الملامح العامة لتطور الفن التشكيلي العراقي في عقدي الثمانينات والتسعينات (2/5)

اثبتت الواقعية على إنها المدرسة الاكثر حيوية في الفن على مر التاريخ، فإلى جانب المدارس الاخرىالاكثر ثورية، وحتى في القرن العشرين الذي إمتاز بالابتكار والتحديث، كان هناك نوعٌ من الواقعية كمدرسة فنية تعيش بموازاه المدارس الاخرى. فقد إزدهرت في أوربا، على سبيل المثال لا الحصر في العقود الاخيرة، مدرسة فنية سُميت بالواقعية الفوتوغرافية تعنى بالرسم بطريقة واقعية تبالغ بالاهتمام بكل التفاصيل الصغيرة إعتمادا على الفوتوغراف. على أنه ينبغي الانتباه الى اننا نأخذ مصطلح الواقعية بمعناه الواسع، ونعني بها جميع اشكال التعبير التي تنطوي على تأويل الواقع دون المبالغة في القطيعة عنه بإعتبارة مصدراً للآبداع، وبالرغم من إن الفن، في نهاية التحليل وبغض النظر عن مدارسه، يستمد تكوينه والوانه من الواقع الذي أعيدت صياغتة عبر رؤية فردية وذاتية إبداعية، الا أن درجة التغريب عن هذا المصدر تتفاوت وتبلغ ذروتها فيما أصطلح على تسميته بالحداثة وما بعد الحداثة، وعليه سوف يُصار، في هذا السياق الى إدراج الرومانسية والانطباعية والواقعية الفرنسية وممثليها الكبار من مدرسة الباربيزون وكذلك بالطبع واقعية (كوربيه) وكذلك الواقعية الفوتوغرافية المشار اليها أعلاه ومدارس أخرى ضمن مصطلح الواقعية، ليس لان هذه البحث مَعني بدراسة هذه المدارس وأنما لاسباب تتعلق بالمعيار والمنهج وبقدر تعلق الامر بالفن التشكيلي العراقي، ومن هنا تنشأ ملاحظة ضرورية تتعلق بتسميات المدارس الفنية تجعلنا نشير الى أن الحدود بين المدارس الفينة، كما هي عليه الحال في كافة التصنيفات في المجالات الابداعية والمعرفية، هي حدود إفتراضية وقابلة للحركة ومتداخلة فيما بينها، كما ان الفنان هو في الغالب غير معني بها، وأنها تنشأ في أعقاب عملية الخلق والابداع والانجاز وليس قبلها. وإن من المناسب التنويه الى ان الواقعية هي على خلاف جميع المدارس الفنية، وأضافة الى السمات الاخرى، غير قابلة للاستنفاذ كما إن إطارها واسع بحيث يتسع الى تلاوين مختلفة ولذا فإن بالامكان دائما وحتى في الوقت الحاضر تأسيس واقعية ذات أصالة.
كان من أوائل رواد الواقعية في الفن التشكيلي العراقي الفنان عبد القادر رسّام ولقد ترك هذا الفنان مجموعة من اللوحات التي تمثل مشاهد طبيعية لمناطق مختلفة من أطراف بغداد ومناطق أخرى، ولوحاته تمثل مشاهد طبيعية مرسومة بطريقة فطرية تأسست على التجربة الشخصية وعدم المواكبة أو الاطلاع الكافي على التجربة العالمية المعاصرة في تلك الفترة من أوائل القرن العشرين التي كانت أوربا فيها تقود ثورة غير مسبوقة في الفن التشكيلي، وتبعاً لهذا بقي فن عبد القادر رسام خالياً من أية هموم تتعلق بالاسلوب او التحديث. وبالرغم من أوربا شهدت في وقت أبكر قليلا بروز فطرية ( هنري روسو) الذي أعيد تقييم أعماله كواحد من رموز الفن التشكيلي الذين لعبوا دوراً كبيراً في التحديث اللاحق الذي شهده القرن العشرين، الا أن إختلاط هذا الفنان ومعرفته الوثيقة بأعلام الفن التشكيلى الذين عاصروه أمثال فان كوخ وسيزان ترجّح إختياره الواعي للمدرسة الفطرية على خلاف ما ذهب اليه الكثير من النقاد ومؤرخو الفن. تلعب العزلة والبساطة دوراً مشابها لدور الافراط في الاستقلالية over independence ))، في تأسيس فن فريد، فالفنان المعرض دائما لضغوطات الجمهور والنقاد ووسائل الاعلام يصعب عليه في الغالب أن يقوم بإختيار تلقائي قائم على على طبيعة تكوينه وإحاسيسه حيث يتعرض الفنان الى تدخلات من أنواع شتى، ليس أقلها النقد، تلعب دورا مباشرا وغير مباشر في سلبه حريته وتلقائيته، لذا فإن العمل المقصود الذي قام به (غوغان) على سبيل المثال في الهروب الى عالم معزول، كان متوفرا بقدرما وبدون أي مجهود لفنانين آخرين بحكم عوامل أخرى، وليس من الصحيح القول بأن الوعي والثقافة يلعبان دائما دوراً أيجابياً في تطور الفنان ففي أحوال كثيرة كانت بساطة الوعي وعدم تعقيداته قد دفعت الفنان الى شحذ أحاسيسه وحدسه كما أنها من جهة أخرى جعلته في منجى من التشوش القائم على المبالغة في الاطلاع، إن هذه المقدمة تنطبق، الى حد ما، على مثال الفنان فائق حسن.

