تحامل على الديمقراطية وانحاز لسياسة quot;الأمر الواقعquot;
القذافي في موريتانيا لحشد التأييد للإنتخابات المقبلة لا للوساطة

إسماعيل دبارة من تونس: كان العنوان العريض لزيارة الزعيم الليبي معمّر القذافي لدولة موريتانيا هو الوساطة بين طرفي النزاع السياسي ، بين العسكر أو الانقلابيين من جهة و بين جبهة من الأحزاب المناوئة للانقلاب الذي قاده الجنرال محمد ولد عبد العزيز في 6 أوت من العام 2008، من جهة ثانية. تخللت زيارة العقيد خطب غاصت في التاريخ و الجغرافيا و الايدولوجيا و أنظمة الحكم و مفاهيم الديمقراطية و الانقلاب و شرعية الفاطميين، كما تخللتها أيضا تصريحات quot;إشكاليةquot; أثارت حفيظة فريق وتسببت في انسحابه، ونالت تصفيق وإعجاب الفريق الآخر.

غادر العقيد القذافي وهو الرئيس الدوري للاتحاد الإفريقي العاصمة الموريتانية دون تحقيق نجاح في تقريب وجهات النظر بين الخصوم وهو فشل محتوم بالنسبة لبعض المتابعين نظرا للاحتقان السائد في هذا البلد الإفريقي ، العربي المسلم ، خصوصا مع ضبابية الموقف الدوليّ من الأزمة الحالية و نفض المؤسسات المالية الكبرى ليديها من هذا البلد الذي تعاقبت عليه الانقلابات و الأزمات السياسية و الاقتصادية.

الاتهامات التي لاحقت القذافي وهو يستعدّ للإقلاع بطائرته متوجها إلى ليبيا لم تنحصر فقط في استقوائه على طرف على حساب آخر أو الانحياز فقط ، بل تجاوزت ذلك إلى الاستهتار بذكاء الشعب الموريتاني و مشاعره و اعتدائه على الديمقراطية الانتخابية التي يتوق لها الموريتانيون و انتكسوا لأجلها مرات ومرات.

الجبهة المناوئة للانقلاب لم تبد شراسة في الدفاع عن موقفها و شرعيتها بقدر الشراسة التي أبدتها في رفض موعد الانتخابات المقبلة التي تقول إن العسكر حددها بـquot;صفة فرديةquot; ولا يحق له ذلك و يبتغي من خلالها فرض الأمر الواقع و التعجيل بنيل الاعتراف الدولي، والعربي و الإفريقي به كنظام شرعيّ قادر على حكم موريتانيا.

لكن تصريحات القذافي في المطار و التي دعا فيها الموريتانيين إلى المشاركة في انتخابات السادس من يونيو/حزيران المقبلة مؤكدا أن الانتخابات ستتم مراقبتها من جميع الأطراف الإفريقية والدولية، كانت سببا ليحكم الفريق المناوئ بالانقلاب و بشكل قاطع على وساطة القذافي بالفشل و أكثر من ذلك لاتهامه بالمجيء لنواكشوط لإضفاء الشرعية على حكم العسكر و حشد التأييد للانتخابات التي يصفونها بـquot;المهزلةquot; في حالة وقوعها بالصيغة التي دعا إليها العسكر.

واثار الزعيم الليبي استياء الجبهة المناوئة للانقلاب و الداعية إلى إعادة الرئيس المنتخب ولد الشيخ عبد الله بعد أن أعلن رفضه معاقبة الجنرال بن عبد عزيز على الانقلاب الذي قام به واعتبر تاريخ الحكم في موريتانيا منذ الإطاحة بالرئيس الأسبق مختار ولد داداه وحتى الانقلاب الأخير quot;حلقة واحدة وسلسلة من الانقلاباتquot;.

كما سخر العقيد من الديمقراطية الانتخابية واعتبرها سبابا للازمات السياسية في حين اعتبر مناوئو الانقلاب ذلك تعديا على مبدأ دستوريّ مقدس لدى الشعب الموريتاني.

