقد إستقاها من خبر كان قرأه في صحيفة تشيلية، يحكي قصة رجل أنقذ حياة شخص إنقلبت عربته في الطريق العام وكادت تودي بحياته. وأثناء دعوة الرجل لذلك الغريب ضيفاً الى منزله، تحدث المفاجئة المروعة. ففيما هما يتحدثان، تميز الزوجة نبرة صوت ذلك الرجل الغريب، وتكتشف أنها نفس نبرة الرجل الذي عذبها وإغتصبها في السجن قبل سنين. عندذاك تقرر سجنه في المنزل وإخضاعه الى محاكمة شخصية، تنتزع خلالها إعترافاً كاملاً منه بتلك الجريمة، ثم تحكم عليه بالموت!.

يقول دورفمان : ".. لقد تأملت تلك الحادثة عميقاً، وبدأت أستكشف في مخيلتي، بشكل خجلومتردد، حالة دراماتيكية أصبحت فيما بعد نواةً لمسرحية " الموت والعذراء ".
كنت أجلس بين الحين والآخر أفكر بهذا الموضوع وأخربش على الورق ماتخيلته أن يكون في يوم ما رواية!. لكن، بعد جلسات عدة وبضع صفحات غير مقنعة عدلت، خائباً، عن الفكرة كلها تماماً، بسبب أن ثمة شيء ما كان غائماً، شيء ما جوهري وضروري في الحكاية كان مفقوداً. فمثلاً لم أستطع أن أستكشف شخصية زوج تلك المرأة. ترى من هو ؟ وكيف ستكون إستجابته إن صدقها ؟ لم تكن واضحة عندي أيضاً، الوقائع والظروف والإلتباسات التفصيلية، تلك التي ظهرت من خلالها تلك الحكاية. كذلك كان ثمة غياب للعلاقات الرمزية والدلالية بين العام والخاص. بمعنى آخر، ما نوع علاقة هذه الحكاية بالوضع العام للحياة في البلاد نفسها. لم أفهم أيضاً، صورة العالم الذي كان يقف خلف تلك الحدود الضيقة والخانقة والمغلقة لمنزل تلك المرأة! ".
هكذا ولسوء الحظ ظلت المسرحية تنتظر مكرهة مثل دورفمان نفسه لوقت طويل، لحين زوال النظام الديكتاتوري في البلاد عام 1990 وعودة الكاتب وعائلته الى تشيلي بعد نفي إستغرق سبعة عشر عاماً. ففي زحمة الأحداث السياسية الجديدة والشائكة، عثر الكاتب على إجابات على تلك النقاط التي كانت غائمة في رأسه، وإستطاع أن يمسك بالخيط الذي قاده أخيراً الى الطريقة التي ستروى بها تلك الحكاية.


( ديموقراطيات في دور النقاهة )

كان الوضع السياسي في تشيلي إبان زوال نظام بينوشيت الفاشي وقيام السلطة الوطنية المنتخبة،ينذربإحتمال وقوع حرب أهلية في البلاد، بسبب الإجراءات المؤقتة التي إتخذتها الحكومة الجديدة، والتي في مقدمتها الإبقاء على الكثير من رموز النظام السابق في مواقع خطيرة وحساسة، مثل المؤسسات القضائية والبرلمان والمجالس البلدية وكذلك المؤسسات الإقتصادية، ناهيك عن ترك الكثير من أزلام السلطة من العسكر ورجال الأمن والمخابرات طليقوا دون عقاب!

كان ذلك قد أثار غيظ وضغينة الناس، خصوصاً أولئك الذين ظل يسكنهم الخوف رغم سقوط الدكتاتور، والذين أحا لتهم زنازين الدكتاتور الى مجرد أشباح، أوأنصاف بشر. لقد أثارت فيهم تلك الإجراءات المؤقتة حقاً مخاوف عودة النظام القديم الى السلطة. لكن واقع الأمر، إن الرئيس الجديد المنتخب ـ باتريسيو إيلوين ـ كان يسعى من خلال تلك الإجراءات، الى تطبيق برنامج إصلاحي برغماتي للبلاد، ووضع حلول وسطية بشأن التعامل مع أدوات النظام القديم، خوفاً من تجدد الوضع الإرهابي، وتحت غطاء الديموقراطية هذه المرة، وخشية من قيام مذابح جديدة وعمليات ثأر شخصية، قد تقود البلاد فعلاً الى حرب أهلية، والى فوضى قد تفقد البلاد تلك الفرصة التأريخية، تفضي الى عودة النظام الديكتاتوري ثانية الى البلاد.

فلأجل تطبيق ذلك البرنامج قامت السلطة بتشكيل هيئة تحقيق في إنتهاكات حقوق الإنسان، تلك التي اُرتكبت في زمن الدكتاتور بينوشيت سميت بـ " هيئة ريتيج " والتي كانت تنتهي عقوباتها بالموت أو إحتماله، شرط أن لايعلن عن أسماء المجرمين أو تجرى محاكمهم علناً. علق دورفمان حينها قائلاً : " إستطاع الرئيس إيلوين حقاً أن يدير الدفة بحذر وتبصر وشجاعة، بإتباعه مسلكاً وسطاً يوفق مابين أولئك الذين يؤثرون دفن الخوف، خوف الماضي الإرهابي كلياً، وبين أولئك الذين يريدون الكشف عنه كاملاً ".

