محاكمة صحفي سوداني في الخرطوم بتهمة الإساءة إلي الدين
ردة فعل أم تصادم في المصالح والقناعات؟

حليمة محمد عبد الرحمن الرياض: إلي أين ستفضي محاكمة الصحفي محمد طه محمد احمد بتهمة الردة؟ إلى البراءة أم إلى الشارع العريض الذي يتوعده بالويل والثبور؟
سؤال عالق منذ ما يزيد عن الشهر هي بداية تاريخ محاكمة طه. يري كثير من المراقبين لمجريات الأمور في السودان أن الأيام المقبلة ستتمخض عن أحداث مثيرة خاصة بالتهمة الخطيرة الموجهة إلي محمد طه.
تعود حيثيات القضية إلي الدعوة القضائية التي رفعها بعض أعضاء هيئة علماء السودان في أواخر ابريل الماضي، متهمين صحفية "الوفاق" الخاصة المملوكة لطه، بالتطاول علي النبي الكريم وسبه.
يشار إلى أن طه نشر وثيقة تاريخية لأحد المؤرخين الإسلاميين أثار فيها الشكوك حول نسب النبي صلي الله عليه وسلم.
بناء علي ذلك قام المجلس القومي للصحافة والمطبوعات، وهو الهيئة الرقابية العليا، علي الصحف والمجلات، بمنع الصحيفة من الصدور لثلاثة أيام.
الجدير بالذكر أن نشر المقال تزامن مع احتفال الأمة السودانية بالذكري السنوية للمولد النبوي الشريف، في الثاني عشر من ابريل الماضي، مما عده الشارع العام، استهتاراً، بمشاعر المسلمين الذين قاد ما يزيد عن الألفي شخصاً منهم، المظاهرات المعادية للصحفي، ولا زالت مجموعات منهم ترابط عند مبني المحكمة مرددة ذات الشعارات المطالبة بتطبيق حد الردة عليه.
لماذا يرفض الرأي العام مبدأ الاعتذار؟
ترى النيابة العامة أن التطاول علي النبي الكريم وإثارة الشكوك حول نسبه كما جاء في مقال ( المستور في سيرة الرسول، للمقريزي)، يعد انتهاكا صريحاً للقانون الجنائي الذي يعاقب بشدة على تحقير الدين والمعتقدات.
يطالب العديد من المراقبين السياسيين، عدم التسرع في تطبيق الأحكام الشرعية، خاصة وان الصحفي لم يرتد. بدلاً عن ذلك، فقد اقر بأنه قام بنشر المقال قبل الإطلاع علي محتوياته. كما أن التلويح بتطبيق الشريعة الإسلامية في السودان، كما هو متوقع في هذه القضية، أعاد إلى الأذهان ذكرى الأخطاء التأسيسية، في عهد الرئيس السابق جعفر النميري عام (1969-1985)، والتي راح ضحيتها كثير من الأبرياء والخصوم السياسيين في عام 1983م. ومن سخرية الأقدار أن اثنين من مجموع الثلاثة أشخاص الذين وضعوا حدود الردة والحرابة والسرقة، قيد التطبيق، طالتهما عواقبها ولم يسلم منهم سوي سيدة وهي تشغل الآن منصباً وزارياً رفيعاً.
من هو محمد طه محمد احمد؟
هو عضو في حركة الإخوان المسلمين. عمل قاضياً ثم مستشاراً بديوان النائب العام وفيما بعد أسس فيما بعد صحيفة "الوفاق" التي رأس مجلس إدارتها إضافة و تحريرها.
يعتبر محمد طه، البالغ من العمر 47 عاماً، رقماً لا يستهان به في الحركة الإسلامية والصحافة السودانية. .
