عيسى مخلوف [مواليد لبنان]، شاعر وباحث وإعلامي. يقيم في باريس منذ العام 1979 وهو حائز على دكتوراه في العلوم الاجتماعيّة من جامعة السوربون. له مجموعات شعريّة وأبحاث وترجمات عن الفرنسيّة والإسبانيّة. من مؤلّفاته في الشعر: "نجمة أمام الموت أبطأت"، "عزلة الذهَب"، "عين السراب". في البحث: "بيروت أو الافتتان بالموت" [بالفرنسيّة]، "الأحلام المشرقيّة/ بورخس في متاهات ألف ليلة وليلة" (دار النهار).
الفنّ الشعري
هناك شبه إجماع اليوم أنّ ما كان يصنع مجد الثقافات القديمة وصولاً إلى الستينات من القرن العشرين، أي الشعر والأساطير والفلسفة والفنون والعلوم، أصبح اليوم شيئاً هامشياً ومهمّشاً أمام قيمة واحدة هي المال وما يستتبعها من ربح واستهلاك وابتذال.
هناك بالطبع ثورة علميّة تتمثّل في التقدّم التقني والتكنولوجي، وهي تنطوي بدون شكّ على جانب شعري، بل وتسرق في بعض المجالات وفي أحيان كثيرة وهج الشعر، وتذهب إلى الأمام في تجسيد حدسه وسحره. لكنّ هذه الثورة لا يمكن تقويمها بالفعل إلاّ من خلال النظر إلى كيفيّات استعمالها، وهي تُستَعمَل الآن، للأسف، من أجل المزيد من السيطرة والاستئثار والحروب "النظيفة"...
والحال هذه، ألا يزال الشعر، ومعه الفنون كلّها، مكاناً للحلم والعَيش؟
جميلة هي الأرض
جميلة هي الأرض.
جميلة هي السحابة المتهادية لوحدها في سماء زرقاء، كطائر ضيّع سربه وشرط طيرانه. جميلة النجوم وغريبة أنوارها الحائرة، حارسة المدى اللانهائي، تراقبك من بعيد، تعرفكَ هي وأنتَ لا تعرفها. تُرى أترأف بك لأنّك لا تدرك ما الذي ينتظرك عند العتبة، أم أنّها تدرك أنّ مصيرك ومصيرها واحد؟
جميلة هي النسمة الرحيمة في صيف الجُزُر البعيدة تلفح الجباه. جميلة هي الأمطار الرشيقة فوق الأعشاب العطشى. وجميلٌ عطر الأنثى المجهولة التي تمرّ بقربك ماضية في سبيلها.
جميلٌ لقاؤنا قبل أن يتعثَّر بالتفاصيل. يأخذُ شكلَ هلالٍ نُعَلِّقُ فوقه أحلامَنا.
جميلة هي الأرض حين تغادرها روحي وألتفت إليها كما رائد الفضاء من مركبته فأراها زرقاء مضيئة من داخل. ترفع أشرعتها البيضاء وتتقدّمني، تسبقني إلى حيث أمضي، كأنّها تدلّني على الطريق.
جميلةٌ هي الأرضُ الماضية إلى حتفها بسرورٍ نادر.
الشاهد
بعد منتصف الليل بقليل، يرتدي الميدان حلّة أخرى. يدخل طقوسه السريّة، لكن على مرأى من العيون.
من السكاكين العديدة التي يملكها الجزّار، يختار السكّين الأطوَع والأجمل. تنبري وحدها في الساحة كمسلّة وحيدة مضيئة. بوصلة المكان إلى الروح. يرفعها لتصبح قبالة عينيه. يتأمّل شفرتها، ثمّ يحاول أن يلامسها بظفره. ولشدّة ما يدنو منها، تبدو كأنّها تلهث في وجهه.
في لوحة الفنّان الهولندي رامبرانت يتدلّى العجل المذبوح بأبّهة، مصلوباً خارج الآلام والأوجاع، مسكوناً برهبة الريشة التي رسمته. أمّا في الساحة، فالعجل المهيّأ للذبح مكبّل ومطروح أرضاً. وفي لحظة محدّدة، أي حين يأتي الحبل فيلفّ عنقه ورأسه بعد أن يكون قد لفّ قوائمه وأحاط بأنحائه، يعرف أن ما من شيء عاد ينفع، لا حراك الرأس الضخم ولا القوائم الأربع، فيستسلم مكرهاً مقهوراً لسكّين الجزّار. لكن قبل أن يجزّ عنقه بثوان معدودة، يطلق صرخة مكتومة مدوّية تقول الموت وما هو أبعد من الموت. كأنّها صفّارة الرحيل تطلقها السفن الكبيرة قبل أن تغادر الشواطئ. وهي تطلقها في قلب الذين يشعرون بأنّهم لن يعودوا. لا ليست هي صرخة فحسب. إنّها، بتسمية أهل المكان، "جَعرة"، أو "جَعير". وهذه الكلمة البليغة الحاسمة يطلقونها، أحياناً، على البشر، في لحظات الغضب الأقصى.
