الهوة بين الناهب والمنهوب000وسرد برداء الشعر

يذهب الراوي الى عزلته00

لنحصد عذاب الكلمات

بهذه الكلمات للشاعر سنان المسلماني يبدأ الروائي أمير تاج السر رحلته داخل روايته الجديدة " مهر الصياح "[1] التي تقع في 303 صفحات ، فيقودنا مبهورين مثل طفل في أول عيد يدركه، فنكتشف حياة حافلة تضج صخباً وحركة، تلك الحركة التي تنبئ بوجود مجتمع يمارس علاقاته وقناعاته التي تنتقل بنا من منطقة الواقع الى عالم السحر والابهار0 ولابد من الاعتراف أن قراءة رواية بهذا القدر من التفاصيل والحيوات المتنوعة بحاجة الى صبر 0

لم يكتف أمير تاج السر بأن أشاد عمارته الخاصة في روايته، وإنما بنى عالماً كاملاً يموج بالبشر تجمعهم سلطنة " أنسابة " وعاصمتها "جوا جوا"، وكعادة المبدعين الذين لا يودون أن تكون أعمالهم نقلاً للواقع فتفقد بذلك صفة الابداع عنها، فقد جعل "تاج السر" روايته غير بعيدة عن الواقع لكنها لا ترتبط به عضوياً لا زمانياً ولا مكانياً، لذا فهو يشير الى أن كل ما في الرواية إنما هو من نسج الخيال ولا علاقة له بالواقع وإن تشابه مع شخصيات حقيقية، وهو ما يلجأ إليه بعض المبدعين اتقاء تأويلات المؤولين.

من المسلم به " إن من أولى وظائف السرد هي الإمساك بخيوط الأحداث ومتابعتها ورصد حركتها واتجاهها منذ استهلال القصة وحتى خاتمتها0 ويفترض فيه أن يجري على سجيته من غير افتعال أو تدخل من القاص"[2]0 يصوغ تاج السر أحداث روايته بسرد تقليدي ينمو ويتفاعل مع الأحداث وذالشخصيات وتنقلها في المكان، لكن سرده يأتي ممزوجاً بالشعر، فتغدو روايته ومضات شعرية يفيض فيها الدفق الشعري في بعض المفاصل بغزارة أكثر من السرد نفسه الذي يشكل جسد الرواية حتى تتحول في بعض فصولها الى ملحمة شعرية، وهو حين يقيم شعره وسط الرواية لا يسعى الى استعراض قدرته الشعرية قدر تلمسه طريقة مناسبة لجعل الحياة الداخلية للرواية أكثر صدقاً وشاعرية ونبضاً بالحياة، ولابد من الاعتراف أن الرواية متشابكة وتحتاج الى قارئ متأن0

تتجلى قدرة الروائي وبراعته في خلقه عالماً قد لا تكون له أية جذور في الواقع، لكنه يجعلنا نصدقه ونتعاطف أو نختلف مع شخصياته فتتبدى أمامنا حياة حافلة لا يمكن إلا التعامل معها على أنها واقع حقيقي، وهو بذلك يمنح المتلقي حياة مضافة الى حياته وتجارب الى تجاربه وتلك أحدى وظائف الإبداع0

خلق الروائي تاج السر سلطنة هي " أنسابة " فيها شعب يعيش بفقر مدقع، يدلنا برهافة أسلوبه على تفاصيل حياته المأساوية من خلال مرافقتنا لشخصيات الرواية، ولهذه السلطنة حاكم يطلعنا الروائي على عالمه الخاص فندرك طريقة حياته التي لا تختلف عن حياة سائر الحكام الآخرين، أما العاصمة "جوا جوا" فلها أزقة وشوارع وبشر يتحركون فيها يجترون أحلامهم بلا أمل، باختصار لقد خلق لنا عالماً كاملاً وحياة خاصة لهؤلاء الذين قد لا يكون لهم وجود في الواقع لكنها حياة ربما أكثر غنى مما يعيشه بعض الناس في الواقع0

