إيلاف ترصد ميدانياً الأحداث الطائفية بالإسكندرية
راعي الكنيسة: أياد خفية وراء إثارة الأزمة

نبيل شرف الدين من الإسكندرية: بدا حي "محرم بك" في مدينة الإسكندرية شمال مصر كما لو كان ساحة مواجهة حقيقية، فهناك آلاف الجنودفي كلالشوارع والمداخل والمنشآت المهمة، ضباط من شتى الرتب في حال ترقب وتحسب لتجدد الأحداث الطائفية التي شهدها الحي أمس الجمعة، بينما بدأ فريق من محققي النيابة العامة معاينة لمسرح الأحداث وما شابه من أعمال عنف طائفية أدت إلى تحطم العديد من المحال التي يمتلكها أقباط في منطقتي محرم بك وكرموز في الإسكندرية، بعد أن تعرضت للتلف إثر اعتداء المتظاهرين عليها، كما أجرت النيابة معاينة لأحد العقارات وثماني سيارات شرطة، وسبع سيارات خاصة يمتلكها مواطنون مسلمون وأقباط .

وبدا القس أوغسطينوس راعي كنيسة "مار جرجس" متماسكاً رابط الجأش رغم حصار الكنيسة وملامح الإجهاد البادية بوضوح على وجهه، يرافقه عدد من شباب الكنيسة في تحركاته داخلها وحولها، وهو يرد على عشرات الاتصالات من هاتفه الجوال الذي لا يكف عن الرنين، ثمة كلمة واحدة كان يرددها الكاهن في كل اتصال يجرى معه : "صلوا من أجل مصر، صلوا من أجل كنيستكم" .
أما القس يوحنا نصيف راعي كنيسة القديس مرقص للأقباط الكاثوليك في الاسكندرية فقال إن حفل الإفطار السنوي الذي كان مقرراً أن يشارك فيه مسيحيون ومسلمون في الكنيسة ألغي بعد احتجاجات يوم الجمعة التي قتل خلالها ثلاثة أشخاص.

بيان البابا والأزهر
وفي أول بيان عقب الأحداث الطائفية التي شهدتها مدينة الإسكندرية شمال مصر، نفى البابا شنودة بطريرك الأقباط أن يكون العرض المسرحي يتضمن أي إساءة للإسلام، وأضاف قائلا إن المسرحية المشار اليها في الصحيفة المذكورة عرضت قبل عامين لمدة يوم واحد داخل أسوار الكنيسة ولم يرها مسلم واحد، وكانت تتحدث عن التطرف ولم تتحدث عن المقدسات الدينية، مشيرا الى انها لم تثر شيئا حين عرضت ومحاولة اثارتها الان يهدف الى تفتيت الوحدة الوطنية وتساءل البيان قائلا : هل نترك الصحف التي تثير الفتنة ويؤاخذ المسيحيون على مجرد الشائعات التي تروجها تلك الصحف بان هناك اساءة للاسلام بينما لم يرى احد شيئا؟ .
من جانبه نفى شيخ الازهر علمه الشامل بتطورات أحداث كنيسة مار جرجس، مؤكدا أن هذا الامر متروك للجهات القضائية التي تقوم بالتحقيق لتقول كلمتها الفاصلة فيه بما يؤدي إلى إقرار الامن والامان في مصر وإعطاء كل ذي حق حقه .
وأوضح شيخ الازهر أن المسلمين والمسيحيين في مصر تظللهم سماء واحدة وتقلهم أرض واحدة، وتربطهم مصالح مشتركة، كما تربط بينهم رابطة الإخوة الانسانية في أبهى صورها، لافتا إلى ضرورة أن تتضافر كل جهود الشعب من مسلمين ومسيحيين من أجل رفعة الوطن .
وعودة إلى كاهن كنيسة مارجرجس الذي أشاد في تصريحات خاصة لـ (إيلاف) بجهود أجهزة الأمن، قائلاً إن رجال الشرطة تحملوا فوق طاقتهم في مواجهة حشود المتجمهرين الذين اعتدوا عليهم وعلى منشآت الحي برمته، وأبدى دهشته لتفجر هذه الأزمة في هذا الوقت بالتحديد، وجدد نفي الكنيسة لشائعة عرض المسرحية التي قيل إنها كانت تحمل إساءة للإسلام والمسلمين، ما أدى إلى احتجاج الآلاف من المتظاهرين ضدها، وأعرب القس أوغسطينوس عن اعتقاده بوجود "أياد خفية" وراء هذه الأزمة، قائلاً إن من طبع الأقراص المدمجة بهذه الكميات، ووزعها على الناس، وطبع المنشورات التحريضية، وما نشرته الصحيفة المحلية من أنباء خاطئة لا يمكن أن يكون كل هذا قد حدث بشكل عفوي، واستدرك قائلاً إن الأمن سيتوصل بلا شك إلى حقيقة الأمر، ومن يقف خلفه، ووصف الصحف المحلية التي نشرت تقريراً عن المسرحية سبب الاحتقان الطائفي بأنها "مشعلو الحرائق"، الذين لا يعنيهم أمر البلد وأبنائه قدر ما يسعون الى التهييج والإثارة ولو بالأكاذيب .

