لا أحد يعرف كيف ستنتهي الإنتفاضة الإيرانية الحالية التي فجرتها الإنتخابات الرئاسية المطعون بها في الشهر الماضي. ولكن شيئا واحدا يبدو واضحا من الآن: ان مبدأ ولاية الفقيه ، حجر الزاوية في النظام الخميني ، قد مات. صاغ آية الله روح الله الخميني الراحل مبدأ ولاية الفقيه لتبرير الدعوى القائلة انه يستمد شرعيته من الله وانه ليس مسؤولا إلا امامه وحده. في الممارسة كان المفروض ان يعمل مبدأ ولاية الفقيه على غرار مبدأ لينين في quot;المركزية الديمقراطيةquot; خلال الايام الاولى من حكم البلاشفة. فالقضايا يمكن ان تُناقش بل ويمكن حتى المراء فيها داخل النظام ـ ولكن ما أن يعلن quot;المرشد الأعلىquot; quot;الكلمة الأخيرةquot; يكون على الجميع الامتثال.

يعلن quot;المرشد الأعلىquot; (يسمى ايضا quot;رهبرquot; ، المعادل الفارسي لكلمة quot;الفوهررquot;) القرار النهائي في خطبة خاصة. وكانت هذه الخطبة توصف بعبارة quot;فصل الخطابquot; وهي مصطلح قديم يعني غلق باب النقاش. وكل من يعارض غلق النقاش يُعد quot;مارقا يقاتل اللهquot;. وعلى امتداد ما يقرب من ثلاثين عاما عمل هذا النظام بفاعلية في ايران ، على الأقل بقدر تعلق الأمر بالنخبة الخمينية. وكان هناك حول غالبية القضايا ما يكفي من السجال لايهام أمثال زبيغنيو برجينسكي وباراك اوباما بأن الخمينية تنطوي على quot;قدر من الديمقراطيةquot; (بحسب تعبير صحيفة quot;نيويورك تايمزquot;).

تبوأ آية الله علي خامنئي ، quot;المرشد الأعلىquot; الحالي في ايران ، منصبه هذا في عام 1989 ولكنه حتى الآونة الأخيرة لم يستخدم ورقة quot;فصل الخطابquot; علنا إلا مرة واحدة ـ في عام 1991 ، لسحق تمرد طلابي في طهران. وعلى امتداد عقدين كان يصور نفسه تقيا معتكفا يتقن فن الصمت. وكانت الفكرة من ذلك تتمثل في ان الآخرين إذ يتنازعون بدوافع شخصية وحزبية فان quot;الفوهررquot; ، الذي يعيش حياة زهد منذورة للابتهال والتأمل في الذات ، لا يتدخل إلا كي يحسم السجال ويوحد أمة المؤمنين.

مع ذلك ظل مبدأ ولاية الفقيه في مركز السجال السياسي الايراني (بل كان موضع نقاش منذ استولى الملالي على السلطة في عام 1979). وكانت النخبة الخمينية تدافع عنه بدعوى ان وظيفة quot;الفوهررquot; ان يكون فوق التكتلات ويمنع الغلو ويفصل في القضايا الخلافية بما يخدم المصلحة الأوسع للأمة. من جهة أخرى كان انصار التعددية والديمقراطية ينظرون الى المبدأ على انه واجهة للاستبداد الديني.

وكما يحدث في احيان كثيرة يبدو ان الأحداث أنهت النقاش لا الحذلقات الخطابية. واصبح واضحا خلال الاسابيع القليلة الماضية ان مبدأ ولاية الفقيه لم يعد صالحا للعمل. ومنذ الانتخابات الرئاسية أقام خامنئي من فعاليات quot;فصل الخطابquot; ما يزيد على حفلات الوداع التي احياها المغني فرانك سيناترا. وكانت رسالته واحدة على الدوام: ينبغي التهليل بفوز محمود احمدي نجاد الساحق على انه quot;معجزة اسلاميةquot; وليس تزويرا مفضوحا يليق بجمهورية من جمهوريات الموز.

أظهر خامنئي بخروجه من عزلته واعلان ما أعلنه ، انه بات نافلا. فان مداخلاته بدلا من تهدئة النفوس واشاعة أجواء التوافق ، فاقمت الانقسامات وأججت نيران المعارضة ضد النظام. وغدا quot;المرشد الأعلىquot; مجرد شخصية أخرى في مسلسل سياسي ، وكل ظهور يُقدِم عليه ينال أكثر من مكانته الروحية. وفي الوقت نفسه يبدو ان عدد الذين يشكُّون في quot;الاعجاز الاسلاميquot; يتنامى يوما بعد آخر. يقول يوسفي اشكافري وهو من الملالي الذين قاتلوا في سبيل الخمينية قبل ان يصبح معارضا ويُعزل بناء على اوامر خامنئي quot;ان المرشد ربما لم يعد ذخرا للنظام. فهو خاض في الوحل الى جانب آخرين عدة ومن المستبعد ان يعود الى الظهور بكرامة تُذكرquot;.

السؤال الذي يطرحه كثيرون في طهران: لماذا تخلى خامنئي عن دوره حكَما اعلى ليغدو عصا غليظة بيد احمدي نجاد؟ ليست هناك اجابة شافية. وتذهب احدى النظريات الى ان خامنئي بتزكيته اعادة انتخاب احمدي نجاد ، فعل ذلك تحت تهديد الحرس الثوري الاسلامي. وتقول نظرية أخرى انه شعر بالارتياع إزاء احتمالات قيام quot;ثورة مخمليةquot; تهدده بأعواد المشانق أو المنفى.

