فراراً من حملات التكفير والتهديدات والملاحقات
نوال السعداوي تختار منفى آمناً بعيداً عن مصر

كتب ـ نبيل شرف الدين:
صباح الخير على الورد اللي فتح في جناين مصر
صباح العندليب يشدي بألحان السبوع يا مصر
صباح الداية واللفة .. ورش الملح في الزفة
صباح يطلع بأعلامنا من القلعة لباب النصر

نوال السعداوي.. المثيرة للجدل دائماً
بهذه الأنشودة وغيرها كان يشدو الراحل الشيخ إمام عيسى في أمسية صيفية عام 1979 حين التقيت نوال السعداوي للمرة الأولى وجهاً لوجه، كانت حينها أجواء مصر تفيض حيوية ومعارضة لنظام الرئيس السابق أنور السادات، بفضل المعارضة اليسارية التي تفرغت وقتذاك كل أجهزة الأمن لملاحقة نشطائها، بينما كانت مغيبة تماماً ـ وربما متواطئة ـ مع الجماعات الإسلامية المتطرفة التي كانت تنتشر في تلك الأيام انتشار النار في الهشيم، حتى وقعت الواقعة، وتمكنت من اغتيال السادات في حادث المنصة الشهير، وبعدها قالت المحكمة التي نظرت قضية quot;تنظيم الجهادquot;، إن أجهزة الأمن كانت كالزوج المخدوع، آخر من يعلم ما يجري في بر المحروسة من تدبير ومؤامرات، كانت ـ ولم تزل ـ عصابات الإرهاب تحيكها .

مر على هذا اللقاء قرابة ثلاثة عقود، جرت خلالها مياه كثيرة في نهر النيل، وتبدلت في مصر والعالم أحوال لا حصر لها، تفكك الاتحاد السوفيتي، وجلس عرفات على مائدة التفاوض مع رابين وبيريز وشارون، وكفر العقيد الليبي بالعروبة وسلم مشاريعه النووية للشرطي الدولي، وألقي القبض على صدام حسين وحوكم ـ كالمجرمين ـ وأعدم في مشهد يخلع القلب، ولكن ثمة أموراً لم تتغير في الكون ولا في مصر، فالشمس مازلت تطلع من الشرق وتغيب في الغرب، وحسني مبارك لم يزل رئيسا لمصر يحكمها حكماً مطلقاً، والشاعر أحمد فؤاد نجم أصبح quot;نجم الفضائياتquot;، غير أن نوال السعداوي لم تعلن عزيمتها، ولم تدخل quot;سوق الجواريquot;، وظلت مثل quot;نخلةquot; البلح الحياني شامخة، مترفعة عن تسفيه السفهاء، تصر على تمنح ثمارها حتى لمن يقذفونها بالطوب، وما أكثرهم، من حكوميين وحكام ومحكومين وكافة تصريفات فعل (حكم)، إلى رفاق لهم مآرب إن تبد لكم تسؤوكم، وصولاً لإخواننا وكلاء شؤون القداسة، الذين لاحقوها بالكلمة البذيئة والدعاوى القضائية، ولن يحزنوا كثيراً لو أن أحد أبنائهم من الشباب quot;المتحمسquot; أقدم على إراقة دمها، كما فعلوا مع المرحومين فرج فودة ونجيب محفوظ وغيرهما .

وصلات هامة:
*
الموقع الرسمي لنوال السعداوي
*نوال السعداوي، في الموسوعة الحرة (ويكيبيديا)
*موقع إسلامي يهاجم نوال السعداوي
*نوال السعداوي في (غوغل)

نوال في المنفى
وبعد نحو ثلاثة عقود على لحظات انبهاري الأولى بإطلالة نوال السعداوي، ذات الروح التي تشرق على محدثيها كأنها النهر حين يفيض، وطيلة هذه الأعوام اكتشفت أنني لا اتفق معها في الكثير من الآراء السياسية ولا الفكرية، ولم ترق لي طريقة عرضها للأفكار التي بدت لي فجة أحياناً، لكن ـ وهذه شهادة حق ـ لم تتزعزع مكانتها في ضميري، بل على العكس أدركت حجم معاناتها، وشجاعتها في مواجهة مناخ اجتماعي يعدو صوب الخلف بسرعة الريح، الأمر الذي تؤكده عشرات المظاهر والظواهر الاجتماعية في مصر على نحو لا تخطؤه العين .