شهد الرجل الذي يصنفه خصومه السياسيين، بزعيم تابلويد الإثارة الصحفية، ازهي عهوده قبل انقسام الحركة الإسلامية في 1999، حيث أخذت الصحيفة علي عاتقها مهمة الهجوم علي الأحزاب السياسية الأخرى المناوئة للجماعات الإسلامية. وبعد الانقسام الشهير في حزب المؤتمر الوطني إلي المؤتمر الشعبي بزعامة الترابي والوطني، الحزب الحاكم، أصبح طه من أبرز المدافعين عن الحكومة السودانية ووظف جريدته توظيفاً كاملاً لمهاجمة زعيمه السابق د. الترابي وأسرته، في جرأة غير مسبوقة. علي سبيل المثال قام طه باتهام عصام نجل الترابي البكر، بالفساد واستغلال النفوذ في الوقت الذي كان فيه الترابي ما زال متربعاً علي عرش السلطة.
وكما شغل طه الناس بكتاباته شغلهم أيضا بقضيته. انقسم المراقبون السياسيون حيال قضيته، بين شامت صامت ومعارض مناهض للاتهام. علي الرغم من إقرار د. عبد السلام نورالدين الرئيس السابق لمنظمة حقوق الإنسان، بان محمد طه كان من أوائل الذين أجادوا العزف علي مزمار الهوس التعصب الديني في السودان وبرع في تجويد فن الإثارة في صحيفته، مما جعله راس الرمح في الامتهان والعبث بمواقع وشخصيات من تعدهم الحركة الإسلامية من خصومها. إلا انه أضاف " لا ينبغي السكوت علي إدانة محمد طه محمد أحمد من قبل وعاظ وغوغاء نصبوا أنفسهم قضاة علي قارعة الطريق ليصدروا أحكاما نهائية ومطلقة على جرم لم يقترفه محمد طه محمد أحمد وعلي جريمة لم تقع أصلاً في أرض السودان."
وفي نفس الإطار يتساءل سياسي آخر فضل عدم الإفصاح عن نفسه عن جدوى ركون الحركات الإسلامية السودانية إلي الأسلحة الفتاكة في مقارعة الحجة."لماذا يغيب سلاح الحجة والمنطق في مثل هذه الأحوال وماذا تحرس هيئة علماء السودان ؟" وأضاف نفس المصدر السابق، متسائلاً "لماذا لم تتحرك الجهة الشاكية، إلا بعد تسعة أيام من نشر مقال المقريزي وبعد اضطلاع الصحفي بمهمة الرد علي الكاتب. ؟ أين كان هؤلاء العلماء؟ أين كانت رابطة الأئمة والدعاة ؟ ولماذا لجأت هذه الجماعات إلي قيادة حملة تشويه عبر المساجد والبيانات ولم تلتزم بترك الأمر إلي القضاء ؟ "
يعترف المراقبون السياسيون بأن قضية طه شائكة، ويثيرون مسألة التأخر في إسدال الستار عليها. د. سعيد زكريا سعيد المحاضر بماليزيا، يبدي تخوفه مما تسفر عنه مجريات الأحداث في الأيام القادمة خاصة بعد تحول الأمر إلي يد الجماعات الإسلامية المعارضة والقضاء السوداني والذي كان متوقعا منه الفصل في هذه القضية منذ السابع عشر من مايو الماضي.
ومما يزيد من تشعب الوضع، أن الجرم الذي ارتكبه الرجل لا يضعه في مصاف الارتداد لكي تتم معاملته علي هذا الأساس. بإقراره وإقرار جميع المراقبين، ارتكب طه خطا مهنياً فادحاً، بحسن النية المشوب بالغفلة. لكن يبدو انه في احدي منعرجات السياسة السودانية وتشعبانها، لم يشفع للعضو الإسلامي البارز، انحيازه القوي إلي جانب المؤتمر الوطني الحزب الحاكم، الذي يصمت الآن صمتاً تاماً، حيال المطالبة العامة بتنفيذ حد الردة عليه. لم يشفع له الاعتذار العلني المكتوب الذي قدمه في الخامس من مايو الماضي عن كل أخطائه، أي بعد يومين من انعقاد جلسة محاكمته والذي جاء فيه " "بسبب نشر جريدة الوفاق لمقال وجدناه منشوراً علي الانترنت (إسلام دوت كوم) يتجنى فيه المقريزي علي الرسول صلي الله عليه وسلم، وبالرغم من إني رددت علي هذا المقال بثلاث مقالات أفند فيها دعاوى الكاتب وأدافع فيها عن رسول الله صلي الله عليه وسلم الذي تربيت علي حبه، إلا أنه بالرغم من ذلك فهم من نشر جريدة "الوفاق" لهذا المقال، أني والعياذ بالله، أتجني علي رسول الله صلي الله عليه وسلم معاذ الله من ذلك". سبق ذلك قيام الصحفي بنشر ثلاث مقالات يرد فيها علي الكاتب ويدافع بشدة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، الأمر الذي يلقي بظلال من الشك حول جدية خصومه الإسلاميين في توفير محاكمة عادلة له.
