عندما يتحدث نصر الله: اللبنانيون بين باكٍ ومستمعٍ ومعترض

نصر الله :ملتزمون بالطائف ..فليشكلوا حكومة وحدة وطنية

ماذا لو أخطأ نصرالله تقدير الجولة الثانية

حسن المصطفى- موفد quot;إيلافquot; إلى بيروت: بداية، أطل بصوته دون جسده، صورته الصامتة كانت تحكي عما يدور في خلده. فحزب الله الذي أتقن اللعبة النفسية مع خصمه الإسرائيلي، وغريمه اللبناني، لم يختر جزافا تلك الصورة لأمينه العام، السيد حسن نصر الله، في حديثه الأول في بدايات الحرب الإسرائيلية على لبنان. الصورة ظلت تتكرر، والتصقت بكلماته التي يُخبر فيها مستمعيه أن هنالك حدثا أكبر من حدثِ خطابه، هنالك البارجة الإسرائيلية التي تحترق quot;الآنquot; في عرض البحر، وكأن نصر الله تحول لمراسل حربي، يسبق وكالات الإعلام العالمية في رصد الأحداث والإخبارٍ عنها. في quot;الفلاشاتquot; التي بثتها quot;المنارquot; أثناء أيام الحرب، كانت كلمات نصر الله المنتخبة تؤدي غرضها.

البعضُ اعتبر ظهوره الإعلامي بين فينة وأخرى على الشاشات quot;نصف المعركةquot;، فيما النصفُ الآخر كان يجري على جبهات القتال. من quot;المنارquot;، وعبر quot;الجزيرةquot;، وأخيرا، وليس آخرا، من نافذة تلفزيون quot;الجديدquot;، أطل نصر الله، ليتسمر اللبنانيون، ومعهم كثير من العرب والمسلمين، بل وحتى الإسرائيليين، والمعنيين من سياسيين وإعلاميين، ليتسمر كل هؤلاء أمام الشاشة الصغيرة، يراقبون الصندوق السحري، وما الذي سيحمله لهم من مُفاجآت. الضاحية الجنوبية والتي عادت لها الحياة بعد وقف الأعمال الحربية، ترى شبابها في الشارع، يجتمعون بصحبة quot;الأراجيلquot;، يأخذون نفسا عميقا من quot;أرجيلةquot; العنب البحريني، فيما هم يتابعون من يمثل لهم قيادة روحية وسياسية، وشخصا باتت خطاباته بمثابة خطة طريق لجمهور quot;المقاومةquot; في لبنان.

بسام، ابن حي السُلم، -أو حي quot;الكرامةquot;، كما يحلو للرئيس نبيه بري أن يسميه-، كنا في مطعمه الصغير المتواضع، نأكل طبقا من quot;الفولquot; اللبناني، الذي يُتقنُ إعداده. بعد أن يُقدم لك quot;الترويقةquot; الصباحية، يخاطبك quot;طالت غيبة السيد، والناس متلبكة، ومحتاجة تسمع كلامه مشان تعرف شو تعملquot;. ما عبر عنه بسام لا يمثل شعورا فرديا لديه، بل هو شعور موجود لدى عامة جمهور الضاحية والجنوب والبقاع، خصوصا تلك الطبقة الواسعة التي فقدت منازلها، أو تعطلت مصالحها الاقتصادية، وباتت دون مأوى، أو عمل.

القلق الموجود، سيقود بالتأكيد لارتباك في التصرف، وفقدان لـquot;البوصلةquot;، ومن هنا، كانت إطلالات الأمين العام بمثابة quot;الركلجةquot; لهذا الجمهور، وإعطائه مزيدا من الطمأنينة، وإخباره بما يجب عليه القيام به، أو ما سيقوم حزب الله به.

الظهور التلفزيوني هو الآخر دالة خير واطمئنان إلى أن نصر الله لا يزال بخير، حي يرزق، لم يصبه أذى. مسجلاً نقطة في المرمى الإسرائيلي، بأن هدفا أساسا من أهدافكم، وهو تصفيتي جسديا لم يتحقق بعد.

لك أن تختار أي جماعة من محبي نصر الله لتجلس معهم وتتابع كلامه وأنت بحضرتهم. تجربة قمنا بها، لنجد، أن ردات الفعل واحدة تقريبا لدى هذه الشريحة الواسعة رغم تفاوتها. هناك من يتابع بصمت، وهناك من يراقب الكلام وهو يدخن سيجارته الأولى ليشعل بعدها الثانية مباشرة. وهناك من يظل طوال الوقت يدعو لـquot;السيدquot; بطول العمر والنصر، ولن تستغرب أن ترى من تدمع عيناه من شدة تعلقه برمزه. رمزٌ باتت له خصوصية دينية سياسية، أخذت بعدا ميثولوجيا، عزز منه الدفق العاطفي الكبير، والنتائج العسكرية على الأرض.

