تفتح quot;إيلافquot; ملف الحرية الصحافية في العالم العربي، تتطرق من خلاله إلى quot;الضوابط quot; الممارسة على السلطة الرابعة التي تترنح بين الإغراء والإلغاء. من الإمارات إلى اليمن فالمغرب والجزائر ومصر ولبنان والأردن، تحاورquot; إيلاف quot;إعلاميين ومسؤولين وقانونيين حول الحريات الصحافية ودور وزارت الإعلام والقضاء. وتضع quot;إيلاف quot; أمام قرائها ما يقوله المعنيون لمناقشة هذه الحيثيات بكل حرية. ونبدأ من الامارات حيث قدم مراسلنا في ابو ظبي تاج الدين عبد الحق قراءة لواقع الحرية الصحفية مستشهدا بقرار منع حبس الصحفيين ، ورغم اهميته فهو لا يشكل الا خطوة واحدة في مسيرة الحريات الصحفية التي لم تكد تبدأ بعد .

الحريات الصحافية في العالم العربي... الإمارات نموذجًا (1):
إنجازات بمبادرات حكومية... وإعلام داخلي خاضع لسلطة تملكه

تاج الدين عبد الحق من ابوظبي: على الرغم من الإرتياح الذي أبدته الأوساط الإعلامية الإماراتية والتجمعات النقابية والمهنية العربية لقرار الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء بدولة الإمارات حاكم دبي بمنع حبس الصحافيين، فإن هذا القرار على أهميته لا يشكل إلا خطوة واحدة في مسيرة الحريات الصحافية التي لم تكد تبدأ بعد، كما أنها تشكل دليلاً جديدًا على أن تلك الحريات لا تزال تمنح ولا تنتزع، وهو ما يجعلها في مرمى التهديد عندما تقتضي الظروف وتتبدل الأحوال. والقراءة السريعة للمشهد الإعلامي الإماراتي يظهر أن معظم الإنجازات التي تحققت على صعيد الحريات الإعلامية كانت من صنع الحكومة وليس إستجابة لضغوط الجسم الصحافي والإعلامي ومطالباته.

فقرار إلغاء وزارة الإعلام، وهو القرار الذي يعني من الناحية النظرية تقليص هيمنة الدولة على الساحة الإعلامية وتوفير مرونة لعمل المؤسسات الإعلامية ، كان تتويجًا لسلسلة من الخطوات بدأها وزير الخارجية الاماراتي حاليًا الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان الذي كان انذاك وكيلاً ثم وزيرًا لوزارة الاعلام الملغاة، بدأت أولا بتفكيك دوائر تلك الوزارة وتحويلها إلى هئيات مستقلة ماليًا وإداريًا وامتدت لتحجيم الرقابة الى الحد الذي اصبحت فيه رقابة ذاتية من المؤسسات الصحافية نفسها. لكن ذلك الاستقلال على الرغم من انه حسّن مرحليًا اداء الاعلام الاماراتي، إلا انه لم يلغِ هيمنة الدولة على الاجهزة الاعلامية الرئيسة التي ظلت مملوكة ملكية مطلقة للدولة حتى مع اتجاه الدولة إلى تخصيص كل شيء بما في ذلك الخدمات البلدية ومرافق الخدمات.

ومن الانجازات التي يمكن ان تضاف الى رصيد الحريات التي يعطى الفضل فيها للحكومة، انشاء المدن الاعلامية والمناطق الاعلامية الحرة التي استقطبت مئات المؤسسات الاعلامية المسموعة والمقروءة والمرئية، وجعلت من الساحة الاعلامية الاماراتية واحة تستظل بالتسهيلات المقدمة فيها الآلاف من الكوادر الاعلامية العربية والاجنبية في تفاعل مهني فريد بين مدارس ومشارب اعلامية مختلفة. لكن هذا الانفتاح الخارجي لم يقابله انفتاح مماثل على الداخل. فالسلطات لا تزال تفرض قيودًا على ترخيص الصحف، ولا تمنح القطاع الخاص الاماراتي اي تراخيص لإصدار صحف محلية جديدة، فيما تضيف منافسة الصحف الحكومية الكبيرة اعباء اضافية على محاولات الصحف المحلية الخاصة الموجودة حاليًا لتطوير نفسها والحصول على حصة عادلة من الاعلانات.

ومن الانجازات ايضًا السماح بانشاء جمعية للصحافيين التي تعد من التجمعات النقابية القليلة في دولة لا يزال العمل النقابي فيها محصورًا بالعدد ومحدودًا بالتأثير. ومع ان انشاء الجمعية بدأ بمبادرة من الصحافيين أنفسهم، إلا ان تجسيد تلك المبادرة الى واقع لم يكن ممكنًا لولا دعم الدولة والمسؤولين فيها والذي كانت له تجليات مادية ومعنوية عديدة.