فائـق حسـن

حقق الفنان فائق حسن موقعه في الحركة التشكيلية العراقية، كواحد من أبرز أعلامها، من خلال أسلوب واقعي متفرد، وليس من خلال أعماله التجريبية الحداثية المبتورة، وكانت المرحلة المتأخرة من تطوره الفني في السبعينات والثمانينات تتجلى في خصائص إسلوبه على وجه التحديد، لقد أنجز الفنان فائق حسن أعماله المتأخرة، وخصوصاً أعماله الكبيرة،والتي تناولت في الغالب مواضيع الحياة اليومية البغدادية والحياة الشعبية، والخيول العربية، ولوحات تمثل البدو المقيمين في غرب العراق، بنسيج تكنيكي موحد فهو ينجز أعماله وينهيها بعمل الفرشاة الكبيرة، مع إبراز جميع أجزاء اللوحة الصغيرة والكبيرة البعيدة والقريبة بحرية وجرأة وبطريقة تعكس مهارته الاسلوبية و تفهمه لخصائص مادة الزيت،، كما ان الفنان فائق حسن يعتبر بدون شك واحداً من أبرزالملونين.
والفنان فائق حسن، مثله مثل الواقعيين الكبار، قد تفهم بحدسه روح المجتمع الذي عاش فيه وجوهره في الحقبة التي عاصرها ولذلك لم تكن واقعيته مبتذله تسجيلية وأنما واقعية حميمية تغوص بعمق في جوهر العلاقات الاجتماعية السائدة مما جعل لوحاته نابضة بالحياة وإمتاز أسلوبه بالتبسيط والاختزال كما إنه وظّف المساحات الكبير دون أن يركز على التفاصيل معطيا العمل الزيتي كثافته بواسطة سحبات عريضة واثقة من فرشاته وبالرغم من خلو المساحات الواسعة في أعماله من التفاصيل كما ذكرنا،الاأنها لعبت دوراً في تعزيز التركيز على مركز اللوحة مثلما تلعب الروافد دورها في تعزيزالتيار الرئيسي للمجرى. هذا الاسلوب القائم على التجريب والمعاناة لحقبة غير قصيرة من الحياة الفنية لهذا الفنان البارز توارثه اكثر من جيل من الرسامين العراقيين الذين تتلمذوا على يده، وإذا كان فائق حسن قد أسس بهذا الاسلوب مدرسة خاصة مميزة، فإنه من جهة أخرى ربّى جيلاً من المقّلدين الذين لم يستطيعوا التخلص من أسار إسلوبه، كما ربى أيضا ذائقةً خاصة بين أوساط متذوقي الفن لعبت فيما بعد دوراً محافظاً.
في الفترة الاخيرة التي سبقت وفاته وفي السنوات اللاحقة كانت لوحات هذا الفنان موضع إقبال المقتنين، وبلغت لوحاته أسعارا غير مسبوقة، وقد أصدرت الدولة قانونا يمنع فيه إخراج أعمال الفنانين الرواد المتوفين وفي مقدمتهم الفنان فائق حسن ولكن أعماله هُرّبت على نطاق واسع ومن قبل نفس الاطراف المسؤولة عن تنفيذ هذا القانون كما جرى تقليد الكثير من أعماله، وتخصص في ذلك بعض الرسامين المهرة. لن أستفيض في الحديث عن ممثلي الواقعية الذين عاصروا فائق حسن وكانوا من جيله لسببين الاول إن الموضوع الذي نحن بصدده هو فن عقدي الثمانينات والتسعينات، وعليه سوف نتناول فقط الواقعيين الذين أستمروا في العطاء في هذين العقدين الا بقدر متطلبات الربط والاستطراد والثاني هو أن بعض الفنانين الذين عاصروا فائق حسن لم يقدموا الكثير.

