.. ليس غريباً أن نردد: quot; الشرائع التي لا تطوّر فنون أدائها تستنسخ quot;. فكل موجود، من أفكار و أنظمة، في ظل دينامكية الحضارة المعاصرة مهدد بالنسخ و التجاوز. و هو ما عُدنا لنتحدّث عنه مؤخراً و بغير قليلٍ من الخوف تحت عناوين مفاوضة كـ: الشرعيّة، و مصادر السلطات، و الدولة الحديثة.

و بدا لنا أن الواقع الراهن معرّض أكثر من ذي قبل لمفاجآت كاشفة و فاضحة تقعُ كلها في دائرة quot; الوعي quot; و متعلّقاته من إدراك، و لو متأخّرٍ، لمكاننا كمجتمع عربي في الجغرافية السياسية و الثقافية العالمية. و ها نحنُ نشهدُ تباعاً سقوط و تلاشي الظواهر الصوتيّة التي مثّلت لنا لفترة من الزمان القيمة المعيارية الحاكمة لأنساقنا الأخلاقية و العقيدية من quot; الشعب المجيد quot; إلى quot; الفرد المجيد quot; و ظهور، بدلاً من ذلك كله، حقيقة الشعب الفقير و الأمي، و الرجل المريض البارانويا..

كل هذا يحدث في ظل، و تحت تأثير، الأنهار المعلوماتية الواسعة التي تجري من تحت أقدامنا و بين أعيننا. واقعٌ صنعته المعرفة والآلة الإعلامية اقتضى حتمية تشكيل إدراكات غير مسبوقة فيما يخص علاقة المواطن العرب بالإنسان العالمي، ثقافةً و سلوكاً و تصوّراً.. هذا الواقع الجديد و المناهض كان انتخاباً خارجيّاً صرفاً لم نملك حياله حريّة الاختيار و الرفض. لقد وجدنا أنفسنا، نحنُ العرب و المسلمين، ضمن مجموعة شبيهة من مجموعة دول العالم الثالث نمثّلُ حشواً زائداً عن الحاجة المنطقية في منظمة الأمم المتّحدة، و كان علينا ndash; كما هو الاقتضاء الحضاري ndash; أن ننشط ذاكرتنا العربية القديمة القائلة: اُنجُ سعد فقد هلك سعيد.

إن المجتمع العربي يدخلُ، و لو على شكل تسريبٍ خفي، إلى دائرة المجتمع العالمي و سيخضع، بالتالي، لكل متغيّرات و قواعد هذا المجتمع من تأثّر و تأثير. و تحت واقعية و جدّيّة هذا الإنتماء الحتمي الجديد، و الانتخاب الخارجي المفضي إليه، سيكون ثمّ دواعٍ حضارية لعملية انتخاب داخلية تستجيب لمتطلبات المجتمع العالمي كلّها وفقاً لاشتراطات التعايش الأممي و التزاماتها، و لئلا ندخل كمجتمعات، كما دخلت أنساقنا الثقافية، طور النسخ و التجاوز التام.