ولعل نوال السعداوي كانت تفكر بما كان يجول في خاطري وأنا في الطريق للقائها آخر مرة قبل مغادرتها مصر في سفر يبدو أنه بلا رجعة، إذ كنت اسأل نفسي عما إذا كانت هذه المرأة القوية قد فشلت في رهانها وحساباتها بعد أن تدحرج المجتمع المصري في مستنقع السلفية، ولم تعد هناك غير محجبات أو منتقبات سوى المسيحيات، وفتيات من بقايا النخبة المستبعدة عمداً أو تجاهلاً، وحين اقتربت من السؤال عن أسباب فشلها ـ ضمن فشل النخبة العلمانية ـ تدافعت في ذهني عشرات الأسباب، إلى درجة الارتباك، فالحكومات المتعاقبة تحالفت تارة مع الإسلاميين وأخرى مع اليساريين، وتارات مع ذوي المآرب والمصالح، ووجدت ألف عذر وعذر لنوال، أن تفشل وأن تختار منفاها بعد أن ضاع العمر، أو كاد في محاربة طواحين الهواء.

أما على صعيد ردود الفعل حتى الآن، فقد نفت مصادر بمطار القاهرة أن تكون الكاتبة المصرية نوال السعداوي قد أدرجت في يوم على قوائم الممنوعين من مغادرة البلاد، أو على قوائم ترقب الوصول، مشيرة الى أن السعداوي غادرت مصر من دون أي تعقيدات وباعتبارها مسافرة عادية شأنها في ذلك شأن المغادرين للبلاد .

وربما لم تحظ كاتبة في مصر بمثل تلك الشهرة التي حظيت بها السعداوي بسبب التي طالما أثارت جدلا واسعا في البلاد منذ عقود، بسبب آرائها الجريئة التي يراها التيار الديني المحافظ متجاوزة، خاصة في ما يتعلق بالدين، وربما كان آخرها روايتها quot;سقوط الإمامquot; التي قرر مجمع البحوث الإسلامية مصادرتها، باعتبارها تتضمن إساءات للدين الإسلامي، وتنكر ما هو معلوم منه بالضرورة .

وكانت نوال قد أصدرت مؤخرا الجزء الثاني من سيرتها الذاتية quot;السير في النارquot;، وهي تواصل الكتابة بكل إصرار، وتقول quot;إن الكتابة تجعلني فخورة وقوية، وهذا هو السبب في أني لا أزال على قيد الحياة، فالبقاء على قيد الحياة بالنسبة لكاتبة من هذا الطراز ليس بالأمر الهينquot;، فقد كانت نوال السعداوي أول من كتب صراحة عن ختان البنات، وسببت كتاباتها الكثير من المتاعب لها، ففي السبعينيات سرحت من وظيفتها، وفي 1992وضع اسمها على قائمة المستهدفين من قبل متطرفين إسلاميين يرفعون شعار : quot;اقتلوهم حيث وجدتموهمquot; .

وحينها قالت نوال في معرض تعقيبها على إدراج اسمها ضمن لائحة المستهدفين، quot;التي ضمت أسماء قرابة أربعين من الكتاب والأدباء والصحافيين، quot;بين هذه الأسماء وجدت اسمي، فأحسست كما لو ان رصاصة اخترقت رأسيquot; .

حملات التكفير
وعودة إلى صحيفة (لو سوار) البلجيكية التي قالت إن نوال السعداوي فرت من مصر، بعد أن شعرت أنها مهددة ولجأت إلى بلجيكا، في انتظار الحصول على إقامة في الولايات المتحدة، ونقلت عنها قولها إنها مثلت في 28 كانون الثاني (يناير) الماضي أمام النائب العام المصري مع ابنتها الكاتبة منى حلمي التي كانت كتبت مقالاً في أسبوعية مصرية اقترحت فيه أن يحمل الأولاد اسمي الأب والأم معا، كما نقلت الصحيفة البلجيكية أيضاً عن السعداوي قولها quot;على غرار ابنتي، حاولوا اتهامي بالكفر، ما قد يقود إلى القتلquot;، على حد تعبيرها .

وتحدثت نوال السعداوي عن إصرارها على مواصلة استعمال الكلمة سلاحا قويا بالرغم مما يسببه ذلك من متاعب، وقالت نوال: quot;بدأت مشكلاتي ليس عندما تحدثت عن ختان البنات، ولكن عندما ربطت ختان البنات بالمشكلات السياسية والاقتصادية. هذه هي جريمتيquot; .

وخاضت السعداوي عشرات المعارك، من أبرزها تلك التي تعرضت لها في العام 2001 حين نسبت إليها صحيفة محلية قولها إنها تدعو لتعدد الأزواج للمرأة أسوة بتعدد زوجات الرجل بينما كانت تطالب بمنع تعدد الزوجات، وقد اتهمها مفتي الديار المصرية وقتها نصر فريد واصل، بأنها بتصريحاتها المنسوبة إليها تلك تكون قد quot;خرجت عن ربقة الإسلامquot; .

