لقد قرأت مسودة الدستور أيها الصديق أنور، و أشكرك على إرسالها إلى بريدي الإلكتروني، و قبل أن أخوض في إبداء بعض الملاحظات عليها، أودُّ أن أسجِّل عتابا عليك، إذْ قرأت نبأ، أو شبه مقال حولها في السياسة الكويتية، و في سياق النبأ هناك معلومة تفيد بِ أنكَ استشرتَ منظمات أهلية و مدنية و شخصيات سياسية مستقلة
و مثقفين...إلخ، و هنا عتبي عليك لأنك لم تتصل بي و لم تستشرني في هذا الموضوع المصيري، علما بِ أنني كنتُ قد غيَّرتُ مواد كثيرة من الدستور في مقالة نُشِرَت في موقع إيلاف المحترم في شهر أيلول من /2004/
بعنوان" سوريا تقرِّر عام 2007 "، و لِ حُسْنِ الحظ أن المواد التي كنتُ قد غيَّرتُها من الدستور، قمتَ بتغييرها أنت أيضا، طبعا هذا مؤشِّر على أننا متفقان في المبدأ الأساس، ألا و هو الديمقراطية و مبادىء حقوق الإنسان و المجتمع المدني و العلماني، لكن هذا الاتفاق لا يمنع من أن نختلف في بعض الأمور و المسائل الجانبية، مع الإقرار على نبْل الاختلاف الذي يحصل بين جماعات المجتمع المدني و طلاب الحرية و الديمقراطية.
بِ الاعتماد على مدخل المسودة ( لماذا الدستور )، و على الأسباب الموجبة لذلك، و التي تتمثَّل في الرؤية المستقبلية كما يقول العزيز أنور:" و قد استشرفتُ في رؤيتي للدستور الجديد ليس ما نعيشه اليوم بل ما نطمح أن نكونه في المستقبل، فأرجو قراءته من رؤية مستقبلية..."، و بناءاً على الرؤية المستقبلية، فأنا لا أجد المبرِّر في إملاء فراغ مصطنع بين الجمل بِ الكلام حول قومية دون أخرى، فَ بعد تبيان الفشل الذريع للمجتمع السوري بشعاراته الأساسية، الوحدة و الحرية و الاشتراكية، كان يفترض أن ينتهي الكلام هنا، إلاَّ أن العزيز أنور ملأ فراغا بِ الحديث عن الوحدة الوطنية ( هذا الشعار البعثي الذي ظلَّ النظام يلطمه في وجوهنا طيلة حكمه الاستبدادي ) لِ يحشر مسألة خلافية بين السوريين في حقل القمع و التمييز و الحرمان، إذْ جاء في نفس الصفحة كما يلي:" و لا الوحدة الوطنية سليمة فَ الاحتقانات زادت في المجتمع بكلِّ فئاته و قومياته و طوائفه و الأكراد السوريين عانوا من قمع و تمييز من حرمانهم من جنسيتهم السورية و حرمانهم من أراضيهم و منعوا من استعمال لغتهم و ثقافتهم و استعملوا وقودا في سياسة السلطات في اللعبة الدولية و الإقليمية".
ليكن معلوما و واضحا لِ مَن لا يعرف الحقيقة في محافظة الحسكة بالذات، أن القمع و التمييز و حرمان الجنسية و الأراضي لم يكن مقتصرا على الأكراد دون سواهم، مع إقراري بِ تفوُّق عدد الأكراد المحرومين من الجنسية السورية على غيرهم من القوميات الأخرى خلال العقود الثلاثة الماضية، أما من ناحية القمع و التمييز و الحرمان، فَ الآثوريون هم- إلى يومنا هذا- في نظر السلطة معادون و انفصاليون، و هم في عداد المشبوه بهم وطنيا، و هم مدانون تحت الطلب، و الآثوريون تم اعتقالهم و زجهم في السجون لِ أسباب سياسية، و حتى عندما اضطروا، في تسعينات من القرن المنصرم، لِ جَلْبِ مياه الشرب بواسطة صهاريج إلى قرى الخابور، و شرائهم الماء بِ الرغم من أنهم يسكنون على ضفاف نهر الخابور!! قامت السلطات باعتقالهم و زجِّهم في السجون و دون أن يدافع أحدا عنهم، أو أن يتحدَّث في قضيتهم العادلة و الظلم و التمييز الذي لحق بهم، و القمع الممارس ضدهم، كما هناك أرمن و سريان أيضا محرومين من الجنسية السورية، أما القول بِ حرمانهم ( الأكراد ) من أراضيهم، فَ هذا الكلام بحاجة لتوضيح من قِبَل كلّ المعنيين، فَ هل يعني أن الدولة تحرمهم من ممتلكاتهم من الأراضي، أم أنها لم تعطِهم أراضٍ من أملاك الدولة؟، أنا أعتقد أن الدولة لم تصادر أو تؤمِّم أو تجرِّد المواطنين من ممتلكاتهم و عقاراتهم و أراضيهم ( ملكهم بَيْعَاً و شراءً ) بعد مأساة التأميم الظالم، فَ هل المقصود أن أراضي الدولة هي أراضيهم؟ الدولة حين قامت بِ تجريد المواطنين من ممتلكاتهم و منشآتهم و أراضيهم الزراعية، فعلت ذلك ضد الأرمني و السرياني و الكردي و العربي، أمَّا في مسألة الجنسية، فَ هناك إشكالية وطنية حقيقية حولها، و يجب أن تنتهي هذه المسألة لِ صالح المواطن و المواطنة السورية، و يجب ألاَّ يُحْرَم السوري من جنسية وطنه النهائي- سوريا -.
