وقف عبد الله البردّوني أمام برودة الطقس النبوي، و هو إمام غزل rdquo; النبوءة rdquo; اليماني، ليخاطب الرسول الكريم: ( نحن، اليمانين، يا طه..) و هو، ربما، يعلمُ بحسّه الشعري و القومي أن هذا التخصيص سيجعله في مرمى النبال ( اليَمِينيّة الجديدة) التي تحتكر السماء تحت ذرائع لا حصر لها. كان متوقّعاً، نتيجة لذلك، أن يجرح أحدُهم (..) يمانيتَنا بانفعالٍ لم يخرج عقب قراءته للقصيدة عن: أعوذُ بالله منه و من قوميّته. لنقول نحنُ، و في ذكريّات عدّة، قُم أيها البردّوني، فنحنُ بحاجة طارئة إلى إحساسك القومي بالغ الدفء لنغسل أرجلنا من وعثاء الطريق، و كآبة العصر.

هكذا، نحنُ اليمانين، و بعيداً عن المزايدات المعاصرة عن الوطن و الانتماء، تجري في دمانا رائحةُ الأرض،وتنبعُ من بين أصابعنا ndash; أينَ اتجهنا ndash; عناوين الأمكنة الأولى و الهوى البكر. أخبرني صديقي، و هو شاعر سوري، أن أباه الذي يعمل في سلك التدريس في دولة خليجية كان يفاجأ حين يقف طالب الابتدائية ndash; من أصول يمانية - ليذكر مثالاً عن ( الفعل و المفعول به ) بدليلٍ موحّد، يشترك فيه عموم الأطفال من ذوي الأصول اليمانية: أحب اليمن. رغم علم هذا المدرّس أن الطفل الصغير، طالب الابتدائية، الذي يحمل هو و أسرته جنسية الدولة التي يقيمون فيها، لم يسبق له أن زار بلده الأم أو رأى ترابها ndash; ذلك التراب الذي وصفه (سيف بن ذي يزن) أمام ملك الفرس بأنه ( الذهب في حقيقته ) في إشارة مجازيّة تعكسُ حالة من التوحّد عصيّة على التفسير بين هذه الأرض و هذا الإنسان اليماني..

و إذا كانت اللغة تعرّف الوطن بأنه rdquo; الإقامة في مكان rdquo; و أنّ فعله ( توطّن ) يعني: نزلَ و أقام في أرض ٍما، فإن هذه اللغة تنزاح بعيداً أمام تلقٍ جواني يماني يجعل من الوطن نظيراً للهوى و التوحّد ؛ و هي الرؤية التي شكّلتها النوستالجيا اليمانية الدائمة و الانشداد الحتمي إلى ( الذهب الحقيقي )، كمحاولة طاعنة في القدم لوقف حالة النزيف الجغرافي و خلق انتماء جديد يجايلُ هذا الإنسان المهاجر في الأرض بعيداً عن مرآة قلبه ( اليمن ) حتى أنّه لم يفتأ يكون ( حنينه دوماً لأول منزلِ ).

و أحسبُ أنّه من المهم أن نفرّق، هنا، بين وضعين من النوستالجيا ( الحنين ) العربيّة إلى المنازل و الديار ( و هو التعبير العطْفي العريض الذي اتخذه أبو الحزن الشرقي، أسامة بن منقذ، كعنوان لأشهر مؤلّفاته).فمن المعروف أن منطقة شبه الجزيرة العربية، باستثناء اليمن، عاشت مواطنةً مائعةً، و هي ما يمكن أن أسمّيَها بمواطنة الكلإ و المرعى، أو اللذة و الألم. كما أنّ الجنسيّة الفعلية التي كان العربيّ القديم يحملها لم تكن وطناً بالمعنى الحضاري المديني المتعارف عليه حتى في ثقافة العرب أنفسهم، بل كانت شكلاً من أشكال صلات القربى و رابطة الدم. بمعنى أن الانتماء العربي كان سلاليّاً و لم يكن جغرافيّاً ndash; مدينيّاً ( تأزم العرب السياسي، الأنصاري ). و ربما أمكن من خلال هذه الإضاءة أن نلتفت بشكل أكثر وضوحاً إلى حقائق تاريخية لافتة، و أن نأخذها ضمن سياق التفسير السوسيولوجي، لفهم نماذج الثقافة العربية القديمة مثل: طرد و إبعاد أفراد من القبيلة العربية لسبب أو لآخر، و البكاء الدائم على الأطلال، و حتى فلسفة الحرب ذاتها لدى العربي المحارب و الفارس. و هي كلها واقعيّات تدخل ضمن المفهوم العربي البدائي للوطن، و نظيره اليمني المتحضّر.