يتخذ أمير تاج السر من "مجلس الكوراك" مكاناً مركزياً تدور فيه الأحداث، فهو ملتقى احتفالي لأهل المدينة والقادمين إليها ينعقد أيام الجمع من كل أسبوع، يعرض الناس فيه حاجتهم على السلطان الذي يستمع إليهم من خلال سلسلة من الرجال، يتعرف "آدم نظر" على عالم الكوراك ومجلسه من خلال زيارته مع والده، فيكتشف هذا المكان الذي يعرض فيه كل فرد مشكلته أمام السلطان ومرافقيه فيتخذون القرارات المناسبة بشأنها، يرسم الروائي للسلطان صورة ضبابية لا تفصيلية لكنها موحية ليمنحه الهيبة التي يستحقها " لم يكن السلطان يظهر للناس دماً ولحماً أبداً0 كان يجلس في قاعة الحكم الكبيرة المزينة بزخارف الحرب وطبول النحاس والسيوف المصقولة والخناجر، ووجوه الجاريات التي خططها فنانون أوربيون مروا بالسلطنة في أيام مضت "[3]

مجلس الكوراك

لم يكن (الكوراك) مجلساً عادياً، وإنما كان يمثل نظاماً حياتياً سار عليه سلاطين أنسابة وبذلك حفظوا لهذه السلطنة وجودها واستمرارها فقد كان وسيلة لفهم شعبها ومعايشة أحلامه وآماله من خلال سلسلة الرجال الموجودين في الكوراك " وعن طريق سلسلة (الكوراك) تلك، أتيح لسلاطين (أنسابة) أن يتنفسوا روائح رعاياهم، يشمون الفتن والدسائس، وعطور الثورات الرخيصة، يقيمون حكام أقاليمهم، وموظفي جبي الضرائب، وأسعار السلع، يتنزهون بين المتسوقين في السوق، والمقاتلين في الحرب، والدارسين في مدارس القرآن، وربما نفذوا الى الغيد الحسان في مخادعهن، وحين أصيب أحد سلاطينهم مرة بالغطرسة وألغى ذلك المجلس الاحتكاكي، تهدمت هيبته، وخانه حكام أريافه، وفرت ضرائب مهولة من تحت رأسه، ولم يمكث في السلطنة سوى أشهر معدودة بعد ذلك "[4]

الصياح في الكوراك يعني أن يصرخ المرء بحاجته أمام جمع كبير من الناس وبحضور السلطان ، وهكذا فعل (نظر الحبايب) حين صاح طالباً الذهاب الى الحج في بعثة السلطان "كانت المرة الأولى التي يرى فيها (آدم نظر) والده يصيح بتلك الرعونة ، وذلك التهيج الجبار00 شاهده في البيت صائحاً عادياً 00مثل كل المربين وأولياء الأمور، قد لا يعجبه الغداء أو مذاق البن أو سلوك طائش من ولد00شاهده في السوق صائحاً متذمراً من ارتفاع الاسعار وانعدام السلع الضرورية00"[5]

لا أدري من أين يستقي أمير تاج السر ـ وهو طبيب ـ مصادره الروائية فنحن نكتشف معرفته الواسعة في طب الأعشاب حين يتحدث عن فتاق صانع الطبول " لم ييأس صانع الطبول أبداً 00اغتم لعدة أيام فقط ثم تبعثر في كل حيل الطب التي كانت متوفرة في البلاد في ذلك الوقت00 جرب أوراق (الهجليج) يابسة وخضرة00 جرب بصاق العشر، ومركبات الليمون المخلوط بدم الغزال00 ألصق لزقة القرض، وغمر جسده عدة أيام في ماء خور (الفراديس) الذي كان يركد خارج (جوا جوا) ويعتقد الأنسابيون بقداسة مائه، لجأ الى موهبة (ولد أعرج) امبراطور السفليين فما أفادت في شأنه، 000000كان فتاقه أبليسياً 00شرده من قوافل الحج وأقعده هكذا"[6]، وكذلك حين يتحدث عن العطور فيبدو كما لو كان عطاراً مارس هذه المهنة لسنوات، فنجد جبروتي وهو يكتشف عطر النضارة " كان عطراً وارفاً بالفعل00مزيج من برتقال ونرجس وزنبق صحراوي، وغرائب أخرى جاء بها الحوري من سوق الفخارين الكبير، شمه الصبي فأحس بتوهان لذيذ، تمثلت له فتاة البادية خارقة الجمال00أكذوبة ولد الحور، كاملة تعدو الى مراهقته، تمثلت له أطياف الجوار البضة وأصوات لغنج بعيد، ووجوه وردية الخدود يعرفها ولم يعرف إيحاءها أبداً، عادت ابتسامة جارتهم (روضة) التي ابتسمتها منذ عام ولكن بدثار جديد، عاد خصر قريبتهم (عائشة) الذي تتخنصره منذ عهد ولم يكن في الناضي سوى خصر قريبتهم عائشة، ولعبت في فناء الذهن قمصان حمراء كانت منشورة على حبل بعيد"[7]

