يندر في كل تاريخ الفكر أن عرفت فلسفة ما حظا كذاك الذي عرفته الفلسفة الوجودية السارترية: سرعة في الحضور كثيفا في الحياة الثقافية العالمية، ومؤسسها في خضم الحيوية والحياة، ثم سرعة في الغياب عالميا ايضا حال ـ بل وحتى قبل ـ توقف قلبه عن الخفقان. من جهة سرعة النجاح اولا، لم يكن سارتر حتى مطلع الثلاثينات سوى متفلسف مغمور، لا يتخطى عالمه باقة صغيرة من افراد تتحلق في مقاهي الحي اللاتيني، غير واجدة ما تغري به او ما يغرى بها بين الخيارات الفلسفية وشبه الفلسفية الجاهزة التي كانت تتقاطع في الثقافة الفرنسية والعالمية آنذاك من ماركسية الى برجسونية ومن صوفية الى فوضوية. وهكذا، ففي ظلال تلك الخيارات، ومن فكرة ضد هذا او ذاك وفكرة من ذاك وهذا، اسست هذه الجماعة، متمحورة حول سارتر، مناخا خاصا بها ذا نكهة وجاذبية لا تنقصهما الاصالة والترف. ثم فجأة، وبموازاة تقدم ذلك العقد الثلاثيني نحو احتضاره، راح هذا العالم الصغير يتكشف عن تيار فلسفي لا يقل قوة واغراء عن الكبار، محققا فتوحات عمودية وافقية في الحياة الفكرية والفنية وحتى العامة في فرنسا من غير جيوش ولا مؤسسات ومن دون التلويح بمشروع أو بأمل. هذا الامتداد الذي ادهش حتى سارتر نفسه، لم يلبث، بعد الحرب العالمية الثانية، ان وجد اصداء له خارج فرنسا هذه المرة وفي بلدان غربية وغير غربية بما فيها بعض البلدان العربية والعراق خاصة.

ففي العديد من عواصم هذه الاخيرة بالفعل، بدت السارترية اغراء ملموسا لدى كم من الشباب المثقف.ففي بيروت ظهرت لها مؤسسات التسويق ووكالات الترويج الضرورية التي راحت تقصف السوق بالجيد وخصوصا بالغث من النصوص الوجودية او التي تزعم ذلك. وفي بغداد ـ نتذكرـ كان للوجودية مريدون يدهشونك بمثابرتهم على التهام نصوصها المتوفرة، كما يعجبونك بروحيتهم نصف المرحة-نصف القلقة في الوسط الادبي والفني البغدادي الخانق بجديته والمضجر بتقليدية حتى المبشرين بالتمرد من اعضائه. وبفضل اولئك الوجوديين تحول ذلك الوسط من حالته الاولى كنوع من الارستقراطية البدوية المتعثمنة الى حالة جديدة اكثر مدينية بمعنى اكثر حيوية وتناقضا. ومشهورة حتى شعبيا "مقهى الوجوديين" في الباب الشرقي حيث لا يحتسي أحدهم جرعة الشاي إلا متدافعة مع مفردات "العبث" و "العدم" و "الحرية" و "الالتزام" وغيرها من مفاهيم كانوا يرددونها بمناسبة وغالبا بغير مناسبة... كل هذا هاجر وكما الحلم من كل مكان. وها هي السارترية تغط في غياهب النسيان،وكأنما منذ عصور بعيدة، عندما جاءت اجهزة الاخبار تذكرنا قبل ايام، وبنبرة غير احتفالية، بمرور عشر سنوات على موت سارتر. فعشر سنوات فقط، يوما بيوم، كانت كافية لتحويل الفلسفة الوجودية الى ما يشبه الآثار الرومانية.

