يقول N.K.SANDARS في كتابه "ملحمة جلجامش": "إنّ نسخة ملحمة جلجامش المدوّنة باللغة الآشورية مكتوبة بشعرٍ موزونٍ حرّ، وفي كلّ شطرٍ منه أربع نبرات، أو وحدات إيقاعية. بينما النسخة المكتوبة باللغة البابلية القديمة، فأشطرها أقصر، ولكلّ شطرٍ وحدتان إيقاعيتان. يضعنا SANDARS منذ البداية أمام ضرورتيْن: الأولى تعيين لغة النصّ، وثانياً قراءة النصّ إمّا بلغته الأصلية أو عن طريق ما يُسمّى باللغة الإنكليزية: TRANSLITERATION أيْ نقل أصوات حروف لغة إلى لغةٍ أخرى.
هناك عدّة دراسات باللغة الإنكليزية عن الوزن الشعري في ملحمة جلجامش، لكنّها ، والكلام لا يخلو من التظنّن والترجيم من طرفي، تقطّع الشعر على غرار تقطيع الشعر الإنكليزي أوّلاً، وثانياً تستدلّ على توكيد المعاني أو عدمهِ عن طريق الحروف الصحيحة وحروف العلّة،

كما فعل MORAN مثلاً في كتابه:" A MESOPOTAIMIAN MYTH” (أسطورة من بين النهرين)، فحلّل نموذجاً شعريّاً قديماً من غير ملحمة جلجامش(ص 61). تحليل طريف لا ريب، إنْ صحّ. لا ضرر. لكن من الأفضل ألاّ يغيب عن البال أنّ موسيقى الحروف، أو دلالاتها تختلف من لغةٍ إلى أخرى.

حاول طه باقر أن يدلوَ بدلوه في هذا الباب، فكتب نبذة مطوّلة نسبياً عن الوزن في الملحمة، ربّما تقليداً للباحثين الغربيين، ولكن دون أنْ يدلّنا على تفعيلة واحدة. لم يمسّ طه باقر الوزن السومري، فاقتصر على " الشعر البابلي أيْ الشعر الذي نظمه شعراء العراق القديم باللغة الأكدية ( البابلية والآشورية) ". يتردد مصطلح "الشعر البابلي" كثيراً لدى طه باقر، ولكن لا نلمس تفريقاً في كلامه، بين الشعر البابلي والشعر الآشوري من حيث الوزن" كما رأينا أعلاه لدى SANDARS . يقول طه باقر بعد ذلك :"يعتمد الوزن، أي العروض، في الشعر البابلي مثل أشعار بعض الأمم الأخرى، كالشعر العربي واليوناني واللاتيني وغيرها على مبدأ تجزئة الكلمات إلى مقاطع SYLLABLES التي تتناوب ما بين المقاطع الصغيرة والمقاطع القصيرة أيْ بحسب مصطلحات العروض العربي "الأوتاد" والأسباب التي أساسها الحركة والسكون وفي بعض الأشعار الأخرى النبرات أيْ التشديد أو التخفيف ACCENTED, UNACCENTED وبجمع عدّة مقاطع يتألف ما يصطلح عليه في الشعر العربي "التفعيلات" أيْ ما يضاهي FOOT)) في الشعر الإنكليزي. ثمّ بجمع عدّة تفعيلات يتكوّن شطرا البيت. وعلى هذا الشكل جاء إلينا الشعر البابلي". (ص 32). هذا تعميم ومطلسم قليلاً ولا شكّ إن المعنى في قلب الشاعر. هل تعرّفنا على أيّ وزن في الشعر البابلي من خلاله؟ ما علاقة الشعر اليوناني والشعر اللاتيني بالشعر البابلي وزناً؟ بالطبع، ما أفادنا به طه باقر هو نقل بعض الأشعار القديمة بأصواتها الأصلية، ولكنْ بحروف عربية. من ذلك مثلاً، خطاب سيدوري صاحبة الحانة إلى جلجامش :
"سابينُم أنّا شاشمْ أزْكرّا أنا كلكامش
كلكامش ايشْ تَدال
بلْطمْ شا تَسخوّرا لا تُنَّا
حِنُما ايلاني ابْنو أويليتمْ
ماتَمْ أشْكونو أنا أويليتمْ
بلْطمْ أنا قاتيشوتو اصبطو
انّا كلكامش لو ملئي كرَشْكا
اورى وموشي خِدّادو أنّا"