قامت تلك اللجنة حينها، وكإجراء إحترازي، بحجب أسماء أولئك المتهمين وعدم إستدعائهم لحضور تلك المحاكم علناً، خشية وقوع صدامات دموية بين عوائلهم وأهالي المتهمين. لكن المأزق الأكبر هو أن تلك العدالة المنتظرة كانت منقوصة، فعلى الرغم من التجربة الموجعة لمئات الآلاف من ضحايا النظام القديم، وخصوصاً أولئك الذين إستطاعوا أن ينجوا من الموت، إلا أن الكثير من حقوقهم الشخصية ضاعت وسط زحمة الأحداث العامة، حيث كل شيء كان مؤجلاً، كسباً للوقت ورغبة في إستتباب الوضع العام للبلاد. هذه الخلفية السياسية هي التي قدمت المفتاح الرئيسي لحل مغاليق الحكاية، وأجابت على تلك الأسئلة التي كانت أجوبتها مبهمة في رأس الكاتب.

يقول دورفمان : (... وفيما أنا أرقب بدهشة لجنة التحقيق تلك، وهي تقوم بإنجاز مهمتها الشاقة والشائكة، بدأت أدرك شيئاً فشيئأً وببطء، أنني أعثر أخيراً على الإجابة على السؤال الملتبس للحكاية، ذلك السؤال الذي ظل يدوي في رأسي لسنوات عديدة. وكانت الإجابة، هي إن إعتقال المرأة للرجل الغريب في منزلها وإخضاعه الى محاكمة شخصية، لايمكن أن تتم في دولة يتربع على السلطة فيها دكتاتور، كما حدث في زمن تلك الحادثة التي قرأتها في تلك الصحيفة، بل في دولة هي في مرحلة إنتقال الى الديموقراطية، حيث جراح الكثير من التشيليين لم تندمل بعد، وحيث الكثير من الجناة مازالوا أحراراً يتساءلون برعب عن المصائر التي تنتظرهم فيما لو تم الكشف عن جرائمهم.
لقد أصبح واضحاً أن الطريقة التي يمكن أن نجعل فيها من زوج تلك المرأة التي تعرضت للإغتصاب والتعذيب، يعيش حالة رهان مروعة ومربكة، كونه زوجاً لتلك المرأة التي إعتقلت ذلك الرجل الغريب من جهة، وفي نفس الوقت عضواً في لجنة التحقيق من جهة أخرى! وهو الوضع المشابه الى حد ما، الى وضع المحامي العجوز الذي عينته الحكومة الجديدة لرئاسة هيئة التحقيق " ريتيج " في الواقع ).

لم يتطلب من دورفمان الوقت الطويل لإتخاذ قرار حاسم بشأن العمل، وكان القرار، أن الهدف هو كتابة نص مسرحي وليس رواية. وقد تم إنجاز" الموت والعذراء " عام 1991 وهو في نيويورك، لكنه أرجأ إرسالها الى تشيلي، خوفاً من الإستجابات السلبية التي قد تثيرها أسئلتها المعبئة بخيارات صعبة. وهي الأسئلة ذاتها التي كانت الشخصيات تسعى لأن تفهمها وتجيب على جملة منها، والتي كان التشيليون يطرحونها على أنفسهم في السر، ونادراً ماتجد من يرغب في طرحها علناً.
كيف يمكن للجلادين وضحاياهم العيش على أرض واحدة ؟
هل في الإمكان معافاة بلد قاسى صدمة القمع والكبت، ومازال الخوف من إبداء الرأي سائداً في جنباته؟
كيف يمكن الوصول الى الحقيقة، إذا كان الكذب قد أصبح عادة؟
كيف يمكننا الإبقاء على الماضي حياً، شرط أن لانكون سجنائه ؟ وكيف يمكننا أن ننسى ذلك الماضي دون المخاطرة بأن لايتكرر في المستقبل؟
ماهي عواقب كبح صورة ذلك الماضي، وثمة حقيقة تهمس في آذاننا أو تنبح في وجوهنا؟
هل من المنطقي أن نضحي بالحقيقة، لكي نضمن الطمأنينة والأمن ؟
هل الناس هم حقاً أحراراً في بحثهم عن العدالة والمساواة، وتهديدات العسكر تلازمهم كالوسواس؟
هل يمكن تجنب العنف في البلاد في ظروف كهذه ؟ وكم نحن، جميعاً، ودون إستثناء، مذنبون إزاء ماحدث لأولئك الذين قاسوا أكثر من غيرهم؟
ومن المحتمل أن المأزق الأكبرهو، كيف يمكننا مواجهة كل هذه المشاكل، دون أن يؤثر ذلك في تقويض الإجماع العام، ذلك الذي يرسخ الإستقرار للمضي في تحقيق الديموقراطية؟