كيف نفسر تراجيديا السارترية هذه؟ وكيف نفهم انعدام، بعد موت سارتر، من يتعهدها بالرعاية لا بين المؤسسات ولا بين النخب ولا حتى بين الافراد؟ ثم كيف نعلل مغادرتها مسرح الوجود كما لو كانت كرة هائلة من رغو؟

كرة هائلة من رغو فعلا، يجب ان يجيب الكثيرون بين الماركسيين خاصة. فبالنسبة لهم ليست السارترية بفلسفة الا ظاهريا، انما هي مجرد "صرعة" من الصرعات الدورية التي يحبل بها النظام البضاعي الرأسمالي في سعيه الدؤوب لمحاربة الفلسفة الماركسية، والتي يوفر لها سبل الازدهار والانتشار ويضخم من مشروعيتها واصالتها مستفيدا، في حالة الوجودية، من الحيوية الادبية وثراء الشخصية المجتمعين في سارتر الفرد. بيد ان هذا التفسير المنطقي ظاهريا، سرعان ما يكشف عن اصفراره لتبسيطيته اولا ولجاهزيته ثانيا ولجهل هؤلاء، المطبق عموما، بالسارترية. ويزداد هذا الاصفرار يقينا عندما تعرف بان هذا الموقف مؤسس على اسس ايديولوجية، وبالتالي دوغمائية، وان الماركسيين الفرنسيين هم صاحب الحق باختراعه وعنهم جرت ترجمته حرفيا الى كافة الثقافات الاخرى.

لكنه ايديولوجي ودوغمائي ايضا التفسير المضاد الذي يقدمه المثقفون المدافعون عن النظام "الليبرالي" حول نفس الموضوع. فالوجودية السارترية بالنسبة لهم ليست بفلسفة انما هي مجرد "فورة فكرية" او "ردة فعل مشروعة" جاءت أساسا لتعبر عن نزوع "الذات الانسانية" نحو الحرية في لحظة كانت هذه بمواجهة الاخطار عليها التي يمثلها نموذج الدولة الشمولية النموذجي ويقصدون به الستاليني. وما عدا ذلك فهي بنظرهم لملوم من افكار ظاهراتية وفرويدية وهيغلية وماركسية ايضا، نسقت ببعض الاصالة والعبقرية والترف. ولا يتردد البعض من التأكيد بان سارتر ظل ماركسيا في الجوهر كما يدل على ذلك منظوره المادي في تفسير التاريخ ومواقفه السياسية االتي بدأها بتأييد الستالينية القديمة وانهاها بتأييد الستالينية الجديدة...

وهكذا، فاذا كان الماركسيون يعتبرون الوجودية السارترية "افرازا من افرازات الرأسمالية"، كان المثقفون الراسماليون يعتبرونها "افرازا من افرازات الماركسية". لكن هذا التناقض الشكلي بين الموقفين يخفي تطابقا جوهريا بن مضمونيهما ونقصد به الميل الى نبذ كل ما هو لاايديولوجي. والسارترية تتميز اكثر ما تتميز بكونها ليست بايديولوجيا بل بكونها ضد-ايديولوجيا، اي فلسفة. لكن هل يمكن اعتبارها فلسفة فعلا كما يرى البعض، ام انها مجرد ادب يتقمص الفلسفة كما يرى كثيرون؟

ان المشكلة التي يثيرها هذا السؤال هي مشكلة وهمية تشبه تماما المشكلة البيزنطية حول الاسبقية بين البيضة والدجاجة. فما دام التعريف الموحد للفلسفة معدوما لا يمكن حل هذه المشكلة نهائيا لحسن الحظ. بلا شك ان الاكاديمين يتفقون جميعا تقريبا، حتى في فرنسا الى حد ما، على رفض اعتبار سارتر فيلسوفا بالمعنى التام كما يرفضون تسمية منظوره بالفلسفة. لكن متى كان الاكاديميون على حق حتى نقبل بفرمانهم في هذا المجال والذي ينطوي على الكثير من الحسد والشكلية؟ فالماركسية وقبلها الهيغلية ظلتا لفترات طويلة لا تؤخذان كفلسفتين هما ايضا من لدن هذه الاوساط التي لا تحتمل منظر كل من يخرج عليها وعلى اجوائها الميتافيزيقية الشرهة ومفاهيمها الباردة كالمومياءات. وسارتر-كما في القرن الماضي ماركس- هو المفكر الكبير الوحيد في القرن العشرين الذي خرج على هذه الاجواء.