حافظ الدروبي

يُصنّف حافظ الدروبي خطأً ضمن الانطباعيين ربما بسبب كثرة تناوله موضوع الطبيعة كما إن تحرير ضربة فرشاته لاتكفي لتصنيفه ضمن الانطباعيين فهذا التطور في الفن التشكيلي ـ أي تحرير ضربة الفرشاة وجعلها مستقلة ـ قد سبق الانطباعية كما أن رسم الطبيعة تم بأساليب ومدارس مختلفة، وليس حصراً بالمدرسة الانطباعية. لم تكن الطبيعة هي الموضوع الوحيد الذي شغل إهتمام الدروبي وإنما كذلك الحياة اليومية للناس مثل الاسواق والازقة البغدادية وهو مثله مثل أغلب الفنانين الواقعيين قد رسم البورتريهات وهناك مثال جيد لمهارته هذه في البورتريه الذي رسمه للفنانه حياة جميل حافظ. وقد جرب الدروبي اسلوبا آخر قائم على شكل من اشكال ( التكعبية ) واذا اردنا الدقة فان هذه المدرسة التي تتعامل مع البعد الثالث من وجهة نظر الخروج عن المنظور التقليدي او من باب أولى ادخال تعديلات عليه، تلغي بموجبه التدرج في التعامل الوجود الخارجي في تجسيم الاشياء كما هي عليه في الواقع، وتُحلّ محلها شكلا موشوريا متدرج الابعاد، أو شكلا ماسيا ( تبعا لشكل الماسة ) وهي من حيث المبدأ تتفق مع المبادئ العامة للتكعيبية التي طوّرها بيكاسو وبراك في أوائل القرن الماضي ولكنها لم تذهب بعيدا بالقدر الذي ذهبا الية. في المعرض الاخير الذي أقامه الدروبي على قاعة الاورفلي في الثمانينات كانت هناك ملامح واضحة لتدهور إمكانياته الفنيه حيث فقد لونه، المتألق سابقا، بريقه ربما بسبب تدهور صحته وتقدمه بالعمر، على خلاف الفنان فائق حسن الذي بقي محافظاً على قوة فنه حتى في السنوات التي سبقت وفاته. على أن فن الدروبي بعمومه كان تمثيلاً لذوق الطبقة الوسطى العراقية ورؤيتها، والذي تمثل في اجلى صوره في المثالين التاليين :