كتب دورفمان يومها : " كنت أدرك جيداً أنني سأ نتقد بضراوة من قبل البعض في بلادي لأنني ـ هززت القارب بقوة ـ عبر تذكيري الناس بوقع الإرهاب والعنف الذي قاسوه طوال تلك الفترة الطويلة، في وقت مطلوب منا جميعاً أن نكون حذرين الى حد كبير. لقد شعرت على أي حال، أنني كمواطن، ينبغي علي أن أتحلى بروح عالية للمسؤولية، وكفنان، علي أن أجيب على النداء المروّع والعاصف لشخصياتي، وأن أحطم ذلك الصمت الذي كان يلقي بثقله على كاهلهم. كنت أتأمل من كان يتابع كتاباتي بوّد من الأصدقاء، وخوفهم الجميل من أنني، ربما، أسهم ومن دون قصد، في خلق مأزق لتلك الديموقراطية الهشة. لكنني كنت على يقين من قبل، وزاد الآن يقيني أكثر من أي وقت مضى، بأن الديموقراطية الهشة تتصلب ويقوى عودها، عبر المكاشفات وإتباع نهج المصارحة والوضوح، لكي يرى الجميع كيف ستتفتح وتزهرالأعمال الدرامية العميقة الرؤى، ويرى أيضاً الأحزان العميقة والآمال الكبيرة، تلك التي تشكل جميعها مرتكزات وجود صلبة للديموقراطية. بهذه الطريقة فقط، وليس عبر جلد الذات، نستطيع أن نتفادى تكرار ماحدث لنا.. "

( هواجس الكاتب.. هواجس الشخصيات.. )

إن موضوع " الذاكرة " يكاد يشكل هاجساً دائماً لدورفمان ولشخصياته. الذاكرة التي تستعيد ماضي بلد جريح مثل تشيلي، مجسداً بشكل كوابيس في النوم ووساوس في اليقظة، والتي تلازم ضحايا الأمس، أولئك الذين نجوا من الموت، بشكل دائم. أما " الخوف " فهو يشكل موضوعاً جوهرياً في البناء الإجتماعي والسيكولوجي لشخصيات الكاتب. إنه يجري في عروقهم، يؤرقهم، ويشل حياتهم. فإذا كان في الماضي يتشظى في السر، فهو في الحاضر أصبح معلناً لدرجة الخشية من أن يتحول الى تأريخ رسمي للبلد الذي عاش ذلك الخوف، وربما يقود الى إعادة إنتاج مجتمع تمزقه النزاعات والحزازات، تلك التي يسعى الكاتب أصلاً الى نسيانها. دورفمان لايدعو الى تكريس ذلك الخوف، بل الى فهم مغزاه وأبعاده، كي لايتكرر في المستقبل.

موضوع " النسيان " هو أيضاً هاجس آخر له وجوهه المتعددة لدى الكاتب. فوجهه الأول، هو طوي صفحة ذلك الماضي والبدء من جديد، حيث الناس يسعون الى نسيان أوجاعهم وخوفهم والعنف الذي نزل بهم، وثمة أسباب عديدة وراء الرغبة في ذلك النسيان، سواء للناس الذين تعرضوا للإساءات أو للبعض ممن إرتكبها. هؤلاء يشعرون أن إستعادة الماضي هو تحطيم لهم. إنهم يقولون أن ثمة مستقبلاً ينتظرنا، دعنا نطوي هذه الصفحة، دعنا ننسى ذلك، دعنا نبدأ من جديد، وهذا كله نعثر عليه ساطعاً في شخصية المحامي وعضو هيئة التحقيق جيراردو في " الموت والعذراء " وأيضاً في شخصية الكابتن في مسرحية " الأرامل ".

أما الوجه الثاني للنسيان فهو ذلك الذي يتعامل غالباً مع الناس الذين يخوضون نضالاً مسعوراً ضد من يريد إلغاءهم وتهميشهم وتجاهلهم، بل وحتى أيضاً محوهم عن وجه الأرض. هؤلاء الناس ذاقوا جور ومرارة الماضي، وخرجوا من تلك المحرقة مشوهين ومشوشين، وحين إستيقظوا على حاضر آخر جديد، وجدوا أنفسهم منسيين مهمشين، يسيرون على رصيف واحد وجلاديهم.
هذا مانعثر عليه بصورة جلية لا لبس فيها في شخصية باولينا في " الموت والعذراء " والرجال المفقودين في " الأرامل ". دورفمان يذهب أبعد من ذلك، حين يضيف وجهاً ثالثاً لمغزى مفهوم النسيان وهو ذلك الذي يتعلق بالهوية. فقد كتب يقول : ".. ومشكلة الذاكرة هي ليست مشكلة أننا نتذكر المخاوف التي مورست معنا، وعلينا نسيانها، بل تلك التي لها تأثير أيضاً على الهوية، هويتنا التي فقدناها. أين هويتنا ؟ علينا أن نفكر عميقاً وبدقة في هذا السؤال.