و تحتَ هذه الحاجة الحضارية الملحّة لن يكون هناك مكان لعمليات قراصنة الاستخبارات الذين يظهرون بملابس الفايكنجس بنسخ عربية مملّة، لا ينتمون إلى العالم المعاصر بغير أجسادهم و حسب، و على هذا الإنتماء العالمي أن يمثل حالة واقية ضد تسرّب مثل هذه العفونات القديمة و الضارة إلى الواقع المتخيّل حاليّاً. و مع ما لهذه التحوّلات من حاجة فإنّ حراسة عمليات التحوّل هذه تمثّل، هي الأخرى، حاجة و حتمية لا تقل أهميّة عن عمليات التحوّل ذاتها. و لأن المجتمع الذي يحاولُ الفرار من غوريللا النسخ الحضاري سيتركُ، حتماً، خلفه النظام العربي الحالي يابساً و وحيداً فإنّ مما لا شك فيه أنّ هذا الغريق العربي ( النظام ) لن يدع للناجين فرصة للإفلات منه، أو الهروب بأجسادهم. و تحت هذا الهاجس علينا أن نطالب المجتمع الدولي بحماية عمليات التحوّلات العربية نحو الحرية و المجتمع العالمي و أن نستعد كلّنا لدفع الضريبة العاجلة لمثل هذا التحوّل الوشيك، و هي الضريبة التي يدفعها الآن الكثيرون من المثقفين العرب لن يكون آخرهم شهيد الاستقلال quot; جبران تويني quot;. و ليس بعيداً عن هذا الهاجس ما نقرأه من أن نظام quot; سوريا quot; الاستبدادي الراهن اعتقل quot; كمال اللبواني quot; مؤسس التجمع الليبرالي الديموقراطي، في مطار دمشق، و بكل صلف و ماضويّة فاضحة و انشداد جذري إلى عصرٍ تسيّدت فيه إدارة سجن quot; المزّة quot; الحس القومي رفعت السلطات على اللبواني تهمة ( النيل من هيبة الدولة و نقل معلومات إلى الخارج من شأنها إضعاف الشعور القومي و إثارة مشاعر طائفيّة ). إن هذا الخطاب الرعوي القديم لم يعُد ينتمي إلى عصر يعاني فيه مفهوم الدولة نفسه من احتمالية التفكيك لمصلحة الشركة متعددة الجنسيات، و المنظمة المدنية. و أمامنا الآن ndash; كشعوب تائقة إلى الانعتاق الحضاري - خيارات لا تقبل المساومة مع ذواتنا و لا مع الآخرين و لا مكان فيها للمهاودة أو التأنّي. المطالبة بمحكمة جنايات دولية و الضغط على الأنظمة الراهنة لتغيير الدساتير التي انتهت فترة صلاحيتها الشرعية، و المنتهية أصلاً منذ التأسيس. و أن يتم هذا التغيير من خلال جمعيات وطنيّة تنتظم الطيف المدني و السياسي بكل تقاسيمه. و أن لا نتوقّف عند هذا و حسب، بل علينا التلويح ndash; خطاباً وممارسةً ndash; باستعدادنا لتدويل كل حادثة تنتهك فيها الأجهزة الأمنية حقوق الإنسان و تصادرُ فيه الدولة حريّة الاختيار و الإرادة. و لا يمكن أن يبتزنا أحد بجنحة التدويل، في حين نعيش كلّنا تحت طائلة عاملة تدويل تبتدئُ من إيماننا بمقررات مجلس الأمن و الجمعية العموميّة و احترامنا لها.. و لا تنتهي عند التزامنا بكل ما يصدر عن المنظمات الدولية من تقارير فيما يخص أوضاعنا الداخلية و اشتراطات تحسينها، و لا أعني البنك الدولي و صندوق النقد الدولي و حسب.

لم يعُد بالإمكان أن نتصافّ على شكل رجالٍ مؤمنين بالقضاء و القدر لنعدّ أنفاس القتلى و نوافذ دواوين العزاء. فما تشهده الساحة اللبنانية ndash; كحالة مثال على طقوس مترو التغيير في الوطن العربي - من تفجير لحالة quot; الوطن quot; و تفخيخ لميراث الجغرافيا على أيدي لاعبين خارجيين هدفهم الأول تخفيف حالة الضغط و التوتر الدولي القائم في العراق و الانتقال إلى المربع ( 2 ) من حربٍ باردة في أرض العراق بين أطراف دولية أكبر من الزرقاوي و أعنف من جيش بدر.. و لم يعُد بالإمكان التغافل عن تسميتها بهذا الإسم الواقعي. إنّها حالة جديدة و غير متوقّعة أن تفتتح القوى الدولية المتصارعة بلداً على مصراعيه لكي تصفي حساباتها الوسخة فوق أجساد و أقوات سكّان هذا البلد، و ما كان لبلد أن يفتح بهذا الشكل ما لم تكن الأنظمة المرهقة و المريضة قد مثّلت حالة quot; نوافذ واسعة و مغرية quot; جعلت من الوطن نسيجاً هرئاً قابلاً للانهيار بهذا الشكل المفجع. و، لبنانيّاً، حتى إذا ما كانت يد النظام السوري و أجهزته الامنية مبرّأةً مما يحدثُ في لبنان، و هو أمر مستبعدٌ من الناحية النظرية، فإن ما يحدث هناك هو قتل على شرط النظام العربي.. و بالتحديد: قتل على شرط النظام السوري. حيثُ جرت العادة أن يقوم النظام العربي بتصفية خصومه بنظام المصارع الخفي، من الحقنة السامة إلى السيارة المفخّخة. و ما يحدثُ الآن لمعارضي النظام العربي السوري في لبنان ليس إلا تصفية لهؤلاء الخصوم وفقاً لرؤية النظام السوري في التعامل مع الخصم السياسي حتى و إن كان الجانب السوري بريئاً من ذلك، وفقاً لأكثر القراءات الأكثر قوميّة و إيماناً بوهم المؤامرة. إنّ أمامنا فرصة تاريخية للتحوّل إلى مجتمع الاستقلال و الحريّة تتهددها فرصة محدَقة بالموت شرفاً كما يفعل quot; تويني الآن quot;.. و الأمران أحلاهما حلو.

د. مروان الغفوري

أديب و كاتب يمني مقيم في القاهرة

[email protected]