وحين سألت مجلة (آخر ساعة) الصادرة بتاريخ 25 من نيسان (أبريل) عام 2001، المفتي السابق عما إذا كانت التصريحات المنسوبة للسعداوي تشكل خروجاً عن الدين، قال بالحرف الواحد: quot;هو من وجهة نظرنا خروج علي الإسلام .. وفيه إنكار للمعلوم من الدين بالضرورة .. وعلى ذلك فإن الدكتورة المذكورة إن أصرت على ما قالت وعلى هذه العقيدة الفاسدة .. كما ظهر في حديثها يكون ذلك خروجا عن دائرة وربقة الإسلام .. لأنها باختصار تتهم الله بالجهل والظلمquot; .

بعدها تطوع أحد المحامين لرفع quot;دعوى حسبةquot; ضد نوال السعداوي معتبراً أن ما قالته يشكل خروجاً على الشرع ومقتضى الإيمان، وقال المفتي السابق نصر واصل إن دعوى الحسبة فرض كفاية علي كل مسلم ومسلمة بمعنى أنها تجب، فإذا قام بها بعض المسلمين فقد سقطت فرضيتها عن الباقين، خصوصا إذا كانت القضية محل الدعوى فيها خطورة على المسلمين جميعا أو فيها مصلحة للمسلمين جميعا هنا يجب تدخل أحدنا ليدفع الخطر أو يحقق المصلحة بدعوى الحسبة التي يرفعها لأن الفتنة إذا تفشت في مجتمع لا تفرق بين كبير وصغيرquot; .

نوال والإخوان
ولا تخلو سيرة نوال السعداوي من المفاجآت التي حفلت بها حياتها، أما أكثر هذه المفاجآت إثارة ـ بالنسبة لي شخصياً ـ فهو ما ورد في كتاب محمود جامع، وهو أحد أبرز مهندسي التحالف الإسلامي ـ الساداتي، والذي كان مقرباً من الرئيس الراحل أنور السادات، وقد ورد في كتابه (عرفت الإخوان): quot;كان معنا في نفس الدفعة الدكتورة نوال السعداوي، التي نجحنا في ضمها للإخوان، وتحجبت في ملبسها وغطت شعرها، وكانت ملابسها على الطريقة الشرعية، وقد نجحت في أن تنشئ قسمًا للأخوات المسلمات من طالبات الكلية، كما أنشأت مسجدًا لهن في الكلية، وكانت تؤمهن في الصلاة, وكنت أنا ضابط اتصال بينها وبين الإخوان، وأقنعت هي كثيرا من زميلاتها بالانضمام للأخوات المسلمات تحضهن على الصلاة والتمسك بالزي الإسلامي في وقت كان الحجاب بين النساء نادرًا, وكانت تخطب في المناسبات الإسلامية وفي حفلات الكلية باستمرار, وكان والدها يرحمه الله من علماء كلية دار العلوم، هو الشيخ سيد السعداوي, ولكن للأسف انقلب حالها وتغيرت أمورها إلى ما وصلت إليه الآن, واتهمت بالإلحاد والإباحيةquot;، (ص 130) من الكتاب المشار إليه .

في معركة سياسية أخرى أعلنت نوال السعداوي أنها سترشح نفسها للانتخابات الرئاسية، غير أنها لم تفعل لأن الشروط لم تنطبق عليها، إذ لم يسمح سوى لمرشحي الأحزاب المعترف بها فقط، وهي الانتخابات التي فاز فيها الرئيس حسني مبارك، الذي يحكم البلاد منذ أكثر من ربع قرن، بينما مازال المعارض والبرلماني السابق أيمن نور، والذي حل في الترتيب الثاني في تلك الانتخابات، محبوساً بتهمة تزوير أوراق تأسيس حزب quot;الغدquot;، على النحو المعروف للمهتمين بالشأن المصري .

وهنا تجدر الإشارة إلى أن إعلان السعداوي ترشيح نفسها للرئاسة جاء قبل أسابيع من قرار الرئيس حسني مبارك بتعديل المادة 76، وهو التعديل الذي أتاح الفرصة لإجراء الانتخابات بين أكثر من مرشح، لذلك اعتبر وقتها أن قرارها كان على سبيل الدعابة السياسية، إلا أن ذلك التعديل ـ الذي عاد مبارك نفسه وطالب بإعادة تعديله مجدداً ـ قد فتح المجال - ولو نظريا - لتكون هناك منافسة على منصب رئيس الجمهورية، حيث تحركت مياه كثيرة في الحياة السياسية المصرية، وإن بدت الريح حتى الآن ماضية على عكس ما تشتهي السفن .

يذكر أن السعداوي من مواليد العام 1931، وتخرجت في كلية الطب بجامعة القاهرة عام 1955، ومارست عملها كطبيبة إلى جانب نشاطها السياسي والفكري الواسع .