فلم يكن لدى العربي القديم ( غير اليماني ) مفهوم واضح لمعنى الوطن، فهو يجدُ نفسه شريداً مفرداً إفراد البعير المعبّد، على حد تعبير طرفة بن العبد، فيما إذا تنازلت عنه القبيلة و ألغت انتماءه إليها ( أي في حال نزع الجنسية عنه و هي انتماؤه للقبيلة سلاليّاً ). و إذا استعرنا تعبيراً معاصراً سائداً لقلنا: عاش المطرودون العرب صعاليكَ ( بدون ) و تحوّل الكثيرون منهم إلى حالة عدميّة شبيهة بالمجمتع البائد، أو الهامشي.

و لأن شكل الترابط القدسي السائد، آنئذٍ، لم يكن يتجاوز rdquo; القرابة rdquo; فإن هذا الشكل النهائي لغالبية المجتمعات العربية تجسّد بفعل الحاجة الحتميّة و نتيجةً لسيادة اشتراطات الترحال و الاغتراب المستمر بحثاً عن الكلإ و المرعى. بإمكاننا، أيضاً، أن نقترب من جوهر الأداء الشعري العربي المواكب لهذه الحالة الاجتماعية في اجتراره الدائم للأطلال و الرسم الدارس، و أن نقاربه بشكلٍ أكثر تعاطفاً، و اعتباره مجلّىً من مُجلات ( أشكال ) النوستالجيا إلى حاضر ( وطن ).

الحالُ لم يكن كذلك لدى الوعي اليماني بفهومٍ حضارية مثل: الوطن، و الانتماء. فعلى العكس من الوضع المشار إليه أعلاه، عرف المجتمع اليماني الشكل المدني بشقّيه ( التجاري و الزراعي ) منذ آلاف السنين. و عرفنا شكلاً من أشكال الترابطات العليا في المجتمع، على مستوى الدولة، يتجاوز المملكة إلى الامبراطوريّة، تلك التي تذكر كتبُ التاريخ أنها كانت تبني تجمّعات سكّانيّة ( مستوطنات ) في مناطق تختارها من أراض الدول الكبرى المجايلة لها ( الروم و الفرس ).

نجدُ، بالإضافة، إشارات قاطعة ترسمُ شكل المجتمع الحضاري اليمني في موروثنا الإسلامي، قرآناً وسنّة.. فالرسول الكريم يقول قُبيل معركة الخندق (.. فرأيتُ قصور صنعاء ) و قبل ذلك يتحدّث القرآن الكريم عن ( إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد ) و إرم هي المنطقة الواقعة في المكان الذي أطلق عليه سابقاً ( عُبار) و هي مناطق شرق اليمن، بعد أن أبيدت الحضارة اليمانيّة التي شيدت فيها. و بالمصادفة البحتة: فهي ذات المناطق التي أسمتها العرب ( وادي عبقر، ملهم الشعراء ) في موازاة لجبل rdquo; برناس rdquo; لدى اليونانيين، و هو مقر أبو لون، و ربّات الفنون.

لن أكون شوفينيّاً أكثر مما أنا في واقع الحال، فلا شك أنّ كل شعوب الأرض تحمل ذاكرات شبيهة لذاكرتي عن تاريخها، إن تكن بعضها تصل بهذه الذاكرة إلى مستوى الأسطورة البحتة. فقط، أهدِفُ من خلال هذا العرض إلى الإشارة إلى حقيقة أن مفهوم rdquo; الوطن rdquo; لدى الإنسان اليماني هو جذر حضاري قديم، منذ أن لم نكُن مجرّد سلالة، و حتى هذه الساعة. و أنّ اليماني القديم لم يترك أرضه إلا تحت ظرفين قاهرين ( أو ما نسميه في اللغة الدارونية: الانتخاب الخارجي.. و هي الشروط الخارجية الحتمية ). و لعلّ أهم هذين الشرطين ينحصر في الهجرتين الأُوْلَيَيْن، نتيجة تهدّم سد مأرب، و تدمير الطبيعة و معالم العمران / الحضارة. بمعنى: انتهاء الحضارة الأولى، و تعذّر إيجاد أشيائها الأولى، التي تمثّلت في rdquo; السد rdquo; و هو ما دفع اليمانين إلى الخروج الكبير، في منظر يشبه، أو يتفوّق، على الخروج اليهودي الكبير ( الأكسيدوس ) ؛ بحثاً عن وطنٍ أكبر من السلالة يقارب مفهوم اليماني للحضارة و رؤيته للعيش.