لكن تلك الانجازات التي تحققت للاعلام الاماراتي لم تحجب حقيقة انه لا يزال يعاني من قصور كبير على صعيد الحريات. فإلغاء وزارة الاعلام لم يلغ السيطرة الحكومية التي لا تزال شبه مطلقة على المؤسسات الاعلامية. فمن بين اكبر خمس صحف يومية عربية هناك ثلاث صحف مملوكة للحكومات المحلية. وهذا معناه ان الصحف الاماراتية ، تعزف في معظم الاحيان المقطوعة نفسها، ولا تزال بعيدة عن ان تكون تعبيرًا عن التيارات الاجتماعية والمصالح الفئوية والتيارات السياسية. وحتى في الحالات القليلة التي ظهرت فيها اصوات صحافية تعبر عن تلك التيارات والمصالح، وجدنا ان هناك تدخلاً مباشرًا او غير مباشر من الحكومة، حيث منع على سبيل المثال عشرة من الكتاب والاكاديمين الجامعيين المعروفين، من الكتابة في الصحف او الظهور في تعليقات في التلفزيون بسبب اراء ومواقف سياسية لم تلاقِ قبولاً من جهات او اشخاص في الحكومة. والغريب أن هذا المنع الذي لا يزال ساريًا طال حتى بعض الصحف الخاصة التي انصاعت(للتوجيهات العليا)، واعتذرت عن نشر مقالات لاولئك الكتاب. وهذا يؤكد ان السيطرة الحكومية المباشرة وغير المباشرة على العمل الاعلامي قلصت الى حد كبير قدرة المؤسسات الاعلامية في انتقاد اداء المؤسسات الحكومية وغيرها من المؤسسات المرتبطة بشكل أو آخر بالحكومة او رموز فيها. وتظهر قراءة محتوى الصحف اليومية ان الغالب عليه هو الاشادة لا النقد والتفخيم لا التحقيق .

ولا يبدو المشهد الاعلامي الحالي على الرغم من الجوانب السلبية فيه ضاغطًا أو مثيرًا للتذمر في اوساط الجسم الصحافي المحلي. فالتحرك من أجل التغيير تحرك بطيء والمطالبة به اقرب للرجاء منه الى الضغط. وعلى سبيل المثال، فإن تغيير قانون المطبوعات والنشر الذي ساهمت في اعداده ومراجعتة جمعية الصحافيين، لم تكن عليه خلافات كبيرة مع الحكومة التي ابدت مرونة كبيرة في الاستجابة لاراء ومقترحات ممثلي الجمعية في الصياغة الاخيرة لمشروع القانون. ويجمع الكتاب والصحافيون الذين التقتهم quot;إيلافquot;، على أن الصحافيين ليسوا على خصومة مع الدولة وإنهم وإن كانت لهم مطالب مهنية وتطلعات لمزيد من الحرية في ممارسة المهنة، فإنهم لا يحتاجون الى رفع الصوت وقرع طبول الاحتجاج .

في هذا الصدد، فإن محمد يوسف رئيس جمعية الصحفيين الاماراتية يشير الى ان هناك تحسنًا مضطردًا في مستوى الحريات الاعلامية في الامارات وان هذا المستوى يشكل تطلعًا بالنسبة إلى دول الاخرى. لكنه يستدرك فيقول ان العمل من اجل مزيد من تلك الحريات والمزيد من الحماية للصحافيين يظل عملاً مستمرًا، ويتطور بتطور المجتمع وتطور الايمان باهمية الاعلام والصحافة. ويؤكد محمد يوسف على ان الحرية الاعلامية لا ترتبط فقط بمدى الحصانة التي تتوفر للعاملين في المهنة بل بمدى توفر المعلومات وسهولة انسيابها لهم فلا معنى أن تطلب من جائع ان يأكل حتى يشبع وتمنعه ان يمد يده الى المائدة التي يجلس اليها.

اما الكاتب الصحافي ناصر الظاهري صاحب الزاوية اليومية الشهيره في جريدة الاتحاد والتي عنوانها ( العمود الثامن)، فإنه وإن كان غير راض تمامًا عن مستوى الحرية التي يتمتع بها الكتاب والصحافيون الاماراتيون، إلا انه يؤكد من خلال تجربته الشخصية انه لم يتعرض لأي تدخل او توجيه فيما يكتبه يوميًا في جريدة الاتحاد، على الرغم من انها جريدة مملوكة للحكومة. ومع انه يشيد بقرار الشيخ محمد بن راشد بمنع حبس الصحافيين، ويعتبره نوعًا من التكريم للمهنة واعترافًا بدورها في خدمة المجتمع، الا نه يعتقد ان عمل الصحافي لا يجب ان يحتكم الى سلطة أو قانون تفرضه أوتصدره الحكومة بل الى معايير مهنية واخلاقية متفق عليها quot;لأن القانون كما يقول مهما كان هو قيد على الحرية الصحافية فيما المعايير العامة اكثر رحابةquot;، ويشير في هذا الصدد الى ان بعض الدول لا تتحتكم الى نصوص دستورية مكتوبة بل الى اعراف وتقاليد متوارثة لها قوة القانون والدستور ولا يستطيع احد تجاوزها او الانتقاص منها.