تسامح

بسلاسة تنساب كلمات الروائي لتستقر في ذاكرتنا فنكتشف من خلالها روح ملامح المجتمع السوداني كونه مجتمعاً متسامحاً متصالحاً مع أبنائه، ولو وردت هذه المعاني خارج الرواية لتحولت الى خطاب سياسي ممجوج لكنها وهي تأتي ضمن السياق فهي تتحدث عن نفسها دون ادعاء0 فمن خلال التسامح الذي تعيشه سلطنة أنسابة نجد المسلمين يعيشون جنباً الى جنب مع النصارى واليهود يطل كل منهم على هذه الحياة المشتركة للجميع، يتحدث (ولد الحور) الى (آدم نظر) عن رجل الدين المسيحي (الشماس عبود) الذي أهداه كتاباً عن الصيد وقال له بعد فراغه من حفر بئر جديدة " الرب يمنحكم من سخائه فلا تخذلوا الرب"[8]، فهناك حياة حقيقية يعيشون تفاصيلها بحلوها ومرها، أما موضوع الدين فهو مسألة خاصة بين المرء وربه، كذلك نتعرف على (إيراك) تاجر الورق اليهودي الذي كادت كتيبة الرعاع أن ترسله الى الحج "وكاد أن يرسل (إيراك) اليهودي تاجر الورق والتحف التذكارية في سوق الفخاريات والذي كان أعور وبلسان ركيك في واحدة من تلك القوافل لولا أن تم تدارك الأمر قبل أن تتحرك القافلة "[9]، تلك القوافل التي كانت ترسل بتوجيه من السلطان (رغد) حيث يجمع فيها ركيكو اللسان والعور والمفتوقين والطرشان لغرض ابتعاثهم الى الحج على نفقة السلطان وكانت كتيبة الرعاع هي التي تتكفل ذلك، كذلك هناك (عامير) اليهودي صائغ حريم القصر0

يشير الراوي الى ذلك الفهم الخاطئ للدين حين يحرم بعض الشيوخ على الناس العلاج في مشفى فقط لأن القائمين عليه من الأجانب، فيبيحون دمهم تحت نظرية المؤامرة على العقيدة0 لقد استبشر الناس بافتتاح مشفى ( العناية الإلهية ) الذي اسسته مجموعة من الراهبات الأجنبيات قدمن من جنوب مصر لعلاج أهالي (أنسابة) بدون مقابل بمباركة السلطان على أن ينشأ مجلس (المداواة) لممارسة الطب الافرنجي على غرار مجلس (الجدات) حتى "جاءت تلك الفتوى المدمرة التي أصدرها (لاليا البرناوي) مفتي ديار (أنسابة) والتي تبين أن أولئك الشقراوات صاحبات مشفى العناية الإلهية كافرات قدمن من بلاد الأنجاس لتنجيس شعبه برغم براءة وظيفتهن 00وإنهن محللات الدم يؤجر من يقتلهم0 فررن بليلهن تاركات مشفى العناية الإلهية خابياً تئن به امرأة ويسعل به رجل ، وينزف في فراغه ختان لطفل لم يكتمل، وتاركات فتاق صانع الطبول إبليسياً يعذبه في كل لحظة0 وبعد عدة أشهر وصلت أخبارهن من سلطنة (كردمال) المجاورة والعدو التقليدي لسلطنة (أنسابة)"[10] لقد أقمن في كردمال بفتوى رسمية من مفتي ديار كردمال وموقع عليها من السلطان، "تلك الأيام فكر صانع الطبول في النزوح بآفته الى كردمال لكن قيود الوطن الكثيرة والمتشابكة أقعدته"[11]، ولطالما أقعدتنا تلك القيود عما نحب ونريد ثم لا نملك إلا الحسرة والألم على فرص تضيع منا هنا وهناك0