إلغاء الإفطار
من جهة أخرى ألغيت مأدبة الإفطار التي كان مقرراً أن يشارك فيها اليوم البابا شنودة الثالث بطريرك الأقباط، مع عدد من رجال الدين الإسلامي، وكبار المسؤولين في الإسكندرية، وسط أجواء الاحتقان التي تفجرت على نحو واسع، بينما أصدرت اليوم السبت وزارة الداخلية المصرية بياناً جديداً تلقت (إيلاف) نسخة منه، نسب فيه إلى مصدر أمني قوله إن قوات الشرطة تتابع اجراءات السيطرة على أعمال الشغب التي شارك فيها عدد من العناصر المتطرفة في منطقة محرم بك في الاسكندرية، وقال المصدر إن عدد من تم ضبطهم بلغ 59 متهما اثر وقائع اتلاف سيارات خاصة وتعدي على كنيستين في المنطقة، كما تتابع النيابة العامة إجراءات التحقيق والانتقال للمعاينة وسوف تشمل تحقيقاتها الوقائع من كل جوانبها .
وقال شهود عيان مسلمون ومسيحيون تحدثت معهم (إيلاف) في موقع الحدث، إن المتظاهرين رشقوا قوات الشرطة والكنيسة بالحجارة، ما اضطر الشرطة إلى الرد بإطلاق القنابل المسيلة للدموع لتفريق هذه الحشود، وأشاروا إلى إصابة أعداد من جنود الشرطة والمتظاهرين في هذه المواجهات غير المسبوقة .
وبينما قدر شهود عيان أعداد المتظاهرين يوم أمس بما لا يقل عن عشرة آلاف شخص على الأقل، فقد قالت وزارة الداخلية في بيان سابق إن 20 من رجال الشرطة بينهم ضابط كبير برتبة عميد، وأن نحو ثلاثين من المتظاهرين أصيبوا في مصادمات بين الجانبين خارج الكنيسة، كما لفت البيان إلى أن التدافع كان السبب في مقتل أحد المتظاهرين، غير أن هناك أنباء تحدثت عن ارتفاع أعداد القتلى إلى ثلاثة، والمصابين إلى ما يربو على ثمانين شخصاً، وهو ما لم يتسن التحقق منه بعد .
وهذه هي المظاهرة الثانية التي يتجمهر فيها الآلاف أمام كنيسة "مار جرجس" في حي محرم بك السكندري احتجاجاً على مزاعم بعرض تلك المسرحية، التي أكدت الكنيسة أنها لم تعرض سوى يوم واحد قبل عامين، غير أنها عادت إلى واجهة الأحداث الأسبوع الماضي، حين وزعها مجهولون على أقراص مدمجة (سي دي) بشكل مكثف يكتنفه الغموض حول الجهة أو الأشخاص الذين أثاروا الأمر مجدداً، ما أدى إلى تفجر الأوضاع على النحو الحاصل الآن .
ويوم الأربعاء الماضي، طعن شاب مسلم راهبة وشخصاً آخر فألحق بهما إصابات طفيفة باليد والظهر، كما أصاب رجل الأمن الذي حاول منعه من الاعتداء، وألقي القبض على المتهم المذكور الذي تبين أنه يدعى محمد السيد حسونة (عاطل) الذي أحيل الى النيابة للتحقيق معه وقررت حبسه احتياطياً .