فيما يلي التقطيع العروضي للأبيات أعلاه:

سا بي/ نمْ أنْ/ نا شا/ شمْ أزْ / كرْ را / أن نا / كلْ كا/ مشْ
-- / - -/ - - / - - / - - / - - / - -/ -
كلْ كا / مشْ ايش / تا دالْ /
_ _ / _ _ / _ _ /
بلْ تمْ / شا تسْ / خو را/ لا تنْ / نا
_ _ / _ _ / _ _ / _ _ /
ح ن ما / أي لا/ لي أبْ / نو آ / وي لي / تمْ
= = - / - - / - -/ - - / - - / -
ما تمْ / اش كو / نو آ / وي لي / تمْ
- -/ - - / - - / - -/ -
بلْ طمْ / آ نا / قا تي / شو عصْ / صبْ تو /
- - /- - / - - / - - / - - /
أتْ تا / كلْ كا / مش لو / ما لي / كرْ شكْ / كا
- -/ - -/ - - / - -/ - - / -
أو ري / أو مو / شي هدْ / دا دو / أتْ تا /
- -/ - - / - - / - - / -

فيما يلي الترجمة العربية:

"يا كلكامش إلى أين أنت سائر
لن تجد قطّ الحياة التي تنشد
فالآلهة حينما خلقوا البشر
كتبوا عليهم الموت
واحتفظوا بالخلود لهم
يا كلكامش دعْ معدتك تكون ممتلئة
وانشرحْ ليل نهار"

من التقطيع أعلاه، نتعرف على جملة من الحقائق، منها:
1-يتفاوت عدد التفاعيل من شطر إلى شطر.
2- وفقاً لذلك التفاوت لا يوجد شطران.
3-يحتوي الشطر الأوّل على سبع تفاعيل، مع زيادة مقطع، بينما يحتوي الشطر الذي يليه على أربع تفاعيل.
4-تتكرر زيادة مقطع في الأشطر التالية: الثالث والرابع والخامس والسابع.
5-كلّ التفاعيل على وزن فِعْلُنْ ما عدا التفعيلة الأولى في السطر الرابع، فقد جاءت على وزن فَعِلُنْربّما سببها نطقنا غير السليم للكلمة.

عند مراجعة الأمثلة الأخرى التي أوردها طه باقر ،وتلك التي أوردها المترجمون الإنكليز، يظهر أنّ كلّ التفاعيل على وزن فِعْلُنْ. على ضوء تلك الأمثلة، لا يساورني الشكّ أنّ ملحمة كلكامش مكتوبة على بحر الخبب، وتفعيلته الأساسية إمّا فِعْلُنْ أو فَعِلُنْ. بحر الخبب كما هو معروف متولد من بحر المتدارك وتفعيلته :فاعِلُنْ وحين يصيبها الخبن تصبح : فِعْلُنْ أوفَعِلُنْ
ثمّة أسماء عديدة وكلُّها طريف لبحر الخبب. منها: الرقّاصات، وضرب النواقيس، وقطر الميزاب. ( ممدوح حقّي – العروض الواضح) (ص 78-79).
من أشهر القصائد على هذا البحر، قصيدة أحمد شوقي:

مضناكَ جفاهُ مرقدهُ وبكاهُ ورحّم عُوّدُهُ
حيرانُ القلب معذّبهُ مقروحُ الجفن مسهّدهُ