وأنت تقرأ رواية " مهر الصياح " تتلمس فيها واقعاً مشابهاً لهذه الدولة أو او تلك لكننا نكتشف وهمنا حين يمضي تاج السر في روايته مهتماً ببنائها الداخلي وحيوات شخوصه الداخلية دون أن يعطي أهمية لما هو سياسي، فالرواية عند تاج السر عمل إبداعي لا منشور سياسي وهو يعول على الأدب في بناء الإنسان لا على السياسية التي لم نجن منها غير الخيبة والخسران، متعة الرواية تجعل لعالمنا الذي نعيش قيمة حقيقية غير منظورة في خضم حياة قاسية نحيايها0

(جوا جوا) هي عاصمة(أنسابة) وكأنه بذلك يؤكد انحيازه الى جوهر الإنسان وعمقه الوجداني لا الى تكوينه الخارجي الجسماني، فهو مهتم بداخل سلطنته التي أنشأها على الورق وهو غير معني بما يجري خارجها، فلا ينفتح على عالم أوسع يجعله عرضة للسقوط في المباشرة والتنظير، فالروائي حين يغوص بالخارجي انما يتحول الى مؤرخ حاكي وليس روائي سارد0وهكذا تتحول أنسابة على يد تاج السر الى عالم واسع يشغلنا به حتى يكاد لا يتطرق الى غيرها، فهي عالمه الأثير الذي يتنفس داخله ويعيش في تفاصيله0

في (أنسابة) نعثر على ذلك التنوع الثقافي والديني الذي يجعل الحياة أكثر انفتاحاً وبعيدة عن الانغلاق، لابد للقارئ أن يشعر بالخجل وهو يرى روح التسامح السائدة عند أهالي (أنسابة)، مقابل التمييز الذي يشعر به اليوم أينما يولي وجهه، فقد اجتمعت في أنسابة مختلف الأجناس والأديان في جو حميم خال من كل تعصب، فهناك (حنفي الساحوري) وهو مصري صعيدي والمهاجر اليمني (عباد عبد الرب) الذي استوطن أنسابة وتزوج منها وأسس مدرسة ظلت مركزاً ثقافياً مهماً لأهالي أنسابة وظل هذا الرجل موضع احترام، إلا أن الحسد الذي استوطن في قلوب من صرفوا من خدمة السلطان دفعهم لعمل مكيدة ضده وفي لغة شعرية جميلة نقرأ "وضعوه في ذاكرة الغل الواسعة وابتدأوا يخيطون ثوب الفضيحة الذي سيرتديه يوماً ، وصفوه بالمجنون، وحامل الجرب والوسواسي، ومروج الأفك، وسلطوا عليه امرأة أسمها (النعيمة) كانت معروفة بالتسلل الى عواطف المراهقين في (أنسابة)"[12]، تفتري هذه المرأة على عبد الرب أمام الناس وفي حضرة السلطان فتصف كيف تحرش بها، وهكذا يفقد هذا الشيخ كل تاريخه ومجده الشخصي الذي بناه بسنوات من التعب والسهر في لحظة واحدة حين يقع ضحية لنميمة " لسعه السلطان في نظرة مرة 00ناده باليماني ملغياً ألقاب العالم والشيخ والفقيه، والنحوي، ووالد الصبيان وعدداً آخر من الألقاب التي جاءت معه أو اكتسبها أثناء وجوده" وهكذا فإذا أقبلت الدنيا على أحد منحته محاسن غيره وإذا أدبرت عنه سلبته محاسن نفسه، يأمر (رغد الرشيد) بجلده ثلاثين جلدة فتقوم كتيبة الرعاع بتنفيذ الحكم في ساحة (جواجوا)، لم يستعد (عبد الرب) لقبه إلا حين تواجد في عزاء وفاة نظر الحبايب0

