تحليل منصور النقيدان من دبي: أعلن الفاتيكان مساء الأربعاء عن حوار مسيحي إسلامي سيعقد في الرابع من نوفمبر القادم، وفي منتصف يناير الماضي أقيمت في العاصمة الإسبانية مدريد أعمال المنتدى الأول لتحالف الحضارات شاركت فيه أكثر من ستين دولة كان منها السلفادور وبنغلاديش، وتخلفت دول عن المشاركة في تمثيل رسمي رفيع مثل الصين والولايات المتحدة الأمريكية، ولكن غياب الأخيرة عوضه حضور لافت لدول أوربية تنتمي إلى المجال الحضاري الغربي المسيحي نفسه.
يبدو أن عجرفة أبناء إبراهيم حالت حتى اليوم دون اكتشاف حقيقة أن منتدى مغلقاً بين الديانات الثلاث التوحيدية هو أس المشكلة، فهي لاتحاور إلا نفسها ولا تأكل إلا بعضها.
وسواء كان عدم مشاركة الصين في الاجتماع الأول لفريق العمل الذي عكف على إعداد خطة المنتدى في 2005 نابعاً من عدم رغبة من قبل الصينيين كما أشار إليه المفكر الروسي فيتالي نؤومكين، أم كان سببه فتور الرغبة في إشراكها من قبل الرعاة، فإن ذلك يشي بحقيقة صارخة هي أن الوعي العالمي بما تشكله الصين من ثقل حضاري وثقافي يتعاظم يوماً بعد آخر لايزال متدنياً. لدى الصين ماتقوله في منتدى يسعى إلى احتواء التهديدات التي تواجه العالم والمرتبطة بشكل وثيق بالأسس الحضارية، ويهدف إلى محاربة الصورة النمطية القبيحة عن ممثلي الثقافات المتعددة.
إن كون فكرة المنتدى نبعت بعد تفجيرات مدريد 2004 في محاولة لرأب الصدع بين العالمين الغربي والإسلام ، هو مايستدعي أن تستجلي الأصوات الساعية للسلام تجارب أخرى تؤكد على إمكانية تحقق ما تسعى إليه من أهداف، فقد امتازت الصين عبر التاريخ بنجاحها في هضم التباينات بين شعوبها وأعادت صياغتها وفق روحها وطبقاً لذائقتها، حصل هذا مع مايربو على مئة مليون بوذي، وثمانية عشر مليوناً من معتنقي المسيحية، ومع قرابة أربعين مليون مسلم، وفي خطوة ذات دلالة قام عالم صيني مسلم عاش في القرن السابع عشر بتأليف تفسير للقرآن وفق أفكار كونفوشيوس، ويعيش في الصين بليون من البشر يتبعون الطاوية وتعاليم كونفوشيوس، وقد تلقفت الصينُ الديانةَ البوذيةَ من الهند في القرن الخامس الميلادي فأسبغت عليها من ذائقتها ونفخت فيها من روحها وجعلتها لوناً مختلفاً عن بوذية الهند المُحْتَضِرَة.
تكمن أهمية الصين في أنها خزان لسدس البشرية، وصندوق لعشرات القوميات، وسحارة لأديان وثقافات متنوعة، ولأنها في السنوات القادمة ستكون إحدى القوى العظمى التي تقود دفة العالم، ولكن مشكلة الصين ومصدر قوتها في الآن نفسه أنها تنوء بإرث حضاري معمِّر صنع منها عبر التاريخ عالماً قائماً بذاته، وجعل مهمتها لإقناع نفسها والعالم معها بأنها دولة قومية أمراً عسيراً، أو كما عبر عالم السياسة الأمريكي لوسيان باي quot;إن الصين حضارة تريد أن تصبح دولةquot;.إن غياب الصين عن أي احتفالية عالمية تعالج مشاكل أبناء الثقافات هو خسارة لمحفل يهدف إلى رأب الصدوع الحضارية المنذرة بالحروب الدينية .

صحيح أن الصين يعوزها العنفوان والرغبة العارمة بقيادة العالم وتغييره وهي تفتقر إلى ضمير يدمن إزعاجها ويستمر في لذعها ويدفعها لاتخاذ قرارات ذات مسؤولية تجاه مآسي العالم، وهذا هو سر الجاذبية الأخاذة التي تتمتع بها الولايات المتحدة الأمريكية ، كما أن الصين تعيش مرحلة انتقالية من حقب تاريخية عرفت فيها عبادة الأبطال وتقديس القادة وهي تشهد انهياراً في نظامها الأخلاقي القديم ، في وقت لم تزل فيه نظم الحياة الأخلاقية الجديدة لم تتأسس بصورة كاملة، وهو منعطف تمر به معظم الحضارات في لحظات تحولها الكبرى كما في أواخر الإمبراطورية الرومانية، وبدايات عصر النهضة الأوربية وثورة الطبقة الرأسمالية.