خالد القصاب ونوري مصطفى بهجت

كلا هذين الفنانين يعمل طبيباً. وظاهرة الاطباء التشكيلين ظاهرة مألوفة في الفن التشكيلي العراقي نجدها في أمثلة أخرى مثل الدكتور الراحل قتيبة الشيخ نوري و الدكتور علاء بشير وغيرهم. و هذان الفنانان ـ خالد القصاب ومصطفى بهجت ـ هما من بين الفنانين المنتمين الى الجيل السابق من الذين أستمروا في عطائهم في هذين العقدين في رسم الطبيعة ودواخل البيوت ومواضيع أخرى وكان لهما أسلوبهما الخاص بهما.
إن كلاالرسامين من حيث الاسلوب وطبيعة المواضيع المتناولة، يمثلان الرفاهية والاستقرار التي كانت عليهما الطبقة الوسطى العراقية والبغدادية على وجه التــحديد والتي كان تغيـّـيب دورها السياسي والاقتصادي، الناتج عن الانظمة الدكتاتورية المتعاقبة و سيادة التطرف و الاستقطاب في الحياة السياسية العراقية، جالباً للكوارث فيما بعد.
إن مثال اللوحات التي يقدمها هذان الفنانان في تصويرهما لدواخل الدور البغدادية او لحدائقها او لمواضيع الحياة الجامدة مثل المشاهد التي تمثل مشغل الرسام بأدواته ولوحاته الموضوعة على المسند أو صحون وجبة طعام وفواكه موضوعة على منضدة قرب شباك يطل على حديقة المنزل على سبيل المثال، والتي كانت، مبسطة شفافة وحميمية وفاتنة بشكل منقطع النظير تعكس المزاج المتفائل لطبقة نشأت حديثاً، وكانت الانجازات اللاحقة في حقبة الثمانينات والتسعينات من أعمال هذين الفنانين صدىً لذكريات جميلة مزجت بين بقايا الواقع الذي تحول الى خراب والحنين للماضي. فالطبقة الصاعدة او التي تم تصعيدها لتتسيّد المدن كانت تفتقر الى الحد الادنى من مستلزمات التمدن، وهي لم تمر بالمرشِحّات التدريجية المالوفة التي ينسقها الصعود الاجتماعي الطبيعي،كان هناك شكل من اشكال الغزو الذي إخترق المدينة دون أن يترك لها الفرصة لهضم القادمين الجدد، وقد إنعكس هذا بشكل خاص في شكل العمارة التي سادت بغداد في العقدين الماضيين والتي تتميز بالمباهاة والبهرج والنصبية والبذخ غير الضروري في المساحة والانشاءات، والذي تمتاز، من جهة أخرى وتأسيساً على ذلك بالعدوانية والافتقار الى اللمسةالانسانية.
وإذا كان فائق حسن قد درس الفن في أوربا، فأن فنه لم يكن يمثل الطبقة الوسطى وإنما بقي مخلصا لتحدره الاجتماعي فمواضيعه عن الحياة اليومية كانت تمثل الحرفيين والباعة في الاحياء الشعبية وبارات الاحياء الشعبية الرخيصة الذي يؤمها الناس بعد ساعات الكدح الطويلة ومع أن فائق حسن هو الآخر كان مفتوناّ بالحياة البغدادية اليومية في عصرها الذهبي الا إنه على خلاف هذين الفنانين لم يكن مفتونا برسم الدواخل وإنما قام بتناول جانب آخر من الحياة الاجتماعية، وبالرغم من سعة نطاق المواضيع التي تناولها، الا أن هذه المواضيع كانت على ما يبدو موضوعه الاليف. وكانت ألوانه أقرب الى الواقع وبدون بهرج زائد و يغلب عليها اللون البني الذي إستبعده الانطباعيون تماماً، و لم يكن في فنه أي ملمح لرومانسية او حلم إنما كان الى حد ما أكثر واقعية .
لقد أدت حربان مدمرتان وحصار وأزمة سياسية طاحنة، مهمة غير مشرفة وكارثية وكرست الميل للبحث عن ولائات جديدة خارج الطبقة الوسطى التي لم يعد بالمستطاع كسب ولائها، وكانت هذه الطبقة تحت الضغط بين مطرقة السلطة من جهة والتطرف السياسي بكافة أشكاله من جهة أخرى،ترتب عليه غياب الفكر اللبرالي وإطاره المرن.. في حين جََلب القادمون الجدد مفاهيمهم والتي كان في مقدمتها طرائق في السلوك والتذوق المتخلف التي تجاوزها المجتمع العراقي منذ وقت مبكروكان شكل العمارة آنف الذكر مثالا ظاهراً يسهل رصده.
على إنه لا ينبغي علينا أن نسهب في هذا التفاصيل بالرغم من صلتها الوثيقة بالفن التشكيلي وبالرغم من إن رصد التغيرات الاجتماعية لاغني عنه، في نهاية االمطاف لتكوين صورة عن الذوق السائد، فالدارس لتاريخ الانطباعية، على سبيل المثال، ليس بوسعه ان يتجاهل انها كانت تكريسا للرؤية الجديدة وطرق التذوق والسلوك المتحررة وغير المتكلفة التي جائت بها البرجوازية الفرنسية وانها بمثابة تعبير عن انتصار القيم الجمالية والسلوكية لهذا الطبقة بعد أن حققت انتصارها السياسي 1789 .