( الموت والعذراء )

شخصيات المسرحية :
ـ باولينا سالاس : الزوجة ( 40 عاماً ).
ـ جيراردو إيسكوبار : الزوج، محام، عضو هيئة التحقيق. ( 45 عاماً ).
ـ روبيرتو ميراندا : الطبيب ( 50 عاماً ).

تجري أحداث المسرحية في زمننا الحالي، في بلد هو على الأرجح " تشيلي " أو أي بلد إستيقظ تواً من كابوس الدكتاتورية، وشرع في بناء دولته الديموقراطية. بيت صيفي على شاطىء البحر. باولينا تجلس وحيدة، يعكس صخب موج البحر مايمور في أعماقها من أفكار وهموم، وهي بإنتظار قدوم زوجها من الإجتماع الذي دعي إليه من قبل الحكومة الجديدة والمنعقد بشكل طارىء في العاصمة.
كانت باولينا قد تعرضت الىعملية خطف من قبل البوليس السري قبل خمسة عشر عاماً حين كانت طالبة في كلية الطب، بسبب آرائها السياسية المناوئة للسلطة. حينها تعرضت الى التعذيب بالصدمات الكهربائية، وجرى إغتصابها داخل زنزانتها بطريقة بشعة. على الرغم من مرور كل هذه الفترة الطويلة على تلك الحادثة، إلا إن آثار الصدمة مازال باقياً.
باولينا هي الشخصية المركزيه في هذه الدراما، فهي الضحية بأسطع صورها، ضحية للنظام الدكتاتوري الوحشي القديم، وضحية التهميش والتسويات السياسية للنظام الجديد.
إنها صورة مصغرة للكبت الإجتماعي والنفسي والسياسي، كله مختزلاً في شخصية واحدة. ويمكن القول أنها ترميز لمجتمع كامل مختنق، خرج تواً الى الهواء الطلق. يصل جيراردو في ساعة متأخرة من الليل ومعه رجل غريب يدعى الطبيب روبيرتو ميراندا الذي يوصله لغاية منزله بعد العطل الذي أصاب عربته في الطريق العام. يغادر الطبيب روبيرتو بإتجاه منزله الساحلي على أمل العودة ثانية في الغد تلبية لدعوة جيراردو له على حضور وجبة غداء.

الحوار الإستهلالي بين باولينا وجيراردو، المتسم بالحذر والحدة والتراشق الخفي بالإتهامات، يكشف عن هوة سحيقة تفصل رؤى الزوجين. فعلى الرغم من حذره الشديد من إخبارها في البدء بموافقته على القبول بترشيحه من قبل الرئيس، بمنصبه الجديد، كعضو في هيئة التحقيق، إلا إن باولينا ضمناً تتكهن بذلك، فيضطر هو بدافع من إصرارها أن يعلن لها عن موافقته تلك، وهذا ماسيخلق الأرضية الخصبة لنمو النزاع للمعركة القادمة.

مشكلة باولينا إزاء جيراردو هي أنها غيرواثقة من صدق وحسن نوايا أعضاء هيئة التحقيق الذين سينتسب إليهم زوجها، بسبب تبعية الكثير منهم الى النظام القضائي القديم. وهي أيضاً ليست مؤمنة بالإجراءات القانونية الجديدة أصلاً، تلك التي تتعامل فقط مع ملفات الموتى من ضحايا النظام الفاشي، دون الأحياء منهم. ناهيك عن عدم كشفهم لأسماء المجرمين أو محاكمتهم علناً. أما جيراردو فعلى النقيض منها، يرى في تلك الإجراءات سبيلاً وحيداً للحفاظ على النظام الجديد من الإنهيار. فهو، كمحام، عليه أن ينخل تراب أنقاض الدكتاتورية البشعة، قبل إتخاذ أي قرار. هدفه هو إشاعة الأمن والطمأنينة في نفوس الناس، حتى وإن كان ذلك على حساب الحقيقة!!.
صحيح، أنه كمحام وشخص قاسى لوعة الإستبداد، يسعى الى تطبيق العدالة، لكنه في نفس الوقت، يستميت من أجل الحفاظ على الزورق من الغرق. أما باولينا فإن جل ماتسعى إليه الآن، أكثر من أي وقت مضى، هو الخروج من صمتها المهلك، والمطالبة بتطبيق العدالة بحق مجرمي الأمس. من هنا تبدأ الهوة تتسع أكثر فأكثر بين تلك الرؤيتين، بين وجهتي النظرالراديكالية والتوفيقية لمفهوم العدالة.

فجأة تُسمع طرقات على الباب في آخرة الليل. الطبيب روبيرتو ثانية، عاد لتهنئة جيراردو على منصبه الجديد بعد أن إستمع إليه تواً في المذياع عبرأخبار المساء، وعرف أيضاً أن لدى جيراردو إجتماعا مهماًً في الغد في العاصمة، عندذاك يبادر في عرض مساعدته ثانية على جيراردو بأن يوصله الى العاصمة بسبب عطل سيارة هذا الأخير. والنتيجة، يبقى روبيرتو ليبيت في المنزل بعد إلحاح من جيراردو، لكي ينطلقا سوية في الغد الى العاصمة.وهكذا تجتمع الشخصيات الثلاث، في هذا المكان المنعزل الشبيه بسجن صحراوي، لتشكل الأعمدة الأساسية الثلاث التي سيرتكز عليها بناء المسرحية، ولتمضي الدراما قدماً نحو الأمام.