في عام 2005 أيد خامنئي ضمنا ترشح قائد الشرطة السابق محمد باقر قليباف للرئاسة بدلا من دعم احمدي نجاد. وعندما فاز احمدي نجاد هنأه خامنئي بعبارات مقتضبة بل وحتى فاترة. وظن كثيرون وقتذاك ان الحرس الثوري الايراني رفع احمدي نجاد الى الرئاسة على الضد من رغبات معسكر خامنئي (كان نجل خامنئي الطموح مجتبى مدير حملة قليباف ومن المجاهرين بانتقاد احمدي نجاد). ولكن هذه المرة وقف خامنئي الى جانب احمدي نجاد ولم يخف دعمه له. وقبل عام من الانتخابات قال لأحمدي نجاد quot;اعمل وكأن لديك خمس سنوات أخرى وليس سنة واحدةquot; في اشارة واضحة الى رهانه على فوز الرئيس بولاية ثانية.

في حزيران/يونيو لم يكلف خامنئي نفسه حتى الانتظار الى أن تُعلَن نتائج الانتخابات رسميا لتهنئة احمدي نجاد على quot;انتصاره الاعجازيquot;. وعندما طعنت المعارضة في النتيجة أخذ خامنئي على عاتقه دور كبير المتحدثين باسم معسكر احمدي نجاد. وعلى امتداد اسبوع تقريبا توارى الرئيس المعاد انتخابه عن الانظار فيما كان quot;الفوهررquot; في كل مكان يقاتل من أجله. في الاسبوع الماضي تدخل خامنئي لاقناع احمدي نجاد بالعدول عن تعيين اسفنديار مشائي نائب اولا للرئيس. إذ بدا ان هذا التعيين سيؤدي الى انقسام المتشددين وإضعاف موقع احمدي نجاد في مجرى تشكيل حكومته.

من الواضح الآن ان خامنئي في بحر ثلاثة اسابيع لا أكثر ، فرط بحصيلة ثلاثة عقود من الرصيد السياسي. ورغم انه يبقى لاعبا قويا في حلبة السياسة الايرانية بفضل الموارد المالية والقدرات الأمنية المتاحة تحت تصرفه فانه لم يعد فوق الصراعات. واصبح النظام الذي يقوده دكتاتورية من الدكتاتوريات المعهودة في العالم الثالث تعتمد على العنف والرشوة للبقاء في السلطة. ومع تبدد الهالة الروحية تتبدى بصورة متزايدة حقيقة نظام وحشي يقتل المحتجين العزل في الشوارع ، حتى لانظار من هم على شاكلة بريجنسكي واوباما.

في الاسبوع الماضي وحده أوضح رئيسان ايرانيان سابقان هما علي اكبر هاشمي رفسنجاني ومحمد خاتمي ـ كلاهما من الملالي الذين لهم اصول خمينية متجذرة ـ انهما لم يعودا يؤمنان بمبدأ ولاية الفقيه. ورفض الاثنان ان يطيعا خامنئي ويعترفا بإعادة انتخاب احمدي نجاد. وقاطع الاثنان فعاليات نظمها خامنئي نفسه ايضا. كما ان مير حسين موسوي ومهدي كروبي ومحسن رضائي مير قايد ، المرشحين الثلاثة الذين هزمهم احمدي نجاد على ما يُفترض ، أوضحوا انهم لم يعودوا يؤمنون بمبدأ ولاية الفقيه وذلك برفضهم تأييد خامنئي في دعواه ان انتخابات حزيران/يونيو كانت quot;هبة من اللهquot;. واقتدى بمثالهم عشرات من الملالي الآخرين (ربما غالبية رجال الدين الشيعة في ايران) وعدد غفير من كبار المسؤولين الذين يعتقدون ان احمدي نجاد quot;سرقquot; الانتخابات.

الأهم من ذلك ان التظاهرات اليومية في طهران واثنتي عشرة مدينة كبيرة أخرى على الأقل تستمر في تحديها quot;فصل الخطابquot; الذي اعلنه خامنئي. وما زال النظام يسيطر على هذه المدن ولكن بفضل الحرس الثوري الايراني وميليشيا الباسيج الخاضعة للسلطة وليس بفضل سمعة quot;الفوهررquot; وهيبته. قبل ان تفضح الأزمة الراهنة ما يعانيه النظام الخميني من تناقضات اساسية كان يبدو ان لوظيفة quot;المرشد الأعلىquot; مبررا واحدا على الأقل هو الحيلولة دون اشتعال حرب اهلية داخل النخبة الحاكمة. وباتخاذ خامنئي الآن موقفا متحزبا على نحو واضح سقط هذا المبرر. فالنخبة الخمينية في حالة حرب اهلية وتخاطر بدفع البلد كله الى فترة من الصراع.

على امتداد ثلاثين عاما كانت ولاية الفقيه تقف حائلا دون تشكيل ائتلاف عريض من اجل الاصلاح والتغيير الحقيقيين. ولكن تصرف خامنئي المتهور تكفل بتنمية اتفاق متزايد على ان الوقت قد حان لتجاوز الخمينية في ايران بوصفها ايديولوجيا وصيغة حكم على السواء. وما زال قطاع منكمش من القاعدة الخمينية يتشبث بمبدأ ولاية الفقيه الغريب وغير الصالح للعمل. ولعل هذه هي المعجزة التي حدثت الشهر الماضي. (الترجمة خاصة بإيلاف)