خالد الجادر في كلية الآداب 1970

في أوائل التسعينات توفي في الغربة الفنان والاكاديمي البارز خالد الجادر، وأُقيمت على قاعة جمعية الفنانين التشكيليين حفل بمناسبة اربعينية الجادر، كان ضمن الحاضرين زميله الدكتور مهدي المخزومي ورشدي العامل وأخوه الدكتور وليد الجادر، والذين رحلوا من بعده جميعاّ تاركين فراغاّ لايعوّض، كما حضر حفل التأبين أيضا العديد من الاكاديميين والفنانين والمثقفين وقد ألقى الشاعر رشدي العامل قصيدة أشارت بجرأة الى مأساة هذا الوطن الذي يموت أغلب مبدعيه في الغربة، وكما القى الفنان نوري الراوي كلمة مؤثرة.
بُعيد ذلك أقيم على إحدى قاعات مركز صدام للفنون معرض إستعادي ضخم، نضّمه المرحوم وليد الجادر أخو الفقيد والذي توفي بعده بفترة قصيرة، وقد ضم المعرض العشرات من اللوحات التي غطت مراحل مختلفة من عطاء هذا الفنان. كان الجادر من القلة القلائل من اساتذة الرسم الذين بمستطاعهم في آن واحد ان يقدم دروسا قيمة وحاسمة على الصعيدين النظري والعملي، فهو واسع الاطلاع على تاريخ الفن العالمي والاسلامي، ولديه خبرة واسعة في اللون سواء طرق إستعماله أو تركيبته الكيمياوية، وتتراوح معلوماته من التفاصيل الصغيرة مثل تهيئة الباليت وطرق تحضير الكنفاس الى المراحل المتقدمة لانجاز اللوحة.. والجادر حاصل على بكالوريوس الحقوق من جامعة بغداد وكذلك على درجة الدكتوراه في الفن الاسلامي من باريس ويتقن اللغات الفرنسية والانكليزية إضافة الى اللغة العربية.
كان الجادر قد أقام في العام 1970 معرضاً ضخماً على القاعة الرئيسية في المتحف الوطني للفن الحديث " كولبنكيان " وضم المعرض عشرات اللوحات الزيتيه، وكانت الثيمة الاثيرة لدى الجادر هي القرى العراقية المغطاة بسماء منذرة، هذه الاجواء التي تلمح لشئ ما غامض في قراه يوحي بقرب إعصار ما وهي تذكر بأجواء قصائد السياب " أكاد اسمع العراق يذخر الرعود". و يرسم الجادر قراه من منظور عالٍ يهيأ له رؤية بانورامية يستطيع من خلالها أن يهيئ لنفسه وللمشاهد إمكانية رؤية القرية حتى الافق البعيد.. وقد دفعت اجواء لوحاته المعتمة الملغّزة العديدين وبضمنهم شاكر حسن آل سعيد الى إعتباره فناناً تعبيرياً.. والحقيقة إن إشكالية المصطلحات وخصوصا استعارة المسميات الاوربية التي تم إستهلاكها لم تعد تستجيب للتطور المتشظي للفن التشكيلي لاحقا الذي كان من سماته إنه أصبح تطوراً فرديا محضا وفوق كل التصنيفات. يبني خالد الجادر تكويناته composition بعناية إستناداً الى مجموعة خاصة من القواعد ويرى إن التغييرات في التكوين قد تستدعي سلسلة من التغيرات المتعاقبة وإن تطور العمل في اللوحة يكون دائرياً.
في أعماله الزيتية يعتمد الجادر في كسر رتابة المساحات الواسعة ( الجدران على سبيل المثال ) على استعمال ما عرف في العمل المائي بالتكنيك الجاف فهو يغطي اللون القديم بسحب الفرشاة المحملة خفيفاً بالزيت غير المخفف برقة ودون ضغط محافظا على اللون القديم وجاعلاً حبيبات اللون الجديد تعلق بالاجزاء البارزة على قماشة الرسم وبهذه الطريقة يزيد الجادر من ثراء اللون من جهة، كما إنه من جهة اخرى يعطي إنطباعا بالانعكاس غير المباشر للضوء وخصوصاً على الجدران القديمة. وفي تخطيطاته بالحبر، والتي كانت بدون أدنى شك متفردة وذات قيمة فنية عالية،يستعمل الجادر نوعاً من الخشب المأخوذ من صناديق التفاح المستورد حينذاك ـ شرح الدكتور الجادر طريقة هذه لطلاب المرسم الحر في كلية الآداب في أواخر الستينات وأوائل السبعينات ـ، وهو خشب أبيض خفيف ذو طبيعة إسفنجية قادر على إمتصاص الحبر الصيني، يُقص بطريقة مقاربة لقصبة الخط العربي ولكنها أقل إنتظاما وً يستعمل جزئها العريض للمساحات العريضة والجانب الدقيق منها للخطوط الدقيقة والاهم من ذلك كله فإنه يستعمل هذه الخشبة بعد ان تستنفذ حبرها الذي رُسمت به المساحات الداكنة لرسم الظلال غير القوية أو ما يصطلح عليه ( نصف تون ).