إن إقتحام روبيرتو لهذا المنزل المنعزل في آخرة الليل وبهذه الطريقة، أثار الريبة والخوف في نفس باولينا، التي هي مازالت تحت تأثير تلك الصدمة التي حدثت لها في الماضي، حيث يرافقها هاجس دائم بتهديد مبهم يمكن أن يداهمها في أية لحظة، ناهيك عن أن أزلام السلطة مازالوا طليقين. فجأة، وفيما هي تنصت للحديث الذي يدور بين زوجها والرجل الغريب، تصيبها حالة ذعر مفاجئة أشبه بصدمة كهربائية. فنبرات صوته، وطريقة ضحكته، وإستخدامه لبعض المفردات، وإستشهاداته المتكررة بنيتشة، وعشقه الهائل لرباعية شوبرت " الموت والعذراء " كل ذلك، أومض في رأسها كالبرق صورة جلادها القديم وهو يحل ضيفاً في بيتها. وهكذا تبدء في إتخاذ الإستعدادات الكاملة لإنجازتلك المهمة التي كانت تنتظرها منذ زمن طويل. تنطفىء الأنوارويرقد الجميع فيما يعلو صخب الأمواج في الخارج.

تتسلل باولينا كالشبح الى غرفة الطبيب روبيرتو، لتظهر بعد قليل وسط العتمة وهي تجرجر جسده على الأرض، مغمى عليه إثرضربة تلقاها على رأسه بعقب مسدسها. حين يجرب أن يصرخ ، تسارع وتخلع سروالها الداخلي وتكمم به فمه وتغلقه بشريط لاصق، ثم تربط قدميه وذراعيه وتشدهما الى الكرسي. تلتقط بعجالة مفاتيح سيارته وتهبط الى الطريق العام لتحجز تاكسي من التلفون العمومي، لينقل زوجها الى العاصمة صباحاً. وحين تفتح باب السيارة تعثر وبالصدفة داخل الصندوق الأمامي على شريط كاسيت لرباعية شوبرت " الموت والعذراء " تلك الرباعية التي كان يستمع إليها جلادها لحظة تعذيبها وإغتصابها في السجن!. شهادة واحدة وتكتمل دائرة اليقين في أن الرهينة هو الرجل نفسه. تفك أزرار قميصه وتبدء في شم رائحة جسده، فتصرخ دون صوت، إنه هو! فتكتمل تلك الدائرة في مخيلتها.

إن صورة الطبيب وهو قادم ليدخل المصيدة بنفسه، تتماهى هنا الى حد ما، و صورة البطل التراجيدي في الإسطورة الإغريقية، ذلك الذي يكون مدفوعاً بقدر حتمي نحو مصيره. والآن. هل حقا، أن الطبيب روبيرتو هو نفس الرجل الذي أشرف على تعذيبها وإغتصابها في السجن، أم هو مجرد إستجابة مرضية للوساوس التي تنخر في عقلها الباطن، والذي هو بمثابة المعادل السيكولوجي لصدمة الخوف والعنف الذي قاسته باولينا في الماضي ؟ باولينا، في حالتها السيكوباثية تلك التي رسمها لها المؤلف، يمكن أن يدفعها سلوكها العصابي الى إتهام أي شخص عابر معتبرة إياه جلادها أو مغتصبها. وهذا مايرد على لسان الطبيب روبيرتو وهو يشخص لزوجها نوعاً من الشيزوفرينيا البدائية في سلوكها المضطرب.

المؤلف هنا لايقدم أية تلميحات عن ماضي وتأريخ هذا الرجل، ربما لأنه أراد أن يدخلنا دائرة الشك قبل أن نسارع ونتعاطف وباولينا، وهذا مادفع بالحبكة بقوة الى الأمام.
وإيغالاً في خلق الحيرة فينا، أظهره لنا في حديثه وسلوكه مع جيراردو، رجلاً دمثا ًرقيقاً يمتلك روح الإيثار، ومن الممكن جداً أن يكون بريئاً. أما مواقفه السياسية إزاء مايجري من تغييرات، فقد أثبتت آرائه أنه واحد من المثقفين المتنورين والمؤيدين للإجراءات الجديدة للحكومة، وذلك من خلال إشادته بتشكيل هيئة التحقيق تلك، وزعمه أنها ستنهي فصلاً مؤلماً من تأريخ العنف في البلاد، وستغلق الباب بوجه الخلافات والتقسيمات التي حدثت في الماضي الخ.. وهكذا يظل دورفمان مبقياً على هذه الشخصية حتى النهاية، غائمة ومبهمة تتأرجح بين الواقع والخيال، وهذا ربما السر وراء تعقيد حبكة هذه الدراما. حين يسري اليقين في أوصال باولينا بأن خطواتها الإستكشافية تسير على نحو موصول بشكل صحيح، تتحول فجأة الى شخصية إقتحامية وعدوانية، وتهجم على فريستها مثل نمرة متوحشة.
إنها إزاء فرصة كهذه، ليس أمامها خيار آخر سوى أن تقوم هي بنفسها في تطبيق العدالة التي عجزت السلطة الجديدة عن تطبيقها. وهكذا تبدأ في ممارسة طقس الحرية الذي تنشد من خلال إستجواباتها المربكة والملتبسة ، وهي تلعب دور الضحية والحَكم في آن. إلا أن إستجوابات المؤلف هنا تتجاوز حدود الشخصي، لتطال الحقيقة بل اللغة نفسها، فتغيم المسافات مابين الذاتي والموضوعي، بين الأخلاقي والسياسي، ويمتزج كل شيء في بوتقة واحدة.

