من الظواهر التاريخية المميزة التي تتسم بها منطقة الشرق الأوسط والمناطق القريبة منها، أن الشعوب القاطنة في هذه البلدان مبتلاة بواقع مأساوي متواصل يتسم بالعنف وأعمال الحرب التي تعيد بالإنسان ظروف غير مستقرة وغير آمنة، هذا الواقع بات معرقلا أساسيا لتطور المنطقة وتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية للمجتمعات القاطنة فيها.
والمعايشة الحقيقية للأحداث برهنت أن أسباب العنف المستوطن تعود إلى ثلاث محاور أساسية، الأول هو الصراع الفلسطيني الإسرائيلي الذي مر عليه عهود طويلة، والثاني هو تسلط أنظمة الحكم في المنطقة وغياب الديمقراطية والحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية للمواطن وفق ما أقرته اللوائح الدولية المعترف بها على نطاق الأمم المتحدة، أما الثالث فهو غياب ثقافة السلام والتسامح عن الواقع الفكري والتطبيقي للإسلام.
ولا شك عند التمعن في الأضرار الناشئة عن كل سبب من الأسباب التي ذكرناها للعنف المذكور، نجدها كبيرة بآثارها، وخيمة بنتائجها وعواقبها على شعوب المنطقة، ولا زالت ضريبة هذا العنف تدفع بأحداث مأساوية ملازمة للشعوب والمجتمعات الإنسانية في هذه البؤرة المكتظة بتنوع ثقافاتها وأديانها، بالرغم من دخول البشرية إلى الألفية الثالثة التي حملت معها مظاهر مذهلة في التقدم والتطور لم تشهدها الإنسانية من قبل.
أمام هذا الواقع المرير، وأمام الأحداث التراجيدية التي تحصل نتيجة العنف المتطرف المرتكب بفعل الدوافع الدينية الإسلامية، والمتسمة بالدموية غير مقبولة إطلاقا، هي من أشد الأضرار التي ألحقت دمارا كبيرا بشعوب المنطقة. ومن جملة هذه الأضرار الأعمال الإرهابية التي ترتكب باسم الدين الإسلامي من قبل منظمات وحركات متشددة سلفية خرجت من دهاليز مظلمة حالكة منزوية ناتجة من الإحساس بالانغلاق والشعور بالنقص أمام مسيرة الحضارة الغربية المتسمة بالإنسانية والعلمية والواقعية، وعدم الإحساس بالتلمس المادي لأي إنجاز للحضور الإسلامي على مر التاريخ. أجل هذه الدوافع هي الأسباب الحقيقية للإرهاب الإقليمي والدولي المتمثل بالحركات والمنظمات الإسلامية المتشددة ضد الفكر الانفتاحي والنهج العصري والتطبيق العملي الواقعي لشؤون العالم المعاصر الذي يختلف ظروفه ومنشئه و حاله وحضوره وعالمه ونفوسه وحقائقه عن الحياة في العصور القديمة قبل ألفية ونصف من السنين، ونتيجة لهذا الانغلاق غير العقلاني وغير المنطقي مع أسس الحياة المعاصرة استقبل عدة كلمات صادرة بخصوص محاضرة دراسية من السيد بابا الفاتيكان بانفعال شديد من حشود مسلمة في دول عدة بتحريك من رجال دين غير واعيين وغير مستوعبين لضرورات تفاعل الدين مع متطلبات العصر الذي نعيشه بواقعية وعقلانية، والمسألة لم تنتهي عند هذا الحد بل خرج علينا صوت بالأمس القريب لرئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين وهو الشيخ يوسف القرضاوي في برنامج الشريعة والحياة على قناة الجزيرة، داعيا إلى زيادة تأزيم الموقف بدلا من تهدئتها، ولولا الرد الحكيم للسيد بابا الفاتيكان لكان الموقف العام في اتجاه آخر.
أمام هذا الواقع المرير الذي أصاب ويصيب العالم الإسلامي، هل يعقل أن يقف علماء الدين مكتوفي الأيدي؟ هل يعقل أن تقف المراجع الإسلامية مكتوفة الأيدي أمام هذا الأعمال الإرهابية التي تهز المنطقة خاصة في العراق؟ هل يعقل أن لا تجابه هذه السلوكيات والأفكار الدخيلة على الإسلام بموانع وضوابط واليات تعمل على أزاحتها وإزالتها من الواقع، من واجهات مفردات الحياة التي نعيشها في الحاضر وفي المستقبل، هل يعقل أن يصل الأمر ببعض المحسوبين على المسلمين نكران ذاتهم بعقلية شيطانية بعيدة عن الدين والقيم والأخلاق ليقطعوا المسافات ليرسموا صورة دموية فاحشة في ديار العراق أو في أفغانستان أو في السعودية أو مصر وغيرها لخلق صورة إرهابية عن الإسلام في أذهان الناس ؟ أية وحشية هذه تنادي بها دين سماوي نزلت رحمة للعالمين؟.