والواقعيون العراقيون والخروج من معطف فائق حسن

وعلى خلاف إمكانيات التدريس المحصورة بالجانب العملي لدى الفنان فائق حسن، والذي كانت مشاهدته وهو يرسم هي أفضل الدروس، فإن الجادر كأكاديمي بارز يجمع الامكانيات النظرية والعملية على حد سواء. ولعل افضل خصائص التدريس التي يتمتع بها الجادر انه كان يدفع طلابه الى تأسيس اسلوبهم الخاص بعد ان يتمكنوا من مستوى معين من المعارف الاساسية. على خلاف الفنان فائق حسن الذي هيمن فنه اسلوبيا على تلاميذه وأورثهم اسلوبه الواقعي ولاجيال عديدة. فرسامون من مثل فيصل لعيبي وصلاح جياد ونعمان هادي ووليد شيت وصولا الى جيل علي المعمار وسيروان باران وغيرهم قد رسموا استنادا الى القواعد التي درسها فائق حسن ولم يستطيعوا التملص من هيمنته الاسلوبية طالما رسموا لوحات واقعية، وكادت الواقعية التي طورها فائق حسن ان تكون الواقعية الوحيدة والمهيمنة، وكان الخروج من اسر اسلوبه قد دفع ببعض الفنانين العراقيين الى ان يرسم باسلوبين مختلفين متوازيين، وهذا ما يدفعني الى الاعتقاد بان الفنان المرحوم فائق حسن كان فنانا كبيرا و لكنه لم يكن تربوبيا ( أي يتقن اساليب التدريس )، وذلك لانه لم يدفع طلابه الى البحث عن اسلوبهم الخاص، والاسلوبيات المبتكرة التي توصلوا اليها كان تعود لمجهودهم الشخصي ومثابرتهم.