هذه التركيبة الدرامية تجد لها تعبيراً ساطعاً في ذلك المزج الدقيق الرائع بين الولاءات الشخصية والوقائع السياسية والمشكل الأخلاقي، ذلك الذي يمكننا أن نعثر عليه واضح بجلاء في أعمال كانت تنضوي تحت ما أصطلح على تسميته بـ " دراما المشكلة " في نتاجات جان بول سارتر وهارولد بنتر، وفي مسرحية " البوتقة " لآرثر ميللر على وجه الخصوص، في معالجتها للمكارثية.

على أن الشيء الجديد في المسرحية، والذي يكاد يكون مصدر قوتها، هو تعقيد حبكتها كما أشرت من قبل، فعلى الرغم من واقعية الأحداث والشخصيات، إلا أن المسرحية تترك إنطباعاً واضحاً، من زاوية أخرى بأنها ليست واقعية. إن دعوة باولينا الأخلاقية لقيام عدالة حقيقية، تقودها الى نزاع من نوع جديد. فتصبح دعوتها تلك نوعاً من التحدي لمجتمع لايؤمن إلا بعدالة التسويات والحلول الوسطية. باولينا، بمغزى أعمق، يمكن أن تكون ترميزاً للديموقراطية وهي في دور النقاهة. دورفمان نفسه، كان يدرك جيداً أن الديموقراطية الناشئة تواً، تكون عادة هشة، وهي دائماً محفوفة بالمخاطر والتناقضات، ومسرحيته هذه ماهي إلا مناظرة مدروسة، أكثر منها جدلاً عدوانياً عنيفاً.

حين يستيقظ جيراردو ويرى مشهد الدكتور وهو مقيد الى الكرسي وفمه مكمّم، يصعق. فهو عليه إزاء وضع كهذا، أن يوفق مابين عاطفته كزوج، وواجبه كرجل قانون ، وأن يعثر على حلول منطقية تستجيب لروح التسوية التي تسم شخصيته. فهو لايستطيع رؤية زوجته وهي تسعى لإدامة وتكرار نهج من آذوها، على الرغم من أنه يدرك ضمناً أن حاجتها لتطبيق العدالة بحق الجناة، تتطابق تماماً وحاجة معظم الناس الذين تعرضوا للأذى. ومن أجل حل هذه المعضلة يلجأ الكاتب الى حل غرائبي، عبر مكيدة بيضاء يحيلها لبطله جيراردو " رمز السلطة الجديدة " لأن يمارس سحره التوفيقي، وهو حل إفتراضي خاضع لرؤية إفتراضية بالطبع.
فلأجل إنقاذ حياة الطبيب من موت أصبح محتوماً، من جانب، ولتحقيق رغبة باولينا في إرساء مفهوم صائب للعدالة من جانب آخر، ينجح في إقناع روبيرتو في القيام بإعتراف ملفق بتلك الجريمة، بعد أن يسرد له تفاصيل ماضي زوجته. وهكذا تبدأ اللعبة لتستأنف حتى الفجر.

في مشهد المحاكمة، والذي سيتواصل تواتره حتى ختام المسرحية، تتحول باولينا من ضحية الى مستبد، فالإستجواب يتحول بالتدريج من مجرد معرفة حيثيات القضية الى نوع من الإستمتاع السادي. والنتيجة، أنها وعبر تداعياتها للحادثة، تنتزع منه عنوة، رغم موافقته الأولية، على إعترافا كامل بالجريمة، مدوناً بخط يده ومسجلاً على شريط صوتي. دورفمان يعالج تداعيات هذا المشهد بإسلوب تغريبي، وذلك حين يجعل من باولينا تعيد تمثيل ماحدث لها في الماضي. فتقوم بلعب دور الطبيب الذي كان يشرف على تعذيبها، ودور مساعده الذي يقوم بإغتصابها بأوامر من الطبيب نفسه، مستخدمة شريط الكاسيت الذي جلبته من سيارة الطبيب، لتكون موسيقى سيمفونية " الموت والعذراء " خلفية صوتية للمشهد. هكذا يتوضح هدف المؤلف في أنه يسعى لأن يروي قصة ماض حزين لإمرأة تريد أن ترفع ثقل ذلك الكابوس عنها، والذي ظل يلازمها سنين طويلة، عبر إستدعائها ذلك الماضي وجلبه الى منطقة الضوء من جديد.