كيف تكون شاهداً لتلك الصرخة ولا تقترب؟ من أيّ وجع قديم تطلع الصرخة ؟ وهل يستطيع الهواء أن يلوكها ويبعثرها؟ أم أنّها تظلّ جاثمة هناك في هواء ساكن لا يتحرّك؟
وما حيلتك حين يستيقظ فيك، فجأة، قتلى الثأر، أولئك الذين زيّنوا طفولتك بزينة الموت، وأطلقوا في سمائها أجراسَ الملاك الهارب، وهي، بلا ريب، أجراس حزينة ؟
كرنفال
أخذونا إلى الجبهة لكي نموت ولم نمت. الذين ماتوا منّا نصّبوهم شهداء. أمّا نحن، فلقد انكفأنا على أنفسنا وخجلنا من عودتنا إلى أهلنا أحياء.
قالوا: "لا تخجلوا من أنفسكم. انتهت معركة ولم تنته الحرب. ستكونون وقوداً لمعارك مقبلة". فحمدنا الله تعالى.
وما هي إلاّ هنيهة حتّى صرخ قائد الفرقة بصوت عال: "كلّ واحد وعُدّته المهلكة بيده". ثمّ فتح كتاباً كبيراً كان بين يديه، وجعل يقرأ: "سيسير في وسطكم رجل لابس الكتّان، وعلى جانبه دواة كاتب. سيعبر في وسط المدينة وستعبرون في المدينة وراءه وتضربون. لا تشفق أعينكم ولا تعفوا. الشيخَ والشابَّ والعذراء والطفل والنساء اقتلوا للهلاك. ابتدئوا بالرجال الشيوخ الذين أمام البيت. املأوا الدور قتلى. اخرجوا".
خرجنا. على شفاهنا ابتسامات، وفي قلوبنا غضبٌ وحنين إلى الطعن. نُطعَنُ أو نَطعن. نَقتلُ أو نُقتل. وصار لكلّ منّا شبه شكل إنسان وتحته الشكل الكاسر الذي اتّخذناه للتّو عندما اشتعلت في دواخلنا روحُ الحيوان.
سمعنا صوتاً يقول: "نحن اللحم، فتقدّموا". تقدّمنا.
وفي وسطنا "الرجُل اللابس الكتّان الذي الدواة على جانبه".
تقدّمنا. ترنّمت الأرض بخطانا. استبدّت بنا الحماسة. والفضاء ملأناه بالأناشيد. وإذا بيننا رجُل يبكي. فسأله القائد عن سبب بكائه، فقال: "لقد تأخّر الموكب وما عدتُ أحتمل الصبر".
قالوا لنا أن نقتلهم ونقطّع أوصالهم. كذلك قيل لأعدائنا أن يقتلونا ويقطّعوا أوصالنا. قالوا لنا أن نبيدهم. كذلك قيل لأعدائنا أن يبيدونا. وبتنا ليلنا الذي سبق ذهابنا إلى المذبحة ونحن نشعر بفرح عظيم.
ما كنّا نظنّه رملاً وسراباً، صار جيوشاً تتقدّم نحونا. ووجدنا أنفسنا، فجأة، نخوض معركة بالسلاح الأبيض. نطعنهم ويطعنوننا. نتبادل القبلات والشهادة على مقربة منّا، ندركها حيناً وتفوتنا حيناً آخر. كانت دماؤنا تسيل ونضحك من دمائنا. كانت عيوننا تُسحب من عيوننا. وكنّا نعرف ونحن نحارب، أنّ الأقمار الصناعيّة تلاحقنا وتنقل هذا الصليل كلّه. وكنّا على يقين من أنّ الجالسين أمام الشاشة الصغيرة ينتظرون منّا الكثير، وينبغي ألاّ نخذلهم، فلا نترك رأساً إلاّ ونحصده، ولا ذراعاً إلاّ ونقطعها من أصلها. وننعم النظر في الجرح بنشوة من ينتشي. وحين تشتدّ حميّة الكرنفال ويصير وقع الحديد على الحديد محرّضاً على الرقص، نرقص حتّى تخور قوانا ونسقط فوق الجثث المشبعة بالعراك. وحين لا يعود ثمّة من نقتله، نبحث في أجساد المقتولين عن بقعة لحم حيّ. نرفع الخراب إلى شفاهنا نشرب نخب الخراب. نُشيد ممالك الجرح والإعصار.
نستبدل المعادلة: نكون أو لا نكون تلك هي المسألة، بمعادلة أخرى: نكون أو لا نكون تلك هي المهزلة.
نتقدّم. كان الخوف الأكبر هو الذي يحمينا من الخوف. كانت رؤية أجسادهم تتحلّل هي التي تمنحنا مناعة ضدّ التحلّل. نقتلهم ونتساءل ما إذا كانت أجسادهم تتّسع لموتنا الكثير. ثمّ نرتدي قمصان الموتى كأنّما هي طريقنا الأجمل إلى الموت.