زعيم المعارضة أحمد ولد داداه أعرب عن رفضه لـتكريس quot;الأمر الواقعquot; المتمثل في حكم عسكري، خارج الشرعية الدستورية على حدّ تعبيره ،كما أعلن عن رفض الجبهة لوساطة القذافي. وبالمقابل عبّرت ما يسمى بـquot;قوى الأغلبيةquot; المساندة للجيش عن ارتياحها الكبير لموقف القذافي واستهجنت موقف الجبهة من تصريحاته، وقالت إنها quot;تؤيد الخلاصة التي وصل إليها، وضرورة الاحتكام إلى الانتخابات الرئاسيةquot;.

وأشارت تسريبات صحفية إلى أنّ القذافي أوصل رسالة إلى الرئيس السابق ولد الشيخ عبدالله طالبه فيها بتقديم استقالته لأنّ ذلك سيفتح الطريق أمام حل الأزمة. أكثر المتابعين تفاؤلا لوساطة القذافي لم ينف أنّ تلك الوساطة لن تتعدّى كونها محاولة للتقريب بين quot;الطرشانquot; والمختلفين اختلافا عميقا على الرغم مما يبديانه من خطاب يتعهّد بالتنازل قدر الإمكان.

فالرئيس المُنقلب على ولايته سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله أتى إلى السلطة عبر قناة الانتخابات وهو ما جعل الانقلاب العسكري الذي استهدفه في أغسطس من العام الماضي مختلفا عن غيره من الانقلابات التي استهدفت بدورها انقلابيين من ذات المدرسة و المؤسسة العسكرية.

كما أنّ التنافر بين الفريقين يبدو على أشده و تعززه مخاطر خروج البلاد عن المجتمع الدولي وما يعنيه ذلك من فقدان للغطاء الدولي ومراقبته الهامة في مثل هذه الظروف. و تمرّ موريتانيا في هذه الفترة بأزمة اقتصادية مخيفة يرى متابعون أن لغياب التعاون الدولي ومؤسساته دور فيها ،ناهيك عن تراجع القطاعات الاقتصادية الحيوية في البلاد و تدهورها في الوقت الذي تشهد فيه البلاد تراجع مساهمة القطاعات الرئيسية لاقتصادها و تراجع أثمان ثروتي الحديد و السمك و النفط الذي تستفيد موريتانيا من تصديره و تراجع دخل البلاد من العملة الصعبة و تدهور القدرة الشرائية لعموم الموريتانيين.

ولم تغب الحالة الاقتصادية التي تمرّ بها موريتانيا عن مستشاري القذافي و رجالاته إذ أنّ الاستثمارات الليبية التي دشّنها العقيد صحبة الجنرال محمد ولد عبد العزيز تدلّ على أنّ الدعم السياسي تجاه العسكر سيكون مرفوقا بالدعم الاقتصادي الذي يبدو ضروريا لو أراد الغرب تطبيق نظرياته في ضرب الحصار على quot;الانقلابيينquot; حتى يعيد الشرعية لأصحابها.

و بلغت تكلفة المشاريع الليبية الكبرى في موريتانيا الـ3 مليارات دولار ستصرف على التمويل المقرر لاستئناف عمل شركة الخطوط الجوية الموريتانية التي انهارت في ظل نظام الرئيس السابق ولد الطايع وتبدد الحلم بإعادة إحيائها في ظل حكومة الرئيس المعزول سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله ، إضافة إلى سلسلة من الفنادق وطريق حديثة بالعاصمة نواكشوط سيطلق عليها اسم العقيد وغيرها من مشاريع البنية التحتية.