الإغتصاب الذي تعرضت له باولينا في الماضي يتخذ له شكلاً ترميزياً أعمق من كونه مجرد إعتداء عادي على فتاة شابة. فحين تطلب من زوجها أن يقوم بإغتصاب الطبيب روبيرتو أثناء المحاكمة وأمامها، فإن الإغتصاب هنا لايعني بالضبط مجرد إعتداء جسدي أو جنسي، بل يتخذ له ملمحاً رمزياً ودلالياً، من الممكن أن يمثل لباولينا نوعاً من الإنتصار على سلطة القمع والعنف تلك، ذلك إن الإغتصاب الذي تعرضت له باولينا يعكس الصورة البشعة للسلطة، بكل جبروتها وإستبدادها وعنفها، إزاء الفكر والوجود الإنساني. حين ينتهي الإعتراف ويسجل على شريط كاسيت ليصبح وثيقة دامغة ضده، يتقدم جيراردو لتحرير روبيرتو من قيده بعد أن أيقن أن اللعبة قد إنتهت، إلا أنه يفاجىء بإشارة تهديد من باولينا تأمره بمغادرة المنزل، حيث تنتظره التاكسي في الخارج لتنقله الى العاصمة. حين يخسر أوراق اللعب، وتبقى في يده الورقة الأخيرة، يكشف الطبيب روبيرتو لها سر مزحة الإعتراف الملفق، لكنها تنفجر بوجهه مسعورة ساخرة، وتخبره أنها كانت على إطلاع بتلك المزحة الغبية، والتي لم تُنجز بشكل دقيق. فقد ذكر لها في إعترافه أشياء لم تكن هي قد قالتها لزوجها قط من قبل، وهي أشياء حدثت معها في السجن! وهذه شهادة أخرى ضده.

ومع ذلك، فإن باولينا وبعد أن خرجت عن صمتها وقالت كلمتها التي تريد، وأفرغت كل تلك الشحنات التي كانت تمور في أعماقها، تغير فيها الكثير، وإبتدأت تستعيد شيء من توازنها وبعض من عافيتها، تقرر العدول عن قتله، وتتعهد أن تطلق سراحه، شرط أن يعلن وبصوت عال توبتة وندمه، طالباً منها الصفح. إلا أنها تفاجىء بالصمت، صمته المطبق!! وفجأة، تنطفىء أنوار المسرح..

مشهد الختام :

يحضرالثلاثة حفل موسيقي في قاعة كبيرة، يفترضها المؤلف أن تكون قاعة عرض المسرحية نفسها.
جيراردو وباولينا يجلسان على مقعديهما جنباً الى جنب، فيما الطبيب روبيرتو يجلس بعيداً على أحد المقاعد، وهو يتبادل النظرات وباولينا بخلسة وإحتراس على إيقاع نغمات سمفونية " الموت والعذراء " التي تعزفها الفرقة الموسيقية.. تهبط من بعد وبهدوء من أعلى المسرح ستارة، هي عبارة عن مرآة بلاستيكية ضخمة.
تتوهج فجأة أنوار القاعة، فتنعكس وجوه المتفرجين على صفحة المرآة ، فينبثق حينها سؤال الخاتمة، و السؤال الأصعب والأشمل وهو : من نحن من بين هؤلاء الثلاثة!؟.

دورفمان لايريد أن يكون صوتاً بديلاً لصوت شخصياته. إنه ككاتب يمنح تلك الأصوات الفرصة والمصداقية كاملة، يمنحهم فسحة من الحرية ليقولوا كلمتهم، والأكثر من ذلك، أنه يشيّد فيما بينهم جسوراً لكي يلتقوا ويتحاوروا.
إن المحاكم التي يقيمها المؤلف هي بمثابة منابر أخلاقية تتعامل مع الحقيقة والضمير الإنساني. أما عقوباته فهي تبتعد عن مدلولها المادي والواقعي، ذلك المتمثل بالسجن أو الموت، وتتخذ لها دلالات رمزية، تلامس شغاف القلب والروح ووخز الضمير، وتهدف الى نوع من التطهير. عقوبات ليست أكثر من إحساس الجاني بفداحة جريمته إزاء ضحيته وأخيه الإنسان، وشعوره بالأسف والتوبة والندم على تلك الخطيئة، ومن ثم، طلبه الصفح من الضحية.
إن مأزق باولينا هو مأزق جميع الناس الذين قمعت أصواتهم، والذين يطلق عليهم دورفمان مجازاً بـ " المناطق الخاضعة للرقابة ". لذا فالكاتب يدعو في العهد الديموقراطي الجديد، تلك الأصوات التي تعرضت الى عمليات قمع وكبت وتعذيب في عهد الدكتاتور، الى الخروج الى النور، الى البوح بكل شيء، جهاراً ودون تردد أو خوف.