حياة حافلة

مثلما نوزع الزهور في مائدة كبيرة، كذلك استمد " أمير تاج السر " من السودان تفاصيل حياة عاشها وألم بها، ثم جاء لينثرها ضمن أحداث روايته في تنسيق جعلنا ندرك أن هذه تفاصيل حياة شعب أنسابة، وما بين "حي الرديم" الذي تسكنه جموع الفقراء وهم غالبية الشعب، و"قصر المسك" الذي يسكنه السلطان الذي يمثل الوجه الآخر من الحياة، حيث رغد العيش عند النخبة الحاكمة والمقربين منها، وهذا التناقض الصارخ بين الناهب والمنهوب، فهناك إذن حياتان مختلفتان، تغوص الأولى بالفقر المدقع والأسى والنقاء والأحلام التي لا تتحقق رغم بساطتها، بينما الثانية - حياة القصور - حيث البذخ والترف والخديعة والدسائس والمؤامرات التي تحاك، وبين هذي وتلك هناك "كتيبة الرعاع" بقيادة الأمير مساعد وهو هنا ابن السلطان في إشارة الى طبيعة الأنظمة التي تقوم على أهل الثقة لا أهل الخبرة، وهي كتيبة اختير أفرادها بعناية، مهمتها حفظ الأمن في السلطنة وهي تذكرنا بتلك المليشيات الحزبية المعاصرة التي تنتزع من الدولة سلطتها وهيبتها وتمنحها في الوقت نفسه الضغينة الشعبية0

بناء الشخصية ونموها

في بنائه لشخصياته يعمد أمير تاج السر الى البناء الداخلي النفسي للشخصية أكثر من اهتمامه بالبناء الخارجي الشكلي، فنحن نتعامل مع مشاعر وأحاسيس أكثر من تعاملنا مع أبعاد هندسية للشخصية، وقطعاً أن هذه الطريقة تتطلب صبراً وهدوءاً من الكاتب والقارئ معاً، صبراً في رسم الشخصية وصبراً في تقبلها لكنها تكون أكثر رسوخاً في نفس المتلقي من الرسم الخارجي للشخصية، الا الرزينة فقد رسمها بطريقة فاضت أنوثة فساحت من على ورق الرواية وشممنا عطرها الذي صنعه لها جبروتي، كذلك إن الحوادث الشخصية البسيطة والحوارات القصيرة تسهم في رسم أبعاد الشخصية فالروائي يبثها هنا وهنا لكنها حين تتكامل فإنها ستكون صورة متكاملة للشخصية، إنه البناء الفني للرواية التي تجعلها إبداعاً يستحق القراءة0

تنمو الشخصية في الرواية نمواً جسدياً وذهنياً ونفسياً كما هي في الواقع،وهو ما ينبغي بالروائي مراعاته، من ذلك شخصية (آدم نظر) يرسمها الروائي بعد ثلاث سنوات على أول ظهور لها في الرواية" كان (آدم نظر) قد كبر أيضاً في تلك السنوات، وتصلد وجهه وامتد شاربه، وتكاثف على صدره، وتحت سرته الشعر الخشن، وأصبحت صياحاته في البيت، والحي، وحتى في دكان الطبول الذي أعاد افتتاحه من جديد وعمره بعد أن أقلع عن مدرسة المهاجر (عبد الرب)، أقرب الى صياحات والد الذي رحل حين كان يستلها بين حين وآخر، لم يكن يعجبه بن الصباح الطارد للنعاس، ولا لون الملاءات في الأسرة، ولا زيارات الجارات في وقت الضحى، ولا طنين البعوض، ولا رائحة عطر القمامة التي هي من مكونات حي الرديم، ولا مشية أخته النسائية العادية" هذا الوصف الخارجي لابد أن يرافقه نمواً فكرياً وذهنياً يتمثل في السلوك والتصرف ومستوى اللغة0

يحاول الكاتب رسم ملامح شخصياته من خلال السرد وفي مواقع متعددة، فعن طريقة (رغد الرشيد) في الحكم والدسائس التي تحاك ضده وكيفية مواجهتها يختصرها بتمثيلها بالريح "ليست الأبواب المشرعة فقط هي التي تدخل الريح ، ولكن حتى تلك المواربة منها أحياناً، كانت الريح تأتي من شقوق الأبواب المغلقة"[13]، وهو يعبر عن عقلية الحاكم كثير الشك بمن حوله، طمعاً في السلطة وشعوراً منه بمحاولات الآخرين للإطاحة به0