اما برأينا، فالسارترية هي فلسفة بلا شك شريطة ان نتعامل معها في الهواء الطلق. ففقط في الهواء الطلق، حيث لا نشعر باننا مقيدون بقيد، اي قيد، نستطيع تلمس اصالتها كفلسفة ونستطيع استجلاء مكوناتها التي تندرج ضمنها، وتتبرر حتى التناقضات والفضائح التي ارتكبها سارتر وهي كثيره بلا شك. فالسارترية، كما قال جيل دولوز، هي "تيار من هواء" وكأي تيار من هواء فانها تغريك دون ان تقدم لك شيئا وتجذبك دون ان تجعلك أسيرا، تماما كما الحلم. لكن السارترية لا يمكن فهمها جيدا إلا متموضعين في القرن العشرين. هذا القرن الذي بدأ بالحروب بين القبائل الاوربية وانتهى بوحدتها. افتتح بقيام الثورة الاشتراكية كوعد وامل واختتم بانهيارها ككابوس. لهذا القرن بالتحديد، وله وحده، تنتمي السارترية مما يجعل موتها فيه علامة من علامات اصالتها كفلسفة. لأن الفلسفة الاصيلة هي تلك التي تعرف ان تغادر المسرح عندما يحين اوان خريفها.

فما الذي يعطي السارترية اصالتها كفلسفة ويميزها عن الفلسفات التي سبقتها؟

ان الاطار العام الذي تتموضع فيه السارترية هو، برأينا، اطار فلسفة الحرية الذي تتموضع فيه ايضا الهيغلية والماركسية وتفرعاتها كالفوضوية والسريالية. لكن ما يميزها عن غيرها داخل هذا الاطار هو المشروع الذي تقدمه وهو "اللامشروع". بمعنى أخر.

فاذا كان مشروع الهيغلية هو الحرية كهدف لتاريخ العقل كمطلق، ومشروع الماركسية هو الحرية كهدف لتاريخ العقل كملموس ومشروع الفوضوية هو الحرية كهدف لتاريخ العقل كفوضى، ومشروع السريالية هو الحرية كهدف لتاريخ العقل كقيد، فان مشروع السارترية هو الحرية كهدف لتاريخ العقل كحلم. بلا شك ان السارترية قاطعة في اسبقية الوجود في الوجود، إلا انها قاطعة ايضا في عبثية الوجود. فسارتر يرفض للوجود الانساني كل عقلانية: انه موجود دون ارادة منه -في عالم ملغوم بالزلازل والنهايات- ومع ذلك مسؤول في وجوده. وهكذا اذن فامتياز الوعي الذي يتباهى به الانسان على الاشياء يتحول هنا الى محنة بالقدر الذي يرفض فيه سارتر اعطاء الوجود الانساني اي بعد ميتافيزيقي متخيل او مدرك او مراد، سواء ذلك الذي تقول به الاديان (الله) او ذلك الذي تقول به الماركسية (الانا الجماعية)، وبالقدر الذي لا يعود فيه الانسان شيئا آخر سوى ذاته، اي سوى "الانا" المباشرة. ان الحرية هنا موقف كما هي حالة.. موقف يتجاوز التمرد تمردا لانه بلا غاية ويتسامى على المغامرة شبابا لانه بلا امل. "انت موجود كهبة ريح" تقول لنا سيدوري صاحبة الحانة في ملحمة جلجامش كما لو كانت تختصر لنا العبثية الرهيبة التي هي حظ الوجود. وسارتر لا يقول شيئا مختلفا. لكن تراجيديا الوجود هذه العبثية، انما ايضا وخصوصا من وعي "اننا مدانون بان نكون احرارا". فالحرية كتراجيديا هي انبل اشكال وعي الحرية، الا انها تعرف نفسها كمحنة قبل ان تكون امتيازا او حقا، محنة مصدرها الشعور بعدم وجود أي شيء جدير بان نستند له خارج الـ"انا" المباشرة.

