بيروت من جورج جحا: في كتاب نصري الصايغ في الجديد والجريء "لو كنت يهوديا" نجد الكاتب يتقمص عاطفيا الانسان اليهودي لفهم الامه ومخاوفه ولطمأنة الذات الى عدم الانغلاق ضمن أفكار مسبقة عن الاخرين فنظلمهم ونظلم نقاء انفسنا. وبعد رحلة طويلة في عملية التقمص او عملية التمثل هذه من خلال جولات عديدة في انواع من النتاج الفكري والادبي والوجداني ليهود اسرائيليين وغير اسرائيليين ولاخرين تحولوا الى "اسرائيليين" بالانتماء.. وفي نواح من الحياة اليومية والمشاعر عند مواطنين اسرائيليين عاديين.. ومع الانفتاح والتفهم والتعاطف احيانا والاقرار بمعاناة اليهودي.. يصل الكاتب اللبناني الى ان الفلسطيني ليس له من يماثله في رحلة الالام الطويلة والى ان الامه ستنتصر. وقد صدر كتاب الصايغ في بيروت عن دار رياض الريس للكتب والنشر وجاء في 280 صفحة من القطع المتوسط وتوزعت مواده على قسمين رئيسيين وجاءت هذه المواد على اختلافها بين فكري وادبي وسياسي ويومي.. في نمط من الكتابة يفيض بحرارة شعرية دائمة التنقل بين اقسامه دون انقطاع. قدم الصايغ كتابه الى مناضل وسياسي فلسطيني بارز على الصورة التالية "الى من كلامه مقيم جدا. الى واحد اكبر من جمع. الى فلسطيني بلا تخوم. الى رجل حقيقي جدا. الى عزمي بشارة." استهل الصايغ كتابه بفصل ذي عنوان رمزي يدخل فيه الى الحاضر من باب الماضي ومن مدينة جمعت بين الجغرافيا والتاريخ وجعل منها دلالة على ما يراه مصيرا حتميا "للاندلسيين" العبرانيين هذه المرة الذين سيبكون "ملكا" مضاعا ليس بالفعل ملكهم. والعنوان هو "العبور الى غرناطة اليهود".
وتحت عنوان فرعي هو "لو كنت يهوديا" قال نصري متسائلا "لماذا اعبر من انتمائي اليه؟ كيف انتقل من فلسطينيتي الى اسرائيليته؟ وهل سألتزم بأمانة الانتقال فلا أخلط بين نقيضين ولا اصير عدوا لي؟ يحدث ان عبوري الى يهوديته في اسرائيل لا يتناسب مع مواسم الدم الفلسطيني والانكسار العربي والضياع الثقافي وغلبة الفوضى واشتداد الظلامية القاسية... يحدث انني ذاهب الى ان اكون يهوديا والانتفاضة بحاجة الى ان اكون فلسطينيا جيدا... ومع ذلك فلي اسبابي في هذا الانتقال الاختياري والمؤقت كي امتحن اليهودي في محنته لاعيش هواجسه لاعاين جراحه لافهم اسئلته الوجودية... لافتش له عن مخرج لانتظر معه "جودو" الذي سيزورنا دائما ويقول.. لن اتي ابدا."
وللصايغ ثمانية كتب سابقة بينها شعر وقصة وابحاث. وفي كتابه الاخير "بولينغ في بغداد" فصل بعنوان هو "لو كنت امريكيا" نجد فيه منطلقا لعنوان كتابه الحالي. اما فكرة "ان اصير يهوديا" فقد نشأت خلال زيارة له الى نجله الذي يدرس في باريس وتجمعه دراسته مع عدد من زملائه من اليهود اليساريين وكان الشاب غالبا ما يؤثر اجتناب الحوار والمناقشة "مما يعرضه لتهمة الغباء السياسي او الحرد الموروث او اللاسامية" كما انه في الوقت نفسه لم يعد مقتنعا بالافكار التي ترى في كل يهودي "صهيونيا وعدوا لامتنا."
تجرأ الوالد وقال له "كن يهوديا حاول ان تتلبس شخصيته. ألست تدرس التمثيل. افعل ذلك. سترى عند انتقالك اليه انك قادر على فهمه والقبض على مشكلته... قد ترى في مواقفه من تاريخه مبالغة وتجارة متقنة ولكنك لا تستطيع انكار عذاباته وعزلته ولجوئه القسري الى الجيتو...