تنتهي المعركة ولا ينتهي العراك.
طالما أنّ الأنثى تُنجب لا ينتهي العراك.
طالما أنّ الأنثى تنجب نبتكر وسائل جديدة للقتل، أجملها يسجّل صراخ الضحيّة.
أخذونا إلى الجبهة لكي نموت ولم نمُت. طعنونا طعنتَين، ثلاثاً. هاموا بنا. ثمّ أرجعونا إلى أرحام أمّهاتنا.
وَصَلَنا، في ما بعد، أنّ حبيباتٍ يعتمرن قبّعات بكين علينا حتّى لانَ الحجر.
الحلم
[ مقطع ]
لم أحلم قبل اليوم مثل هذا الحلم. وقفنا جنباً إلى جنب ننظر إلى لهيب الشموع المتصاعد أمامنا. دنونا أكثر، وأمسكنا شمعة واحدة. أشعلناها معاً، ثمّ زرعناها بين بقيّة الشموع، وقلتِ: "ليتمنَّ كلّ منّا أمنية في قلبه". وأطبقتِ جفنيكِ للحظات، كأنّما لتؤكّدي أمنيتكِ فتنحفر فيكِ وتستقرّ. وسرعان ما فتحتِ عينيكِ فالتمعتا، بل، ولفرط صفائهما أمام أنوار الشموع المتلألئة، لاحت لي الدمعة المحبوسة داخل العين وقد ضاعفَت من جمالها. لكنّي تنبّهتُ فجأة إلى أنّكِ عارية واستغربتُ كيف لم ألحظ ذلك من قبل. كنتِ عارية تماماً. ليس عريكِ الذي أشتهيه، بل عرياً آخر أجهله فيكِ. عرياً غريباً وموجعاً. كنتِ عارية كجسد المسيح. مجروحة ومستسلمة للنظرة التي تحطّ عليكِ، وهي طعنته الأخيرة. وتلك الابتسامة، ابتسامتكِ التي تضيء الظلام، صارت ندوباً تملأ الهواء.
الذي يمضي
[ نصّ غير منشور خاص بإيلاف]
الذي يمضي، لنتركه يمضي. كالنهر لا نحرفه عن مجراه. كالغيمة السارحة. الذي يمضي حتّى لو عاد إلينا فهو لن يعود. لأنّه من جهة الغياب عائد. يلوِّح به كلّ لحظة، بعدما كان الغياب، في الماضي، سرّاً مختبئاً وراء إشراق وجهه الحبيب.
يمضي الوجه ويبقى جماله. ينطفىء المصباح ويبقى نوره.
الذي يمضي لنتركه يمضي. لا نتعقّب أثره ولا نناديه. ولا نتحسّر على عدم قولنا له الكلمة الأخيرة.
ولِمَ الانتظار وهو أصبح خارج انتظارنا له. حُرّاً، طليقاً؟
خارج الانتظار، لا يعود من حاجة إلى الآخر الذي نفرغ منه كمن يطبق كتاباً وينام. ثمّ حين نصحو نرى الوقت الذي لا يُرى. نراه يعبر من أمامنا ومعه أجسادنا جميعاً. مطعونةٌ هي تلك الأجساد ولا تسيل منها الدماء.
الذي يمضي لنتركه يمضي.
تلك الظهيرة، وقفتِ على شاطئ البحر. أرخيتِ رأسكِ إلى الوراء والتفتِّ إلى أعلى حيث تحوم النوارس. ذلك النورس بالذات، وكان يحاول الاقتراب منكِ. يقترب ويصيح ولا يجرؤ على الاقتراب أكثر. كأنّه لا يجرؤ على اختراق حدود غير مرئيّة. وأنتِ جامدة في موضعِك. كنتِ تصرّين في وقفتك على معرفة ما يريد إيصاله لكِ. على علوّ منخفض يطير مترنّحاً منسكباً، ثمّ فجأة يجمد في مكانه، فوق رأسكِ تماماً، ومنقاره مصوَّب نحوكِ.
بعد أن أطلتِ التحديق فيه، تلتفتين إليّ وتقولين: "الطير الذي في عليائه هو أنتَ. لكن لماذا لا تتقدّم؟ لماذا تنظر إليّ كأنّكَ لا تعرفني. تشتهيني من بعيد كمن يشتهي امرأة غيره. تَقدَّم. تَعال وخُذني"...
من يمضي لنتركه يمضي ولا نتعقّب أثره. من الآن فصاعداً سيكون بلا أثر. خفيفاً كالهواء. الذي يمضي لا يعرف أنّه يمضي. يسير على الدرب ذاتها التي جاء منها.
لنتركه يذهب من يريد أن يذهب. نلتفت إليه محفوراً في داخلنا. نَضِراً كما كان يوم كان. نلتفت إلى الداخل نجد فيه ما لا يجده هو في نفسه.
الذي يمضي لنتركه يمضي بسلام.