علي المعمار وسيروان باران
هذا الفنان يتمتعان بمهارات اكاديمية بارزة، وهما على قدر كبير من المتأثرين بفائق حسن والذين قاموا برسم عدد كبيرمن الاعمال التي كانت تعكس تأثرا واضحا به، وكل منهما حاول التملص من الهيمنة الاسلوبية لاستاذه بطريقته الخاصة، قدم المعمار الذي اقام في مرحلة من الفترة التي نحن بصددها ـ الثمانينات والتسعينات ـ في الامارات العربية المتحدة،والذي قام في الغالب برسم الخيول، لوحاتٍ اضفى عليها رمزا بجعل الخيول رمزا للحرية والعنفوان والكبرياء فاخرج فنه من خانة الفن الواقعي جاعلا اياه فنا رمزيا. فخيوله احيانا قد كبت او فرّت من أسرها وانطلقت متحررة. ولكن اسلوبه حافظ على نفس القواعد والتوازنات السابقة كما ان مجموعته اللونية لم يدخل عليها حتى ذلك الحين أي تطور دراماتيكي. على ان فائق حسن هو الآخر كان قد استخدم الخيل كرمز، خصوصا لوحته المعروفة التي تمثل حصانا هزيلا يواجه مصيره القريب ـ الموت المحقق ـ ولكنه كان قد نفذ العمل الارضي بواسطة سكين الرسم مستخدما اللون البنفسجي بجرأة لاتتوفر في مثل هذه الحالات الا لفائق حسن. حقق الفنان المعمار نجاحات كبيرة في مجال المبيعات وحققت اعماله اسعارا عالية، ولا شك ان النجاحات في مجال المبيعات، كما ذكرنا سابقا، تلعب دورا محافظا، وتلعب دورا في التقليل من الميل الى المغامرة.
وفي هذين العقدين كان الفنان سيروان باران هو الآخر قد حقق ايضا الكثير من النجاحات بمعيار المبيعات ويتمتع الفنان باران بمهارة تكنيكية عالية وبديناميكية وانتاجية عالية، واعماله المتأخرة المعروضة في عمان، وكذلك العديد من الاعمال التي عرضها في كاليرهات بغداد في التسعينات، في قاعة أثر على سبيل المثال والتي عرض فيها مشهدا طبيعيا، شهدت انعطافا اسلوبيا، فخيوله لم تأخذ دورا رمزيا، كما فعل المعمار، وانما انصب التغيير لديه على الاسلوب إذ لم تعد خيوله مرسومة بالطريقة الاكاديمية المعهودة لكي تمارس عملا جماليا تزينيا، وانما تحولت الى شئ ما، شئ يقرب من التجريد، وتحرر لديه اللون، ولعب الخط، على خلاف اسلوبه السابق دورا اكبر، فخيوله يحددها في الغالب ليس اللون كما درج علية سابقا، وانما خط رقيق، لايقوم بحبس اللون، وانما يسمح بموجبه له بالهروب هنا وهناك، ساعيا نحو حريته وكينونته الذاتية، ليس للتعبير عن شئ آخر، شئ قائم خارجه، وانما للتعبير عن نفسه كرمز ودلالة قائمة بذاتها. على ان الفنانين الدارسين لدى فائق حسن والمتأثرين به اكبر من مجرد مثالي المعمار وباران، فناظم حامد، وسعيد شنين وآخرين عديدين درسو وتأثروا بهذا الفنان الكبير الا اننا نتابع ظواهر ورموزا ذات دلالات في الاشارة الى التيارات التشكيلية السائدة.