ما الذي يفسر مثل هذا الانشداد بين نصر الله وقاعدته؟ يعلق الباحث السعودي الأستاذ حبيب الجميع، محاولا تفسير ذلك quot;بعيدا عن أي تقويم سياسي أو مادي لكل ما حدث، وبعيدا عن اتفاقك مع حزب الله أو اختلافك معه، لا يمكن للمراقب إلا أن يقف عند مدى التلاحم الكبير الذي كان حاضرا بين الناس والسيد حسن نصر الله. وهو تلاحم كان أساسيا في تحديد نتيجة المعركة التي دارت على الأرض. ومن خلال معايشتي لواقع الحال اللبناني، فإن جمهور المقاومة وجد في قيادته صدقا وصدقية. فكما هدمت بيوتهم، هدمت بيوت القيادات، وكما استشهد أبناؤهم، استشهد هادي ابن السيد نصر الله، وكما وعدهم بالتكفل بالاعمار والبناء، ها هو حزب الله يفي بما وعد به. نتيجة لذلك، ونتيجة لكون القيادة من طبقة عادية جدا، لا تنتمي إلى الإقطاع السياسي، أو البرجوازية السياسية، كانت هذه اللحمةquot;، لحمةٌ يرى الأستاذ الجميع أنها quot;لا ترتبط بشخص السيد حسن نصر الله، بقدر ما ترتبط بصفاته. أي أنه ليس هنالك تأليه للشخص بما هو شخص، وإنما لمزاياهquot;.

البعد التاريخي يراه الأستاذ الجميع ولكونه باحثا مختصا في التاريخ والإسلاميات، بعدا مهما لفهم الظاهرة، يقول موضحا quot;سياق بنية الفكر الشيعي تاريخيا، وارتباطها بمفاهيم الشهادة والفداء، والعدالة، والسيرة التي تروى لسلوكيات الإمام علي ابن أبي طالب، وواقعة كربلاء، واستعادة الشيعة لهذا التاريخ سنويا وبشكل متكرر في المناسبات الدينية، وتحديدا في عاشوراء، جعلت هنالك تربية قائمة على قيم التضحية وتقديم الغالي والنفيس في سبيل الله، متمثلين شخص الإمام الحسين في السيد نصر اللهquot;. إذن، فالظاهرة لها أبعاد دينية عقدية، واجتماعية، ومعرفية، وسياسية في نظر الأستاذ الجميع، وكلها اجتمعت مع بعضها البعض وأنتجت هذه العلاقة التي تحتاجُ إلى مزيد من التفكيك والتحليل بغية فهمها.

أمرٌ آخر يمكن أن يضيء على المسألة، وهو الواقع الطائفي في لبنان. فكل طائفة لها رمزها الذي تحتمي به، ولها زعامتها التاريخية، وفي ظل هذا التجاذب الطائفي، ليس من المستغرب أن تحتمي كل طائفة بقائدها، في الوقت الذي تشكل هي الأخرى سياجا، وحاضنا، وخزانا، ورأسمالٍ رمزيٍ وشعبي له. وفق كل ذلك، فموعد حديث نصر الله، لدى جمهوره، موعد له خصوصيته، فترى الشوارع شبه خالية، والكل يرصد ما يقول، وما إن ينتهي من كلامه، حتى يبدأ النقاش والتحليل السياسي في الدوران، ليفتي كل شخص وفق ما فهم، ويدعي كٌل واصلا بـquot;ليلىquot;.

من يختلف مع توجهات حزب الله، تراهم بدورهم يرصدون كلمات نصر الله، باحثين فيها عن مكامن التطمين، أو مكامن الخوف. هنا قال كلمة تُطمئنهم، وهنا قال أخرى تجعلهم أكثر حيرة، وهناك كانت نبرته أكثر حدية، فكانت قلوبهم أشد خفقانا.

هم إذن يبحثون بين طيات حديثه عن مستقبلهم، عما ستصير عليه أيامهم. بحثٌ يراه الباحث الجميع quot;نتاج تراكم سنوات الحرب الأهلية، وعدم الاستقرار السياسي والأمني الذي يعيشه لبنان، وخوف الناس على وضعهم المعيشي، إضافة إلى العزلة التي يفرضها كل فريق على جمهوره، والتي تجعله على مسافة عن شركائه في الوطن، في الوقت الذي يجب أن يكون فيه الجميع قريبين من بعضهم البعض، لينتفي أي خوف متبادل بين الأفرقاءquot;.

آخرون، وخصوصا من المثقفين أو الكُتاب، يستمعون بأذن ويصمون الأخرى. شاكلتان هما، شاكلة أعماها حبها، وأخرى ختم على قلبها بُغضها. المحبون لا يرون في كلام quot;السيدquot; إلا وحيا منزلا، والمبغضون لا يرون فيه إلا تحريضا على الفتنة، وأصداء لما يردد الرئيسان بشار الأسد، وأحمدي نجاد. قراءة كهذه بنصف عين، ستكون نتيجتها معرفة معطوبة، ورؤية عرجاء، تجير الحديث لصالحها، وتقوده هي، مفضلة انتقاء ما يعجبها، على القراءة النقدية بعقل متجرد من كل انحياز مكشوف.

السياسيون بدورهم. من يستمع ليردد ويقول quot;آمينquot;، ومن يسترق السمع ليفتح جبهة عراك سياسي يعتاش منها لأيام، وربما سويعات، والضحية الأساس هي الجمهور. ذلك الجمهور الذي يريده السياسيون أن لا يستمع للكلمات مباشرة من فم قائلها، وإنما عبر قنوات مزايدة، أو تشويه.

هي الشاشة إذن من يتفق الجميع على الجلوس أمامها. وهو نصر الله من يعيره الجميع الآذان، لكنها في النهاية العقول، والأمزجة، والتوجهات السياسية، والمواقف الحزبية، والتي سيحكم من خلالها كلٌ على ما سمع، لا كما قال نصر الله، بل كما أراد هو أن يسمع.