لقد تحدثتُ هاتفيا مع المحامي أنور، صاحب المبادرة، حول المادة السادسة من الفصل الأول و التي تنصُّ على:" اللغة الأساسية الأولى للدولة هي اللغة العربية و اللغة الكردية هي لغة ثانية و يراعى حق الأقليات الأخرى بالتكلم و تعلم لغاتهم و ثقافتهم القومية"
عندما سألته لماذا اللغة الكردية هي الثانية، أجاب لأنهم يشكلون أكبر أقلية في البلاد، و أعطى نسبة تتراوح بين 10- 15% من تعداد سكان سوريا!! و طلبتُ منه أن يوضح لي ماذا يعني أن اللغة الكردية هي الثانية، و هل سيتم التداول بها في مؤسسات و دوائر الدولة في محافظة الحسكة مثلا. كان جوابه: لا ليس هكذا، إنما في مدارسهم و منتدياتهم الثقافية و التعليمية...إلخ. إذا كانت المسألة هكذا، فَ لا تحتاج إلى مادة في الدستور، و كان يكتفى بِ التالي:" اللغة الأساسية للدولة هي اللغة العربية، و يحقُّ لِ القوميات الأخرى بِ التكلم و تعلم و تعليم لغاتهم و ثقافتهم القومية"
كنت أتمنى من المحامي أنور أن يستشير أكبر عدد من الشخصيات السياسية و الثقافية، و من مختلف الانتماءات القومية و الدينية، و أن يستشير المنظمات و الأحزاب الكردية و غير الكردية في المحافظة ( الحسكة )، و لو فعل ذلك، لَ ما اضطر لِ الحديث عن الأكراد دون سواهم في مسودة الدستور، و لَ ما قال لي بأنهم يشكلون تلك النسبة المئوية من سكان سورية، لأن المسألة ليست كذلك، فَ النسبة مبالغ فيها لأسباب سياسية، فَ هم لا يشكلون أكثر من 9- 10% من مجموع سكان البلاد، و بِ المقابل مَن قال بأن السريان ( بمختلف تسمياتهم ) لا يشكلون نسبة 20- 25% من مجموع سكان سوريا؟؟ فَ لماذا لا تكون اللغة السريانية هي اللغة الثانية في البلاد؟؟!!
أنا أرى أنْ لا حاجة لِ إضافة أيَّة عبارة أخرى مع المادة السادسة توحي بِ هيمنة أقلية على أخرى، و أكثر من ذلك، فأنا أدعو إلى ترحيل مصطلح الأقلية و الأكثرية من التداول في سوريا لأننا في طور التأسيس لِ دولة المواطنة و حقوق الإنسان، و ليس لِ دولة الأقليات و القبليات و العشائر؛ فَ هناك حقٌ مقدَّس لكلِّ الثقافات و الانتماءات الإثنية في ممارسة طقوسها و شعائرها و ثقافتها بِ لغاتها الخاصة، و لها الحق المطلق و المقدَّس في بناء مدارس و معاهد و جامعات و إذاعات و فضائيات خاصة تعلِّم و تذيع بِ لغاتها الخاصة
( السريانية، الكردية، الأرمنية، التركمانية، الجركسية...إلخ )، فَ الدستور يجب أن يكفل حقّ السوريين ذوي الانتماءات المختلفة عن الانتماء العربي في تعليم و تعلم لغاتهم و فولكلورهم و أدبهم و فنونهم بِ حرية مطلقة.