المعروف عن طه انه تم انتخابه في أول مكتب سياسي للجبهة القومية الإسلامية-الكيان السابق للإخوان المسلمين بشقيه الوطني والشعبي- عام 1985م، إلا انه لم يشغل أي منصب سياسي فيها. ففي داخل الجماعة التي انضم إليها طائعاً مختاراً، يبدو أن طه كان يبحث عن النجاح الفردي ولعل ذلك ما جر عليه الويلات والثبور لاحقاً. كما أعمت نشوة النجاح الذي حققه، بصيرته عن رؤية المزالق التي تتهدد عطاءه الصحفي للحركة الإسلامية.
باب من أبواب جهنم...
هل سيكون مصير محمد طه محمد احمد شبيه بمصير المهندس محمود محمد طه مؤسس وزعيم الحزب الجمهوري الذي تم إعدامه إبان نظام الرئيس السابق نميري قبل عشرين عاماً خلت بدعوى الردة. الجدير بالذكر، أن الدكتور حسن الترابي كان مستشاراً للرئيس السابق نميري حين تم اتهام وإعدام محمود محمد طه عام 1985.
طه الذي كان، في ذلك الوقت، من المؤيدين لتنفيذ الحد علي زعيم الحزب الجمهوري، انسياقاً لموقف حزبه، نكص علي عقبيه، بعد عقدين من الزمان. وعمد إلي نشر صفحة كاملة في "الوفاق" تتحدث عن الحزب الجمهوري الذي وصف فكرته عن العدالة الاجتماعية بأنها إضافة هامة في الحياة السودانية. لم يكتف بذلك، بل أشار ضمنيا إلى أن قتل زعيم الحزب الجمهوري، في عام 1985، والذي كان شيخاً طاعناً في السن، تجاوز السبعين عاماً، خطأ فادحاً. ووفقاً لما أوردته شبكة العربية، اقر طه بوجوب مناقشة المرتدين ومقارعتهم الحجة. مقدماً البراهين والحجج بان باب الهداية مفتوح و"أن الإسلام قوته الفكرية هي كلمة الله الأخيرة" ؟
هل هي خلافات داخلية أم محاكمة للتيار الشيعي ؟
لا يخفي علي احد، أن التيار الشيعي يجد أرضية خصبة في المجتمع السوداني..فجمعيات رائدات النهضة وجهاد البناء وزواج الزهراء وغيرها من المراكز الخدمية الطبية، التي تعمل منذ مطلع التسعينات في قيادة عجلة التغيير الاجتماعي ما هي إلا مسميات أو فروع لجمعيات إيرانية. فإذا كان اعتناق الفكر الشيعي جريمة يحق للرأي العام محاسبته عليها وإدانته، فقد حاول طه التنصل منها مع الإقرار بتعاطفه الشديد مع الشيعة. ففي احد اللقاءات التي أجراها معه ضياء الدين البلال والمنشورة بصحيفة "الخرطوم اليوم"، لم ينفِ طه تعاطفه مع آل البيت والإمام علي بوجه خاص..
"الإسلام سابق للتصنيف.. أنا لست شيعياً وكذلك لست سنياً بالتصنيف الضيِّق الجاري الآن.." كما نوه بذلك.