ولكن عدم توافر الشروط لقيادة العالم لايعني عدم المشاركة في حل معضلاته الثقافية الروحية، والشرق كان دائماً متخماً بهذه التجارب، وهذا هو بيت القصيد. إن انكفاء الصين وتجلدها أمام النقد الأوربي والأمريكي بسبب نأيها عن التدخل في ملف حقوق الإنسان في مناطق التوتر في أفريقيا حيث استثماراتها الضخمة لن يدوم طويلاً، لأنها ستجد نفسها بعد سنوات قلائل مرغمة على الولوغ في أوحال الشرق الأوسط ومشاكله المزمنة وعلى رأسها قضايا ذات طابع ديني وإثني. وعلى حكماء الصين أن يعيدوا صياغة رؤيتهم تجاه أنفسهم وحقيقة دورهم في العالم.
مالذي يمكن أن تقدمه الصين لنا ؟
في محاضرة ألقاها الشاعر والمفكر السوري أدونيس في ألمانيا يناير الماضي أشار إلى تفوق الثقافات الوثنية على الديانات التوحيدية من وجوه عديدة، وأنها قد تجيب عن أسئلة لاتملك الأخريات جواباً لها.وهذا يبدو صحيحاً إلى حد بعيد.

تمتلك الصين باعتبارها أكبر الحضارات الوثنية رؤيتها الخاصة لعالم متعدد الثقافات وبإمكانها أن تكون ملهمة في إعادة النظر في الرؤية الوحدانية للإنسان والعالم التي تختزل الوجود في رؤية واحدة. ولكن قبل ذلك نحتاج نحن أن نعيد الاعتبار للثقافات والمجتمعات الوثنية وإشراكها في اقتراح الحلول للتخفيف من التعصب والرؤى المغلقة. لا أدري كيف ينجح محفل لتحالف الحضارات وهو مغلق بين أبناء إبراهيم بعد أن ولى ظهره لأديان وثقافات ينتسب إليها مايربو على البليونين من البشر؟
لدى الثقافات الوثنية الأخرى مايمكن أن تعلمه لنا.على الأقل هي غير ملطخة بدماء الحروب الدينية وأحقادها. إن البوذية يتزايد أتباعها يوماً بعد آخر، كما أن مراكز جلسات التأمل التي تتنامى بشكل ملفت وتجارب بعض المسلمين والمسيحيين بممارسة شعائر دينية نبعت من ثقافات الشرق الأقصى في موازاة شعائرهم الإبراهيمية، هي حقيقة تؤكد أن أبناء الديانات التوحيدية يجدون بعضاً من الطمأنينة في تراث الشرق البعيد، وقد كان المفكر العراقي هادي العلوي أحد القلائل الذي تنبهوا مبكراً لما يمكن أن تقدمه لنا فلسفة الزن الصوفية والطاوية.إن في تهاوي الحدود وتماهي الثقافات المتعددة وتداخلها واقتباس بعضها من بعض هو تمهيد لنشوء أنماط من الديانات الوسيطة، وترعرع ديانة عالمية واحدة تتجاوز كل الانتماءات الضيقة، ولم تعرف البشرية في تاريخها فرصة سانحة تضاهي هذه اللحظة التي نعيشها.

ولكننا لن نصنع شيئاً ذا بال إذا أصغينا لنذر الهلع من أن صعود الصين يجر في ذيوله سيادة قيم مجتمع لايمت إلى الحقوق المتعلقة بالحريات والإعلان العالمي لحقوق الإنسان إلا بصلة ضئيلة، وأن الإغواء الصيني الذي يتعاظم ليس إلا كابحاً للوعي العالمي المتنامي بتلك الحقوق.إن أي تهويل في الحديث عن تصيين العالم ليس إلا فزاعة لخلق أوهام عن ظل كئيب لشرور المملكة الوسطى قد أزف أوانه، وأن على الشعوب المحبة للسلام والحرية أن تتجمع حشودها لتخوض ملحمتها الكبرى، مذكرة بصراع الأمم والكائنات في فيلم سيد الخواتم.
علينا أن نكون أكثر حذراً لأن التخويف من الصين قد يكون إذا أمعنا النظر جيداً ليس إلا إدانة لحضارتها.
* مفكر وكاتب سعودي