وطارئة ولا ضرورة، ومجرد مملكة مظلمة داخليا، ينبغي على الذات الفردية عندئذ ان تتشبث بفرديتها وبحريتها باقصى ما يمكن كما لو كان هذا التشبت هو القيمة الوحيدة التي امامها، وبالفعل لقد رفع سارتر الحرية الفردية الى مقام القيمة الاخلاقية والكونية المطلقة التي تحتم عليها تجاوز كافة الحدود سواء تلك التي ترتئيها الايديولوجيات والروحانيات أو تلك التي تتصنعها العلوم. لكن هذا المنظور الذي يستلهم الفلسفة الفينومينولوجية الى حد كبير سيدفعه سارتر في اتجاه خاص، وهنا تكمن اصالته الفلسفية، بفعل استلهام المنظور الماركسي الخاص بموضوعية العلاقة بين "الأنا" المباشرة وعلمها الانساني الخارجي. فاصالة السارترية تكمن اساسا في محاولتها حل هذه الاشكالية او التناقض بين موضوعية العلاقة بين الذات ونظيراتها من جهة، ومن لازمية مطلقية الحرية الفردية من جهة اخرى: كيف انا كذات استطيع ان اكون حرا في الوقت الذي لا استطيع الا ان اكون في علاقة مع الذوات الاخرى؟

هذه هي المشكلة المركزية التي كرست لها السارترية كل جهد من اجل تلمس حل لها، اي مشكلة التوافق بين الضرورة الموضوعية التي تفرض على الجذرية الفردية ان تقف عند حدود ما، وبين كون هذه الحدود تعيقها عن التحقق كجوهر حر. وامام استحالة الوصول الى هذا الحل فان السارترية اختارت الانحياز الى الحرية الفردية بشكل مطلق بغض النظر عن النتائج والمغالطات، مؤكدة بعناد ان الحرية هي القيمة الوحيدة التي تصدر عنها القيم الاخرى، رافضة المؤسسات بجميع اشكالها الدينية او السياسية او الاجتماعية او الاخلاقية او غيرها. فالمشروع الذي تبشر به هذه المؤسسات هو مشروع عبودية على الدوام مهما زعمت عكس ذلك، نظرا لان المؤسسات لا بد ان تحجر الافراد وتحولهم الى اشياء، وانها كاذبة قطعا عندما تدعي الدفاع عن الحرية لان المؤسسة هي نقيض الحرية بالضرورة. لكن المؤسسة لدى سارتر لا تقتصر على الاحزاب والكنائس، انما تمتد الى مجمل نظم الحياة.

من هنا لا يمكن القول مطلقا بان فكرة كهذه كفيلة بخدمة الايديولوجيات الليبرالية والليبرالية الجديدة أو يمكن ان تؤدي وظيفة كهذه. انما بالعكس ان تحقق الحرية الفردية قد يدفع البعض الى الركون الى هامشيتهم الاجتماعية الا انه قد يدفعهم الى الانتفاض وحتى الثورة ضد الأنماط السائدة، وسارتر نفسه لم يتردد في النزول الى الشارع في 1968 ضد ديغول. وعموما فان هذه الايديولوجيات تدرك كغاية اخطار السارترية عليها ومن هنا تجنبها كليا.

ان مجد السارترية الوحيد، هو أنها عرفت لحظة حياتها، فاغتنمتها بنشوة، وادركت لحظة احتضارها، فانسحبت بهدوء. من يدري ربما ماتت هذه الفلسفة لأنها فشلت في حل هذه المشكلة التي هي –المشكلة- ماتزال على قيد الحياة، وربما الى الأبد.

بواتيه/ فرنسا - 1990

*كتبت هذا المقالة في الذكرى العاشرة لوفاة جان بول سارتر.

****

اقرأ أيضا:


فاضل عباس هادي
جان بول سارتر في‮ ‬مئويته الأولى