و في مسائل أخرى أودُّ أن يحتوي الدستور على ما يلي:
حقُّ العائلات في تسجيل الولادات في سجل الأحوال المدنية دون السؤال عن الدين و القومية، و يكتفى بِ الانتماء السوري فقط. إن لِ هذه المادة ضرورة جوهرية في الدستور ( الأمل )، إذْ من شأنها أن تكون الرحم الجامع لأجنَّةٍ تنتمي إلى الإنسانية بكلِّ مكوناتها اللطيفة، الخيِّرة، الجميلة. من شأنها أن تكون الحضن الدافىء و الحنون لِ مختلف الانتماءات، الحضن الذي سَ يلقمنا أو بِ الأحرى سيلقم أحفاد أحفادنا الثدي الكوني المليء بِ الحليب المبستر الصافي النقي الخالي من الشوائب و الجراثيم و الطفيليات و الميكروبات، الحليب الذي سَ يؤاخي بين الجميع في الانتماء الإنساني الواحد الوحيد، و بالطبع ستكون حياتهم أغنى و أحلى و أجمل مع المنكِّهات اللطيفة الجميلة، و الألوان الزاهية، ألا و هي الانتماءات المتفردة لثقافات متفردة و مختلفة تتراقص و تتمايل و تتحاور و تتزاوج بكلِّ ودٍّ و حُبٍّ و سلام، هذه المادة كفيلة بِ أن تقدِّم للبشرية إنسانا جميلا زاهيا مزركشا بِ ألوان قوس قزح، إنسانا كونيا بكل ما تعني هذه الكلمة من معنى، إنسانا مصنوعا من الحُبِّ و الخير و السلام، إنسانا عابرا للحدود و القارات و الولاءات العصابية، إنسانا يقدِّم الجميل، لا بل الأجمل، من ثقافة قومه المتفرِّد، إنسانا يساهم في بناء ثقافة إنسانية خالية من الحقد و الكراهية و العنصرية و الغطرسة و العنف، إن هذه المادة كفيلة في نهاية المطاف بِ أن تقدِّم للبشرية مجتمعا نموذجا من التآخي و التلاقح و التزاوج بين مختلف البلابل و الأزهار و الأشعار، إنه المجتمع السوري، جمهورية سوريا الغد، سوريا التي سيكون فيها الأب أرمنيَّاً و الأم كردية، الأب كرديا و الأم سريانية، الأب سريانيا و الأم كردية أو أرمنية...إلخ
و لكم أن تتصوَّروا ذاك المجتمع الكوني الراقي الذي تصدح فيه موسيقا اللغات و الأغنيات و القصص و الأشعار، ذاك المجتمع الذي يكون فيه الأرمني و السرياني و الجركسي و العربي و الكردي و الآشوري و المحلَّمي و اليزيدي و التركماني، كلهم أنسباء بعضهم بعضا.
هل هذا حلم أم جنون أم هو ارتعاشات الشعر بين أحضان جولييت و زِين ( ممو زِين ) و تامار و شميرام؟؟
بل إنه حلم و جنون و ارتعاشات شعرية في أحضان الحبيبة السورية عشتار أمُّ العرائس السوريات.
و أيضا أودُّ أن يتضمَّن الدستور موادا تنصُّ على:
- يُحاكم أمام القانون كل من يحرِّض على الحقد و الكراهية و القتل.
- يُمنع طباعة و نشر و توزيع الفكر العنصري التفوُّقي الداعي إلى إلغاء الآخر ماديا و معنويا.
- يُمنع تشكيل أحزاب دينية و طائفية و قومية.
- حرية تغيير المعتقد و الدين.
- فصل الدين عن السياسة و الدولة و الأخلاق، و بالاتصال مع هذه المادة، يجب أن تُلغى مادة التربية الدينية من مدارس سوريا، و أن تُدَرَّس بدلا عنها مادة تعلِّم مبادىء حقوق الإنسان، و أيضا يجب حجب الأثير الإعلامي الرسمي عن الأنشطة و البرامج الدينية.
أرجو أن يتم الحوار بِ مسؤولية عالية حول جميع القضايا التي طُرِحَت في مسودة الدستور، كما أرجو أن نبتعد عن الاتهامات الجاهزة بِ حَقِّ بعضنا لِ مجرَّد الاختلاف في الرؤية أو التحليل أو النتائج.
سوريا* فهان كيراكوس* 30/09/005
[email protected]