في قاعات متحف الفيتوريانو "الجندي المجهول" بقلب العاصمة الايطالية روما، افتتح هذه الايام معرض كبير للفنان النرويجي ادوارد مونخ (1863- 1944)، شمل اكثر من مائة عمل فني، 60 منها زيتي و50 عمل مائي وغرافيكي. يستمر المعرض حتى منتصف شهر حزيران. يقول مونخ "اعمالي الفنية لها جذورها في انعكاسات التساؤل الذي يدور حول: لماذا لم نتساوى مع الاخرين؟ ولماذا هذا اليأس الذي صاحبني منذ طفولتي، ولماذا رموني الى هذا العالم بدون اي حرية للاختيار؟". اعتبر العديد من الفنانين المعاصرين، الفنان النرويجي مونخ، نموذجاً مبدعاً وصلت تأثيراته الى سطوح أعمال هؤلاء الفنانين، فلقد ظل بجميع أعماله معنياً بتلك الأشكال والألوان والمنحنيات التي تميزه. لقد احتل هذه المكانة الخاصة حتى يومنا هذا، لأن أعماله الفنية مثلّت معادلة عاشها ويعيشها العديد من فناني العالم، وبالذات فناني بلدان العالم الثالث، تلك المعادلة التي تحددت باشتداد المشاعر الغريبة ما بين الفنان نفسه ووسطه، إذ كما اتسع فقدان الأمل بفعل الاحتدام السياسي والثقافي تزايدت مخاوف الفنان. هكذا كان الواقع منذ بدايات القرن الحالي في اوربا التي شهدت صراعات وتناقضات لم تكن مقصورة على طبيعة أنظمتها وممارستها، وانما انعكست على الاختبارات الفردية وتحديد المواقف ما بين القوى الثورية الصاعدة من جانب والأوضاع السياسية القائمة آنذاك من جانب آخر، وقد انعكس ذلك على الفن والأدب، فبرزت المدرسة الطبيعية والرمزية لتمثل لحظات استقلالية، الا أن أصحاب تلك الاستقلالية لم يقتربوا من فهم طبيعة الأوليات ما بين قوى الماضي والحاضر.
وفي أغلب أعماله الفنية تنعكس حقيقة هذا الكرب الداخلي للفنان، وكأنه تعبيراً احتجاجي صامت لخيبة الأمل العميقة التي سببتها سنوات الفشل البرجوازية بكل تناقضاتها، وضياع الآمال بجمالها وغناها الحسي. ان المشاهد ليشعر وكأنه في حضرة انسان عصابي تلتهمه المخاوف والكوابيس المتمثلة في كفاح بلا أمل ضد الأوضاع الاجتماعية والسياسية التي تبلورت فيما بعد بالفاشية والنازية الزاحفة على أوربا والتي عاشتها حتى آواخر أيامه ليتخذ منها موقفاً معادياً لكونها "ضيق أفق متوحش" وقد دفعت به هذه الأحوال نحو الغموض والرمز والتعميه ليغلق بها واقعه بقشرة ضبابية أضاءت آفاق غامضة.

يرتبط اسم الفنان "مونخ" بلوحته الشهيرة "الصرخة" التي رسمها عام 1893. فهذه اللوحة أعجبت ولا زالت جميع نقاد الفن، تعكس واقعاً تعبيرياً مريراً لانسحاق الانسان الذي أنزلت عليه ستائر الظلام والتفت شخصيته بالعزلة والغربة والضيق. وتمثل ذلك بالخطوط المنحنية الحادة والقاسية التي زخرت بضربات اللون الأحمر القاني والأصفر الفاقع والأخضر المتعارض والمتضارب بحساسيته الخشنة والذي يبدو وكأنه تمزقات مبنية على سطح من الصفيح، وليس على سطح من القماش. لقد ظلت هذه اللوحة مصدراً مؤثراً يسبغ بعطائه الفكري والأسلوبي كل ما صدر عن الفنانين من أعمال تصور تغرب الانسان عن نفسه، بل انها عبرت عن ذلك الخرق الفلسفي المكابر الذي مثلته كتابات كيركغارد والتي حمل "مونخ" تأثيراتها فترة طويلة من الزمن. ألحق الفنان تلك اللوحة الشهيرة بلوحة "الشبح" التي رسمها عام 1894، ومن ثم لوحة "الحب والعذاب والموت" التي أحدثت صدمة في انقلابها على الموضوعات الكلاسيكية ذات النزعات الاخلاقية التي كانت تزخر بها السوق الفنية. أما لوحة "موت في غرفة المريضة" ولوحة "الغيرة" فكانتا من اللوحات التي تسببت في اغلاق معرضه الشخصي لمدة أسبوع واحد في مدينة برلين، نتيجة الاحتجاجات التي اعتبرت معرضه هذا يشكل فضيحة للفن التشكيلي. ولد الفنان "مونخ" في مدينة لوتين بالنرويج في 12 كانون الأول/ديسمبر عام 1863 بالقرب من احدى الثكنات العسكرية الكبيرة، حيث كان أبوه يعمل كطبيب عسكري، وبعد خمس سنوات من ولادته ماتت والدته، وفي سن الرابعة عشرة فقد أخته "صوفيا" التي ظلت ذكراها معه حتى أيامه الأخيرة، إذ كان موتها أحد الخواطر الخيالية القوية التي تهبط عليه بين الحين والآخر، والتي حولت عوالمه الى اختلاطات من الحزن واليأس واللوعة. ويقرر الشاب ادوارد مونخ أن يصبح رساماً عام 1880، فيؤجر ستديو في وسط مدينة اوسلو، وفي عام 1885 يفوز بمنحة دراسية الى باريس، فتكون لوحة "صوفيا" التي أعاد رسمها خمس مرات والتي أسماها فيما بعد "الطفلة المريضة" جواز المرور الى "جماعة الطبيعين" وظل في باريس حتى نهاية 1891 بعد أن حصل على منحة دراسية أخرى، وفي تلك الفترة تحولت عاصمة الفن الى سوق حر منتج للسلع، حيث خضع الانتاج الفني لقوانين المنافسة، فكتب "مونخ": "يجب علينا ان نلغي الرسم الذي يتمحور وسط الناس الذين يقرأون، والنساء اللواتي يعملن فقط، يجب علينا أن نرسم الناس وهم يعيشون ويتنفسون ويستمعون ويتألمون ويحبون".
في الفترة التي عاش بها "مونخ" في برلين، انضم إلى جماعة فنية رمزية كانت متأثرة بفلسفة " فردريك نيتشة" وقد ظل يتنقل ما بين باريس وبرلين وأوسلو حتى عام 1899 حيث قرر السفر الى ايطاليا في زيارة اطلاع على ما أنتجه عصر النهضة الايطالي، وفي عام 1908 أصيب بأزمة عصبية حادة أجبرته على المكوث فترة طويلة داخل احدى المصحات النفسية الخاصة. وفي عام 1913 كان واحداً من اثنين من الفنانين الأجانب الذين خصص لهم جناح خاص داخل الصالة الخريفية بمتحف برلين، أما الفنان الاخر فهو بيكاسو. في عام 1916 فاز بمساقة عالمية لرسم جدارية "مانيا" بجامعة اوسلو، وفي عام 1940 احتلت القوات الهتلرية النرويج، مما حمله إلى اعلان رفضه ومواجهته لواقع الاحتلال النازي، ورفض التعاون مع قوات الاحتلال ب"صيحات فزع" امتدت أربع سنوات حتى وافته المنية في 23 كانون الثاني / يناير عام 1944.