"قل لهم لو كنت يهوديا لربما ولعلى الارجح كنت مثلكم افتراضا... ولكنني فلسطيني بالانتماء فهل تستطيعون ان تكونوا فلسطينيين مثلي. هل تفهمون تاريخي الحديث المكتوب بالدماء على جلجلة شاهقة ومزمنة والمسفوك بأيد يهودية اسرائيلية ويهودية منتشرة داعمة بالمال والاعلام والثقافة والانتشار الكثيف في مراكز القرار الدولي... قل لهم ان عذاب اليهودي من صناعة لاسامية عنصرية اوروبية بينما عذابات الفلسطيني من تأليف اليهودي في اسرائيل والشتات."
وفي هذه الرحلة الصعبة الى اليهودي يقول الصايغ انه بدأ يجمع "من شتات الكتب والمقالات والدراسات اليهودية والصهيونية ما احتاج اليه مستبعدا السياسيين الذين يتقنون فن التعمية.. قرأت طلاق اموس اوز ورمزية بورخيس. نبؤة ميرون بنفنتسي. يأس حاييم هنجي. وداع الصهيونية مع ابراهيم بورغ. اعترافات بني موريس الابوكاليبتية .عسكريتارية برنار هنري ليفي. صهيونية دنيس شاريت. حلم شارل اندرلان المكسور. رحلة اليهود في عالم المال والناس لجاك اتالي. وشرب البحر في غزة لاميرة هاس. وكيف تدمر فلسطين لتانيا رينهارت ومحاولات توني جودت اليائسة لايجاد حل. واعادة امتلاك فلسطين لايلي برنابي. وردود ان هاليفي الدقيقة والمقفلة."
يضيف الصايغ سائلا ومجيبا "الى ان وصلت ان اليهودي في اسرائيل يشك في ان يكون لاسئلته اجوبة. لا يعرف اذا كانت اسرائيل ستبقى يهودية. لا يعرف اذا كانت اسرائيل كيفما كانت ستبقى. ولا يعرف اذا كان السلام ممكنا وما الثمن وكيف ستكون علاقته بالفلسطيني وبأرضه وبالشعوب العربية الاخرى. انه كائن معلق.. يؤمن بالعنف خبزه كفاف يومه.. وليس كفاف مصيره."
وفي الفصل الذي حمل عنوان "القبور المتبادلة" يبدأ الصايغ تصوير اليهودي من خلال يوميات حياته ومن خلال حوارت يقيمها مع كتاب ومفكرين ممن اورد الكاتب اسماءهم. يختصر وضع هذا اليهودي المأزوم الشديد العنف بعد الانتفاضة الثانية في اقوال له في حديثه عن نفسه وعن يهود اخرين ومنها مثلا "سأقتل عربيا او عربا. ميرسو الابله في "غريب" البير كامو قتل عربيا لسبب تافه وربما بلا سبب وصار بطلا... انا لدي عشرات الاسباب لاقتل اول عربي القاه في اي مكان. لدي عشرات الاسباب لقتله عشرات المرات دفعة واحدة." ويصف خوفه بعد عملية تفجير عربية رهيبة وقوله انه قرر اتخاذ "قرار حكيم..سأتبنى الجنون." وانه لم يكن بحاجة الى جهد كبير لتبرير ذلك "اليوم قد أقتل. امس لم أقتل. غدا من ينفذ وصيتي.."
في نهاية "الدور" اليهودي نكتشف ان مشروع اقامة اسرائيل كان كارثة على الفسطينيين وانه ايضا خلق لليهود فواجع جديدة. يقول اليهودي "سامحوني .. ساذهب الى ملاقاة اصدقاء مارست معهم يوما قتالا مريرا دفاعا عن بقاء اسرائيل وساقول لهم.. لقد خسرنا كل شيء يوم كنا ننتصر دائما. اين الخطأ.... في البدء كان الخطأ. لعل غيري يعيد النظر بالصهيونية ويقول لها.. سقط الجميع .. اغلقوا الستارة.. كفانا دما منا ومن سوانا... يلزم ان نعيد انتماءنا الى العالم كل العالم فهذا الكوكب يتسع للجميع وفلسطين لا تتسع الا..."
في ختام هذه الرحلة الغنية والجريئة يعود الصايغ الى شخصيته "الطبيعية" التي اختارها اساسا.. شخصية الفلسطيني وليسرد عذابات الفلسطينيين وليسأل بلسان الفلسطيني "من يشبهني" ويقول "لانني ولدت بعيدا.. لاننا ولدناومتنا بعيدا.. لان الذين سيولدون يوما مشتاقون لملاءة فلسطينية فاننا نحمل اباءنا واجدادنا وامهاتنا معنا ونعود. انا هو الذي ولد على صليبه.. وعليه ان يصنع قيامته مرارا. فمن يشبهني..... ماذا اقول.. انا الفلسطيني. لا احد يشبهني."