كتب يومها دورفمان : "... إن الكثير من الناس الذين تعرضوا للتعذيب لديهم قصصهم المكبوتة، تلك التي لم تُحكى بعد. أعرف أن التعذيب هو الجريمة الأولى، نعم، لكنني أؤكد أن الجريمة الأكثر بشاعة هي الصمت!!. أنا ككاتب، يقلقني جداً هذا الصمت، وأستطيع عمل الكثير بشأنه.. ". وهكذا أصبح دورفمان حقاً، راوياً لتلك الأحداث التراجيدية. ففي عالمه التخييلي يصبح فن القص أو سرد الحكاية، هو شكل من أشكال الحرية، فيما الصمت هو شكل من أشكال العبودية.

المسرحية لم تكن تحكي فقط عن بلده تشيلي، أو أي بلد عانى ويعاني الخوف وهو بحاجة قصوى لمعرفة مغزى ذلك الخوف وآثاره. ليس فقط عن التأثيرات الطويلة الأمد للتعذيب والقمع والعنف الذي مورس على الناس وعلى أوطانهم الجميلة، بل أيضاً عن موضوعات أخرى كانت وماتزال تقلق دورفمان، وتستحوذ على تفكيره بشكل مستمر :
ماذا يحدث مثلاً لو أن النساء إستلمن زمام السلطة ؟
كيف يمكنك قول الحقيقة إذا كان القناع الذي ترتديه يتطابق تماماً مع وجهك كيف يمكن للذاكرة أن تضللنا، وفي نفس الوقت، تهدينا وتنقذنا ؟
كيف يمكننا أن نحتفظ ببرائتنا ونحن تذوقنا طعام الشيطان ذات يوم ؟
كيف يمكن الصفح عن أولئك الذين آذونا بشكل يتعذر نسيانه ؟
كيف يمكننا العثور على لغة سياسية طازجة تنأى عن الشعاراتية القاتلة ؟
كيف يمكن حكاية القصص التي هي على حد سواء، مألوفة وملتبسة،
قصص يدركها جمهور واسع من الناس، قصص ماتزال تتضمن طرائق تجريبية،
قصص تعالج موضوعات خرافية، وإنسانية مباشرة، أيضاً ؟

الموت والعذراء تتحدث بلغة سياسية طازجة، وبإنفعال حاد ذي مغزى، عن تأريخ يتجاوز تخوم الأحداث الآنية، أو تلك الخسارات الشخصية التي عادة ماترافق التغييرات السياسية المفاجئة. في هذا الكوكب العجيب حيث تسود القوة، من الممكن جداً أن سكنته لايستطيعون حقاً معرفة ما حدث لهم. لكن من المحتمل جداً أن بإمكانهم سرد قصصهم وعذاباتهم في الأقل. بهذا المعنى، تصبح هذه المسرحية إبنة زمنها..


الهوامش

(*) هذه المادة هي مقدمة مجتزئة من النص المترجم عن النسخة الإنكليزية، والذي سيصدر قريباً عن منشورات " دار المدى ". ع. ك

(**) بيبلوغرافيا :

أرييل دورفمان ( 1942) مواطن تشيلي أمريكي الجنسية.

الدراسات
ـ كيف تقرأ دونالد دك ( عمل مشترك مع الكاتب أرماند ماتيلارت ) 1971.
ـ ملابس الإمبراطور العجوز 1983.
ـ بضع كتابات من أجل المستقبل 1991
ـ مسرح اللامعقول بين أربعة جدران " مسرح هارولد بنتر ".
ـ رحلة مزدوجة " إتجاه نحو الجنوب، نظرة نحو الشمال " مذكرات وثائقية 1998
الروايات
ـ الأرامل 1883. أغنية مانويل سينديروالأخيرة 1987. ماسكارا 1988.
المطر القاسي 1990. الثقة 1995. مذكرات صحراء 2004 ( رحلة في شمال تشيلي ).
المجاميع القصصية الأخيرة
ـ الفالس الأخير وقصائد عن المنفى والإختفاء 1988. وطني وسط النار 1990.
المسرحيات
ـ ثلاثية المقاومة ( الأرامل 1989. القارىء 1990. الموت والعذراء 1991 ).
( ماسكارا ) و ( قائمة في سيرة حياة المشهورين ) 2004.
الجانب الآخر 2005.
السيناريوهات
ـ الموت والعذراء ( كتابة مشتركة مع روفائيل إيغليسياس 1992. أنتج عام 1994 وقام بإخراجه المخرج السينمائي رومان بولونسكي. تمثيل : بن كنسلي و سيكورني ويفار ).
ـ سجناء في الموعد المحدد ( مشترك مع ولده الأكبر رودريغو 1995 ).
ـ وطني وسط النار ( سيناريو وإخراج مشترك مع رودريغو 1999 ).
ـ الموعد الأخير ( سيناريو وإخراج مشترك مع رودريغو 2002 ).
ـ أعزل في نيويورك ( كتبه دورفمان ولعب أحد أدواره، وأخرجه دانيال ألغرانت 2003 ).

كاتب المقالمسرحي وسينمائي عراقي
[email protected]