خيال شعبي

يمزج أمير تاج السر الواقع بالخيال حتى ليبدو مثل نسيج واحد لا مجال للتفريق بينهما، من ذلك حديث الروائي عن أعداء الشمس "كان في ذلك الوفد العزائي القادم من بعيد ، شاب أبيض من الذين يولدون بلا صبغة للجلد في تلك الولادات النادرة، يسمون علمياً (بأعداء الشمس)، ويسمون محلياً بـ (أولاد الحور) وتحاك حول سيرهم آلاف الأساطير، والحكايا الغريبة، كان أسمه (جبروتي) وكان أول ولد للحور يراه (آدم نظر) في حياته بالرغم من أنه سمع عن تلك السلالة كثيراً000سمع عنها في حكايات جدته ووالده ، وسمع من والدته مراراً تتحدث عن واحدة من بنات الحور كانت تعرفها في أيام الصغر وكانوا يقولون أنها جنية تعيش بين البشر "[14]، جبروتي هذا سيتحول فيما بعد الى أقرب أصدقاء آدم نظر0

قيمة الرواية تكمن حين تتحدث عن أولئك الذين أغفلهم التاريخ وممن لم يتركوا بصماتهم واضحة على الأحداث وهي أحدى نقاط الافتراق بين الروائي والمؤرخ، فالمؤرخ يهتم بصانعي الأحداث دون سواهم0 تاج السر تناول في روايته عذابات تلك الفئات التي تعاني من الإقصاء بسبب الجنس أو الدين أو اللون أو القومية، فالآخرون لا يدركون مبلغ تلك المعانات، فيحدثنا عن أولاد الحور باعتبارهم فئة مختلفة عن غيرهم يجمعهم شعور بالاضطهاد والتهميش " وكم كانت سعادته كبيرة حين التقى بثلاثة من سلالته كانوا هم كل أولاد الحور الذين يعيشون في (جوا جوا) تلك الأيام 00بادلهم المكابدات، وبالدلوه الحنظل00 شكا لهم وشكوا، وكانوا يحكون رؤوسهم باستمرار 00 في تلك الليالي الكئيبة التي أدمنوها بحثاً له عن مخرج00 وكانت مخارجهم بذيئة بالفعل حين اقترحوا عليه الموت، واقترحوا الخصي، واقترحوا التنسك، واقترحوا الصياح بحبه في الكوراك لعل السلطان ينصفه0 وكانت كآبته تطعن في العمق حين يصرخون00 ما نحن00 ما طعمنا00 ما ملامحنا00ما لون صبغتنا لو كانت لنا صبغة "[15]0ويصف الكاتب سهراتهم وصفاً ميزاً[16]

سحر المرأة

تاج السر مبدع مأخوذ كغيره بهذا الكائن الجميل المرأة، يعبر عن سحرها وأثره فينا من خلال عمله، وعلى لسان الراوي يتحدث عن الرزينة " تلك اللحظة بالذات خرجت (الرزينة) 00000000000كانت نظيفة ويانعة ومهرجاناً، ولها جدائل من شعر لولبي تقرصه عناقيد الخرز00وحين مدت يدها مصافحة لأيادي الرجال المتأهبين للسفر، صغروا فجأة أو كبروا فجأة أو توسطوا في العمر0 توقف الحوري عن ضخ جلافته المنتقاة في وجه الصبي، تأجلت تجارته في تلك اللحظة بالفعل "، هذا الفعل الإنساني في تأثير المرأة في الرجل ربما لا ندركه لكنه يحرك أفعالنا تجاه الآخرين0

للحب حالات خاصة عند شخصيات العمل مثلما هي عند الناس جميعاً، فهذا جبروتي الذي شفه الوجد من حب الرزينة " لم يكن يهمه العيد السلطاني بقدر ما همه التفرس بجنون في كل فانوس ملون او شريط متماوج او خطوة رشيقة بحثاً عن وجه الرزينة، وحين وجده في النهاية لم يستطع الصمود 00 بكى لأول مرة "

تلك الصيحة

عنصر الرواية الرئيس والذي تستمد منه أسم الرواية هي تلك الصيحات التي يطلقها الناس في الكوراك وكانت صيحة (آدم نظر) أهم تلك الصيحات التي لم يأت الرد عليها جزافاً "نحن نتبع إحساسنا 000 ليس من أجل صياح فقير، ولكن من أجل أنسابة (أنسابة) من أجل وحدتها000ومن أجل رفاهية شعبها"[17]، وهكذا يتحول توجع الشاب الى سبب في تمزيق شعب أنسابة وقلة رفاهيته، فالسياسيون يفسرون كل تمرد ضد ظلمهم على إنه شق لعصى الطاعة السلطانية0