أما الظرف الثاني للهجرة اليمانيّة فقد كان انتخاباً داخليّاً، و هو إحساسٌ أكثر نضجاً بمعنى rdquo; الوطن rdquo; لدى اليماني الذي تقبّل الدعوة الإسلامية و مفاهيمها الحضارية و أعاد إنتاج مفهومه الحضاري على ضوء الأنساق المعرفية الكونية التي اكتسبها و تمثّلها. حدث ذلك حين مثلت اليمنُ rdquo; كنانةَ الله في الأرض rdquo;، و انطلق العدّاؤن اليمانون يقطعون الشوط الحضاري الكبير في أجزاء صغيرة من العمر، يحملون وعياًً جديداً وافق تطلّعاتهم الحضارية و انتماءهم العميق إلى البشرية ببعدها الروحي و رشدها الإنساني. إن هذه العبقرية الفذّة التي أذابت الشرط الإسلامي في الشرط اليمني و تقبّلت الشرطين معاً دون حرب من أي نوعٍ مع الدين الجديد، لم يكن عبثاً أن يسمّيَها الرسول الكريم بالحكمة اليمانيّة، و لم يكن عبثاً ndash; أيضاً ndash; أن يكون اليمانون، أولئك، هم السلالة القحطانية الصافية.

لا أنتمي لفصيل القائلين بأن اليمانين، قديماً و حديثاً، تركوا اليمن وراء ظهورهم، كما لا يمكنني أن أذكر بشكل أفلاطوني مغرق في الحلم بالمقولة التاريخية: جاعت حِمْير حتى كادت تأكل الحنطة. فإنّ هذه المقولة تعكسُ قيمة المجتمع اليماني لدى التاريخ نفسه، و هو ما بدا واضحاً من أن حالة إرباك قد أصابت التاريخ و هو يرى المجتمع اليماني ( في لحظةٍ ما من لحظات أزماته التاريخية ) يوشك أن ينهار. لقد احتفظ اليماني بانتمائه، و استلهم هذا الانتماء بشكل مستمر، و لم تمنعه الهزائم التي طرأت عليه في مرحلة من مراحل حركته في التاريخ أن يفاخر بهذا الانتماء حتى و هو في الأسر ( يستوي في ذلك الأسر الحضاري حين يقارن نفسه بالأمم التي سبقته و تجاوزته، أو الأسر الحربي ). بإمكاننا أن نرى ndash; حتى هذه الساعة ndash; أنف اليماني ( عبد يغوث )، كحالة مثال على الهوى اليماني الوطني، و هو يردد: و تضحك مني شيخةً عبشميّة، كأن لم ترى قبلي أسيراً يمانياً. فهو، و بالرغم من خوضه لحربه تحت دوافع سلاليّة و قبليّة، إلا أنه لم ينس في هذه اللحظة أن يذكّر المنتصرين بأنه ( يماني ) و أن عليهم أن يعوا هذه الحقيقة تماماً. فالأسر ليس غريباً على هذا المجتمع المحارب و الشجاع، و الكبوة ضمن حساباته و لا تخيفه، و إن بعُدت بهم الشقّة.. ليس لأنه ( عبد يغوث ) بل لأنه ( أسيرٌ يماني ). إنها حالة rdquo; الوطن الهوى rdquo; و rdquo; الوطن الصحبة الأبديّة rdquo; لدى اليماني القديم و الحديث، بعيداً عن التزيّدات و المناكفات. من قبل ( عبد يغوث ) ( الأسير اليماني ) و من بعد طالب الابتدائية الذي يصر على أن يسمع العالمُ كله ما كتبه في واجبه المدرسي، و هو بعيد الصلة باليمن: أنا أحب اليمن.

د. مروان الغفوري
ديسمبر 2005

كاتب يمني، مقيم في القاهرة حاليّاً