اياً كان انتماء الرجل العقدي، كيف تسول له نفسه سب الدين الإسلامي وهو العضو في الجماعات الإسلامية منذ نعومة أظافره وهو الذي امضي أكثر من أربع سنوات في السجون حينما كان يطالب بجعل الدين الإسلامي الذي يشكل مصدراً هاماً وركيزة من ركائز القيم الأخلاقية والاجتماعية والتعاضدية لأكثر من 70% من النسيج الاجتماعي السوداني المصدر الأساسي للتشريع ؟
الغريب في الأمر، انه في ظاهرة غير مسبوقة، يصر الشارع السياسي علي إلباسه ثوب التشيع والانتماء إلي الشيعة الاثني عشرية الجعفرية. وجعلها احدي المظلات التي تجب محاكمته تحتها. مما حدا بأشهر محامي حقوق الإنسان في السودان، غازي سليمان، بان لا يأخذ علي عاتقه مهمة الترافع عن طه الذي كان عازماً في البداية علي الدفاع عن نفسه بحكم معرفته التامة بالقانون.
يحق لنا التساؤل عن ماهية هذه الجماعات الداعية إلى إثارة المشاعر العامة بدلاً عن تهدئة الخواطر ولماذا العجلة في إصدار الفتاوى التكفيرية وحشد الحشود بغية التأثير علي سير العدالة؟ من يقف وراءها ولماذا هي بمناي عن قبضة الشرطة؟
إذا كان الأمر حرباً بين الشيعة التي تحاول أن تجد له لها موطئ قدم، وبين الاتجاهات السلفية، التي يقودها بعض أساتذة جامعة الخرطوم الموالين للحكومة، فانه يتوجب علي محمد طه البحث عن مخرج أكثر أمانا من الركون إلي الاعتذار أو تفنيد الدعاوى المغرضة. فقد بات واضحاً الجهة التي تساندها الحكومة.
التعامل المستقبلي مع الكتابات المعادية للإسلام؟
ما بين المسرحيات الاعتذارية وقبضة الشارع الهمجية قد تسقط كثير من أقنعة الادعاءات الدينية.. هل قضية طه قضية سياسية تنتهي بان يقول القضاء كلمته أم هي قضية صرا عات داخلية أوجبت إسقاط العناصر المثيرة للجدل بغية الدفاع عن المصالح الشخصية الضيقة؟ هل هي قضية يكون بختام جلساتها إهدار دم الرجل وجعله عرضة للتصفية الجسدية من قبل الجماعات الدينية المتطرفة؟
هل هي جريمة أن يتصدى صحفي لمن أساء للنبي (ص) ؟ ماهي الخطوط الحمراء المستقبلية الدينية التي يجب علي الصحفيين عدم تخطيها ؟ هل هذا مبرر للسكوت عن المقريزي وأمثاله كسلمان رشدي؟ ما هي الآلية التي يجب إتباعها في المستقبل للتصدي لأعداء الإسلام؟ ثم كيف يسعى الرجل ببساطة شديدة إلي شطب مجده الصحفي وهو الذي ناضل بكل شراسة، من اجل تمتين أسسه منذ ما يقارب الثلاثين عاماً أي منذ 1975 حينما كان طالباً مهموماً بإصدار جريدته الحائطية "أشواك" والتي صارت فيما بعد "الوفاق"؟
يبدو أن محاكمة طه قد صارت مماحكة ما بين فريق الاتهام الذي تشكله الجماعات المتطرفة وفريق الدفاع الذي تقف وراءه جماعات الحقوق المدنية، لتخرج حيثيات المحكمة من القاعة المغلقة إلي الأجهزة الإعلامية، بشقيها التقليدي والحديث. وان الصراع علي أشده بين الجماعات المتطرفة التي شكلت هيئة الاتهام الخارجية وأصدرت حكمها الذي تنتظر اللحظة المناسبة لتنفيذه وبين هيئة الدفاع التي تسعي جاهدة إلي تشكيل جبهة إعلامية تحول بين الرجل وأهداف المتربصين به.