وهكذا فإن الأمن لا يستتب إلا حين يكون (مساعد) إبن السلطان الذي أسس كتيبة الرعاع مديراً للأمن، فكان له نظامه الصارم الذي حفظ لأنسابة هدوءها بالقوة " لم يخرج لسان إلا انقطع، وما ارتفع حاجب إلا هوى، ولا صرخت مظلومة في مجلس الكوراك وارغداه وارغداه إلا كان عند مساعد الرد "[18]

دسائس ومكائد

يمهد الكاتب لوصول (رغد الرشيد) الى السلطة منذ أن كان نائباً ورزق بأبنه مساعد الذي لم يكن " أخطبوطاً عادياً يمكن تقطيع أذرعه، ولا شجرة هجليج تمنح ظلها لله في الله، ولا الخور الضحل الذي يخوضه كل من هب ودب، ولا المطر ولا أية أنفلونزا عابرة تصيب لأيام وتبعد"[19]، قال عنه أبوه وهو يقوم الى مهام السلطنة التي بدأ يغازلها في ذلك الوقت ويسحبها رويداً رويداً من تحت والده " هو ذا رجل أمنكم إن شاء الله 000فأحفظوه" ، إن ما يجمع بين رغد الرشيد وابنه مساعد حب السلطة أو قل إن حب السلطة عند الأب دفعه بدافع غريزي الى غرس ذلك الحب في أبنه:

"ـ كم عدد خونتي وخونتك في رأيك يا مساعد؟

ـ لا أدري يامولاي

ـ عد شعر رأسك000 عد ذرات الرمل في حذائك000عد قطر الطيب في أجساد الجواري000 وإن استطعتأن تعد المسافة من هنا الى مخدع ( هاشم درب ) سلطان كردمال00 عدها00هل تفهم يا مساعد؟

ـ أفهم يا سيدي

قالها السلطان وانصرف هادئاً ، وسمعها الأمير وبقي هادئاً ، ذلك الهدوء الذي بدأ يضج رويداً رويداً 000بميلاد كتيبة الرعاع"[20]، هذه الكتيبة التي سيصير لها شأن كبير في السلطنة فيما بعد، وهكذا يصير تثبيت الحكم يقوم على الشبهات لا على الواقع، بعد وصف مفصل وممتع للكتيبة وفصائلها مثل (تتبع إحساسك) و (تلك النظرات)و(الأشد حماقة) و (ضرائب النخوة) ولك أن تتصور واجباتها، يخبرنا الراوي بوصول (آدم نظر) بسلاسل من حديد صدئ بسبب تصريحه بفكرته المجنونة (الأبوة الشيخة) التي تهدد السلطنة ولاشك!!!

يضفي أمير تاج السر على روايته لمسات أكسسوارية لكنها تمنح الوصف جمالية وصدقاً أكثر" واستند على وسادته واضعاً يده اليسرى ذات الخاتمين الفضيين على رأسه "[21]، هذه اللمسات ذات دلالة كبيرة في المعنى والسياق0

رغم طول الرواية النسبي إلا أن تاج السر يعمد الى الاختزال أحياناً لكنه اختزال وافي ومعبر ففي حديثه عن احتفالات (أنسابة) يلخص في سطر أو أثنين أفعالاً كثيرة " حيث كان جزارون مختصون ينحرون البهائم وطهاة مختصون يطهونها، وفقراء فرحون يلتهمونها "[22]