سيرة الاحتقانات
وتعيد ما نشرته صحيفة الإثارة المحلية إلى الأذهان حالة احتقان طائفية حين احتشدت مظاهرة ضخمة عام 2000 عندما نشرت صحيفة محلية أخرى اسمها (النبأ) صور راهب (مشلوح) يمارس الجنس، وادعت الصحيفة حينئذ أن ذلك حدث داخل مذبح الكنيسة، أما أقدم حوادث الصدام الطائفي فقد جرت في مطلع السبعينات حين تعرضت كنيسة في ضاحية الخانكة شرق القاهرة للحريق، واعتبرت القيادة السياسية المصرية وقتئذ ان هذا الحادث شأن سياسي يعالج في إطار سياسي، وبالفعل شكلت لجنة تقصي حقائق برئاسة القانوني البارز جمال العطيفي، وأعدت اللجنة تقريرا مهما عن المسألة القبطية بكل أبعادها، غير أن التقرير لم تجر مناقشته ولم يؤخذ بأي من التوصيات الواردة فيه، بل سلم الملف القبطي لوزارة الداخلية أسوة بملف الاصولية الاسلامية التي خاضت مواجهات دامية ضد السلطة .
وهذا الاحتقان الطائفي الذي شهدته مدينة الإسكندرية هو الأحدث من نوعه ضمن سلسلة من الاحتقانات الطائفية التي شهدتها مصر مؤخراً إذ سبق أن تظاهر حشد من الشباب القبطي في مدينة الفيوم جنوب القاهرة يوم السابع والعشرين من شباط (فبراير) الماضي، احتجاجًا على ملابسات أحاطت واقعة اختفاء فتاتين قبطيتين تدعيان ماريان مكرم وتريزا عياد يعتقد أنهما اعتنقتا الإسلام، غير أن قضية الفتاتين انتهت وفقًا لبيان أصدرته حينئذ وزارة الداخلية عند حد "جلسة النصح والإرشاد" التي جرى خلالها إقناع الفتاتين بعدم المضي قدمًا في إجراءات إشهار إسلامهما .
كما شهدت القاهرة مظاهرات حاشدة نظمها الأقباط في كانون الأول (ديسمبر) 2004 احتجاجًا على ما اشتهرت بقضية "زوجة الكاهن قبطي"، المدعوة وفاء قسطنطين وطالبوا سلطات الأمن بإعادة الزوجة إلى الكنيسة مما تسبب في نشوب أزمة بين الكنيسة والسلطة بعد اعتقال عدد من المتظاهرين واعتكاف البابا شنودة احتجاجا على اعتقالهم، لكن الأزمة انتهت بعد أمر النائب العام بالإفراج عن المحتجزين وعودة السيدة الى الكنيسة وإنهاء البابا اعتكافه في الدير .
وسبق أن أثارت توترات عدة واحتقانات طائفية بين المسلمين والمسيحيين الذين يشكلون ـ وفقاً لتقديرات رسمية ـ نحو عشرة في المئة من سكان مصر الذين يزيد عددهم على 73 مليون نسمة، في حين تؤكد مصادر في الكنيسة القبطية أن عددهم يصل الى قرابة عشرة ملايين نسمة على الأقل، أثارت مصادمات عدة دامية حينئذ ، ففي عام 1999 قتل 19 قبطيا ومسلمان، واصيب 33 اخرون كما دمرت عشرات المحال التجارية خلال اشتباكات استمرت لايام عدة في قرية "الكشح" في محافظة سوهاج على بعد نحو 400 كيلومتر جنوب القاهرة، فضلاً عن أحداث أخرى أقل خطورة جرت في أماكن متفرقة من البلاد .