العقيد الوسيط معمّر القذافي كان يعلم بصفة مسبقا ndash; نظرا لإرساله وفدا يجسّ النبض الموريتاني قبيل زيارته بأيام قليلة - تصلّب مواقف الطرفين و صعوبة تراجع كل منهما عن quot;شرعيتهquot; ، شرعية الانتخابات و الدعم الدولي لدى فريق الرئيس المنقلب عليه، و quot;شرعيةquot; العسكر و الجيش و الأمر الواقع لدى القائمين على الانقلاب ومن يدعمهم من أحزاب وجمعيات.

لكن القذافي لم يتعامل حسب المحللين بما تمليه عليه مكانته في هذه الظروف، فالرجل يمثل الاتحاد الإفريقي و يعلق عليه سكان البلاد أملا في رأب الصدع بين الجانبين خصوصا و أنّ له سوابق تبدو طيبة في فضّ النزاعات الإفريقيّة.

ورغم كلّ ذلك ، ارتأى العقيد الليبي في دعم فريق العسكر محاولة quot;للقطع مع الماضي ووضع موريتانيا على سكة التنمية و الديمقراطية الحقيقيةquot;.

تقول مصادر quot;إيلافquot; من ليبيا أنّ مشاورات القذافي مع مقرّبيه في نظامه وحلفائه في إفريقيا تمحورت قبل توجهه إلى نواكشوط حول ضرورة بقائه محايدا بين كلا الطرفين مع معرفة مسبقة بأنه ليس من المنطقيّ بقاء الحالة على ماهي عليها ، فلا شرعية الانتخابات لها معنى في ظلّ الاحتقان الحاليّ و لا سياسة فرض الأمر الواقع تبدو مجدية مع من يعتبرون أنفسهم أحقّ بالحكم .

و تقول ذات المصادر لإيلاف:quot;اصطدم القذافي بواقع لم يكن يرغب فيه ولم يقرأ له الحسابات ، فقد وجد نفسه وجها لوجه إما مع الحياد و الانحياز للشرعية الانتخابية و بالتالي تفقد أفكاره و طروحاته جدواها و شرعيتها وهو ما يضعه في مأزق كبير إن حاول التمرّد على العسكر الذي تشبه تجربتهم في السيطرة على الحكم تجربة العقيد في الوصول إلى هرم السلطة في الجماهيرية ، أو دعم العسكر بكل ما أوتي من قوة فلا يتناقض مع ما يؤمن به و ينظر له وهذا ما حصل فعلا فالرجل سخر من الديمقراطية و قال إن ما حصل في موريتانيا حلقة تكرر ذاتهاquot;.

عندما حصل الانقلاب الأخير في موريتانيا لم يتمكن العقيد القذافي من ضبط موقف واضح المعالم تجاهه ، فقد رحب في البداية بالانقلاب ووعد وفدا أرسله إليه العسكر بحشد الدعم لهم عربيا و إفريقيا ، لكن سرعان ما تنازل عن موقفه هذا لما خرج الغرب الأمريكي و الأوروبي عن صمتهم و دانوا الانقلاب بأشدّ العبارات. ثم جاءت وساطته الأخيرة لتثبت انحيازه quot;لتجربتهquot; في الحكم - كما يعلق بعض المحللين للشأن الليبي - بإتاحته الفرصة للمنقلبين في الترشّح مع ما يعنيه ذلك من تحدي صارخ لدعوات القوى المدنية والديمقراطية في موريتانيا .

وبكلّ حال مازال يفصل الموريتانيين عن موعد الانتخابات المقبلة عدة اشهر ستحمل الكثير من المتغيرات ، أولها استناد العقيد الليبي للحظوة التي يملكها بين القادة الأفارقة لحشد الدعم لتلك الانتخابات و استغلال انفتاحه الأخير على الكتلة الغربية لمساندته في مشروعه تجاه quot;موريتانيا الشقيقةquot; ، وهو ما يراه المتابعين من الأمور الصعبة كون موقف الغرب لا يزال ضبابيا من طرفي النزاع و لا يبدو مستعدّا للتخلي عن نتائج الانتخابات السابقة تحت ضغط quot;الأمر الواقعquot; الذي يتبناه حاليّا العسكر والعقيد الليبي.