أحزان وطقوس

ينشغل أمير تاج السر بالوجداني والإنساني والاحتفالي من الأحداث، فيرسم صورة تفصيلية للمأتم، وينقل لنا لوعة الأهل وأحوال المعزين ثم يفصل لنا طقوس العزاء فيكشف لنا بذلك عن تنوع الثقافات ولعل أغرب هذه الطقوس التي أرى فيها بعداً إنسانياً، تلك التي تهئ زوجاً جديداً للأرملة التي مات زوجها لتلتحق به بعد إكمال العدة _ربما- كانت هذه العادة مزجاً بين تقاليد القبائل البدائية وقيم الإسلام " انتهت الأيام الثلاثة الرسمية للعزاء بنواحها المكثف وإحساسها العميق بخسارة لن تعوض ، وانتهت بعدها سبعة أيام شبه رسمية كانت مواساة من أهل الجوار وبعض مرضى (جوا جوا) من (مفتوقين) وطرشان وعور000 وخمسة عشر يوماً أخرى غير رسمية كانت قد خصصت لآل المتوفي القادمين من أماكن بعيدة " ثم ينقل لنا الجو الاحتفالي للمأتم فقد "كانوا يلوكون نبات )القرض) ويسفون (التنباك) ويخلطون بين القمح والذرة وثمار (الحميض) 000 وكانت نساؤهم في الغالب ضئيلات الفم ومبعثرات الشعر ولهن عطر مؤلم إذا ما احتك بحاسة الشم"0 يمثل العزاء طقساً اجتماعياً وفرصة لتحسين أوضاع اجتماعية خاطئة وهو ما حصل مع المهاجر (عبد الرب) الذي جرده السلطان من ألقابه " ذلك اليوم كان المهاجر (عبد الرب) موجوداً، وكان قد استعاد بقوة غير رسمية ألقاب الشيخ والفقيه و(بئر العلوم) أثناء وجوده المكثف في العزاء000 استعادها من فتاواه في الميراث وتحبيبه للجهاد وتخويفه من (الشق المائل) لمتعددي الزوجات، كانت لهجته في مواجهة الغريب حكيمة لكنها لاسعة، وكان احتضانه لدموع تلميذه وبتلك العاطفة المؤججة وحده كفيلاً بإعادة لقب والد الصبيان إليه مجدداً 00 ولي لا تبك ولدي لا تبك "

مهمة الروائي مهمة جليلة فهو ينقل لنا حيوات أناس ربما غير موجودين أصلاً ، لكنه بقدرته الفذة يجعلهم يتحركون ويفكرون ويتخاصمون ويموتون أيضاً، ومقدرة الروائي أمير تاج السر تتجلى في رصده لتلك التفاصيل الدقيقة التي نقلها إلينا عن آدم نظر، وجبروتي ورغد الرشيد والرزينة وغيرهم، ولا نقلل من قدر الكاتب إذا ما قلنا أن أسلوبه يذكرنا بأسلوب الراحل عبد الرحمن منيف في وصفه لأبطاله وأفعالهم0

في (مهر الصياح) يرتقي الروائي بالعادي الى مصاف الإسطورة وهو ما فعله أمير تاج السر في رواية (مهر الصياح)، وإلا فماذا يعني موت صانع طبول وسط هذا العالم الصاخب لولا أن الروائي يمنح الأشياء معنى مضافاً أو معنى جديداً غير معناها ودلالة غير دلالتها0

يفتح أمير تاج السر بروايته (مهر الصياح) الباب أمام الروائيين العرب للتحليق في عالم الواقعية السحرية في محاولة للبحث عن الأفضل في ظل قتامة الواقع، ومن أجل أن لا تظل الواقعية السحرية حكراً على أدب أمريكا اللاتينية0 في هذه الرواية تعرفنا الى عالم جديد يضج بالطقوس والقيم التي نجهلها، وأشخاصاً تألمنا لهم وعايشنا عذاباتهم، كان عملاً جميلاً لا يغني عرضه عن قراءته، وفي الوقت الذي أرجو أن يطلع القراء عليه، أخشى من القارئ المعاصر في ظل الإيقاع السريع للحياة أن ينصرف عنه، وذلك لطول الرواية وتشابك أحداثها، فالقرئ اليوم لم تعد عنده القدرة والصبر على قراءة عمل طويل مثل رواية (مهر الصياح) ونخسر بذلك العمل وقراء آخرين ، وتتسع الهوة بين المبدع والمتلقي التي نحاول هدمها0

هوامش:

[1] - مهر الصياح – أمير تاج السر ط1 /2004 ، دار ورد - دمشق

[2] - البنية السردية للقصة النسوية في اليمن – د0صبري مسلم ، مجلة البحرين العدد11/12/2004 ص106

[3] - ص 10

[4] - ص11

[5] - ص22

[6] - ص23

[7] - ص41

[8] - ص34

[9] - ص45

[10] - ص25

[11] - ص 25

[12] - ص12

[13] - ص77

[14] - ص33

[15] - ص47

[16] - ص49

[17] - ص78

[18] - ص78

[19] - ص81

[20] - ص 82

[21] - ص76

[22] - ص50