على ان الناصري وإن كان يطالب بإلغاء قوانين المطبوعات والنشر باعتبارها شكلاً من اشكال التمييز، الا انه يرى ضرورة توفير اجهزة قضائية قادرة على التعامل مع قضايا النشر بشكل منفتح وواع. اذ لا يمكن تطبيق المعايير القضائية التي تطبق بحق المهربين على الصحافيين. فالحبس الاحتياطي في الجرائم العادية يصبح جريمة بحد ذاته اذا اتخذ بحق الصحافي قبل ان يتم البت في القضية المرفوعة عليه. ويقول ان معيار حبس الصحافي من عدمه هو مدى ارتباط القضية المرفوعة عليه بمهنته وعملة الصحافي او الاعلامي .فاذا لم يكن لها ارتباط بهذا الجانب، فإنه لايجب منح حصانة له من الحبس لمجرد انه يعمل صحافيًا.

ويقول الظاهري ان الحريات الصحافية في الساحة الاماراتية ليست محكومة بالرقيب الذي تعينه الحكومة بقدر ارتباطها بالرقيب الداخلي الذي يقبع في اعماق الصحافيين لاسباب وظيفية او لمخاوف موروثة او مستوردة من دول تمارس نوعًا من التقييد لحرية الصحافيين. ويقول ان الشكل الاخير هو المنتشر بين الصحافيين العرب الوافدين من دول اعتادت ممارسة الرقابة المسبقة. ويشير الى ان الصحافيين الاجانب العاملين في الصحف الانكليزية الصادرة بالدولة ليست لديهم المخاوف نفسها، ويمارسون عملهم بسقف حرية اعلى بكثير من نظرائهم العرب.

الشيخ محمد بن راشد خلال توزيع جوائز على الصحافيين العرب-2006
ويؤكد الكاتب الصحافي محمد الحمادي على اهمية شفافية مصادر الاخبار والمعلومات باعتبارها العنصر المكمل للحرية الصحافية ويشير بحكم عضويته في مجلس ادارة جمعية الصحافيين الى ان القانون الجديد للمطبوعات لحظ هذا الجانب عندما اكد على حق الصحافي بالحصول على المعلومات، لكنه استدرك قائلاً إن القانون الجديد لا يلزم مصادر الاخبار باعطاء المعلومة لمن يطلبها حتى لو كان صحافيًا. ويتطرق الحمادي الى جانب آخر من جوانب الحريات الصحافية بالقول إن هذه الحرية لا تقيدها القوانين فقط بل ادارات الصحف ورؤساء التحرير الذين تكون لبعضهم اجندات مختلفة عن اجندات الصحافيين، وهذه الاجندات مرتبطة بالجهات التي عينتهم والتي تكون في كثير من الاحيان جهات حكومية او لها علاقة بالحكومة. ويرى ان ذلك يرتبط بما يصفه بالالغاء او الاغراء. فالصحافي الذي يتعامل مع المهنة باعتبارها وظيفة واكل عيش هو الذي يخشى الاقصاء والالغاء ويخضع للاغراء المادي او المعنوي وهي في نهاية المطاف اسلحة قمع ناعمة للحريات. وقال ان رئيس التحرير هو الذي يرفع سقف الحرية ويخفضه في كثير من الاحيان وان السلطات قلما تتدخل في هذا الجانب. ويشير الى ان بعض رؤساء التحرير ليس لديهم المغامرة والاستعداد لتحمل المسؤولية وبالتالي فإنهم يلجأون الى ابسط الحلول وهي وقف النشر ومنعه.

ومن واقع تجربته الميدانية يرى ان الصحافيين المواطنين هم الاكثر جرأة في تناول القضايا الحساسة، لكنه يستدرك ليقول ان هناك العديد من الصحافيين العرب الذين كانت لهم اسهامات جريئة ودخلوا في مناطق حساسة خلال عملهم الصحافي. ويذكر الحمادي أن الاغراء المادي الذي تمارسة بعض المؤسسات من الامور التي تؤثر على مستوى الحرية فيشير في هذا الصدد الى الهدايا التي تقدمها المؤسسات العامة والخاصة للصحافيين في بعض المناسبات، الامر الذي يحول التغطيات الصحافية التي تطال مؤسساتهم الى ما يشبه العلاقات العامة لا العمل الصحافي بشروطه المهنية الصحيحة.