نجيب يونس

لقد تناولت بعض الفنانين الشباب في سياق الحديث عن الواقعية مستبقا الحديث عن الفنان الواقعي البارز الآخر نجيب يونس، وذلك في سياق الامثلة التي تم سوقها للحديث عن التأثير الذي مارسه الفنان فائق حسن على هؤلاء الفنانين. وبالرغم من الفنان نجيب يونس كان ايضا ذا تأثير واضح على العديد من الفنانين في منطقة الموصل والتي قلما غادرها، الى انه كما يبدو لي لم يكن ميالا الى هذا النوع من التأثير والسطوة التي مارسها فائق حسن.
تمتاز واقعية نجيب يونس باسلوبها الخاص، كما ان له مجموعته اللونية، التي هي من جهة اخرى اكثر تنوعا وبريقا واكثر تحررا من الالوان الارضية والبُنيّات التي برع فائق حسن باستخدامها، ولاشك ان الطبيعة الموصلية والمناطق المحيطة بها، وخصوصا مناطق الايزيديين وملابسهم الزاهية والطبيعة الخلابة في المناطق التي يسكنون فيها حيث كانت حياتهم اليومية ودبكاته والتي كانت احد الموتيفات المفضلة لهذا الفنان قد لعبت دورا كبيرا في اغناء مجموعته اللونية. رسم نجيب يونس الزهور وخصوصا النرجس واسع الانتشار في تلك المناطق، كما رسم الحياة اليومية والناس في المقاهي والطبيعة الساكنة وكان مجال المواضيع التي تناولها واسعا، كما سعى للوصول الى تطويرات اسلوبية بكسر المنظور واستعمال اكثر من منظور واحد في اللوحة الواحدة. وفي الثمانينات اقامت له وزارة الثقافة والاعلام معرضا كبيرا في العاصمة البريطانية لندن. درس هذا الفنان في مصر وليس من الصعب تتبع أثر ذلك على اسلوبه. عرض الفنان نجيب يونس في قاعة أصدقاء الفن وقاعة نادي العلوية فيما بعد وكانت تربطه بالفنان الراحل موفق الخطيب علاقة طيبة إذ انه عموما قليل العرض في الكاليريهات ربما بسبب الاقبال على اعماله التي كانت تطلب منه مباشرة وبكثرة عن طريق التوصيات.

ابراهيم العبدلي
قلما يلاحظ المراقب للحركة التشكيلية، فنانا على قدر من الاستقرار، وعدم الميل الى المغامرة بالقدر الذي عليه هذا الفنان، لقد حقق ابراهيم العبدلي اسلوبه الواقعي الخاص به، ولايوجد أي مثال على تأثره، من وجهة نظري بأي من الفنانين أو المدرسين، واللوحة التي يقدمها مستقرة لايشوبها أي نوع من القلق، كما يلاحظ الدارس للوحاته انه يخطط للوحة بعناية ومهارة وربما لايلجأ إثناء الرسم بالزيت الى أي نوع من التصليح أو تداخل الالون او تغطية بعضها البعض ( over lap) أو تغييرات في التكوين ( composition ) والفنان العبدلي من جهة اخرى فنان متأنٍ وانتاجه غير كثير ولكنه يعتني بلوحته كثيرا. وكانت الاعمال التي عرضها في قاعات بغداد في الثمانينات وبعدها، قد رسم فيها طيور الحمام وهي في امام اقفاصها أوانها تنهل الماء من مناهل الفخار، وفي خلفية اللوحة رسم العبدلي اسلاك الاقفاص بدقة وصبر متناه، كما رسم العبدلي العربات مركونة ومتقابلة وقد غادرتها الخيول، ربما بعد يوم من العمل الشاق. ويرسم هذا الفنان بلمسات رقيقة من الفرشاة، وقال في حديثة عن تجربته واسلوبه ان ربما يستعمل الفرشاة لمرة واحدة ولتنفيذ لوحة واحدة.
هناك اسماء اخرى من رسامي الواقعية والذين كانت اعمالهم في الغالب أو حصرا منفذة بواسطة الالوان المائية، الا ان الرسم المائي لما له من خصائص، وبسبب انتشاره في اواخر عقد الثمانينات وعقد التسعينات وتحقيقه سمعة عالية وجمهور واسع من المعجبين، يستحق منا قسما خاصا مكرسا له في حلقة قادمة.

يتــبع
[email protected]

الحلقة الأولى