للإجابة على هذه الأسئلة، من خلال الاستناد إلى تحليل المواقف التي برزت إلى الساحة نتيجة كلمات البابا، وبغية إخراج المنطقة من أزمات العنف التي تعيشها، فإن مقصد البحث عن الحلول يشير إلى وجود خلل كبير، لا يعترف به علماء ومراجع المسلمين، في صلب الفكر والنهج الفقهي في الشريعة الإسلامية، وهو المتعلق بباب الجهاد، فلكل فقيه تفسير وتبرير وفتاوي، ولكل مرجع حجج ومساند، ولكل جماعة أو منظمة أو تنظيم إسلامي سلفي بيانها وتحليلها، ولكل حركة إسلامية غير سلفية أو معتدلة تبريراتها وأرائها المستندة إلى مراجع معينة قد تكون مثبتة ومصدقة، ولكن الصورة المستخلصة التي ترسمها هذه المصادر المتسمة بالتعددية في التفسير والتنظير صورة مشوهة غير موحدة لبيان معنى وتفسير الجهاد، والصورة الغائبة عنها هي عدم وجود تفسير موحد لها مبني على مقتضيات المراحل والفترات الزمنية التي تمر بها الدنيا ومستند إلى مقتضيات تخلقها تطور الزمن من مرحلة إلى أخرى، وهنا لا بد من الإقرار أن زمن متطلبات الجهاد قد انحصر ببداية الدعوة الإسلامية ولا شك أن الحالة المتولدة بعد الدعوة لم تكن بحاجة إلى جهاد، وما تم من فتوحات في عهد الدولة الأموية والدولة العباسية والعثمانية لم تكن لدواعي إيمانية بل كانت لدواعي توسعية لجمع الجباية والاستيلاء على ممتلكات الشعوب والأمم، وكذلك فإن التركيبة العملية والتطبيقية الغائبة عن الجهاد السلمي البعيد عن العنف لتحديد آلياتها بكل حيادية وموضوعية وبروحية منطلقة من العقلانية المبصرة والمفتوحة غائبة عن عقول أهل علماء الإسلام.
لهذا فإن الصورة غير العقلانية التي ارتسمت للجهاد في ذهنية عقول جامدة لا تعرف الرحمة ولا الإنسانية، بحاجة إلى تفكيك لإسقاط رؤى جديدة عليها، وتسليط أفكار منورة عليها، مستخرجة من ضرورات العصر، ومتفاعلة مع علوم الحياة كافة خاصة في مجال حقوق ومباديء الإنسان المعاصرة ومتفاعلة مع الأديان السماوية وغير السماوية الأخرى التي تنتشر لها أتباع وأنصار في عموم بلاد الأرض، لاستخلاص رؤية عصرية منفتحة للإسلام بممارسات ومؤشرات متحضرة وإنسانية ضمن إطار عام للإيمان والاعتقاد التام بمبدأ اللاعنف. ولتحقيق هذا الهدف الإسلامي النبيل، فإن الطريقة المثلى لإخراجه إلى ارض الوجود هي اتفاق جميع المراجع الإسلامية في ديار الشعوب الإسلامية على التلاقي والتشاور والتوافق مع بعضها بجميع مذاهبها وطوائفها، للوصول إلى اتفاق يتضمن إيجاد سبل موحدة ومتحضرة، منسجمة ومتفاعلة مع العصر لطرح تفسير جديد للنصوص الدينية الإسلامية مبني على نبذ العنف والكراهية بروحية مستندة إلى إيمان مطلق بالسلم وإكراه العنف بجميع أشكالها وإقصاء الكراهية، لإرساء مبدأ إنساني مبني على إتباع وسائل سلمية لطرح المطالب ونيل الحقوق على نطاق الشعوب والمجتمعات والأفراد، ليكون إسلوبا مغايرا لما اعتاد عليه الناس في السابق والحاضر.
وبهذا الصدد أكرر هنا كما طرحته في مقال سابق، أن أساليب المطالبة التي طرحتها شعوب ومجتمعات الدول الشرقية عند تحررها من هيمنة المعسكر الروسي في بداية التسعينات من القرن الماضي، والأساليب والخيارات السلمية التي لجأت إليها المعارضات في تلك الدول، شكلت نقلة نوعية في الفكر الإنساني لطرح الرأي المقابل، والكل يتذكر أن أشكال المعارضة السلمية عبرت عن نفسها من خلال الإضراب العام والنزول الجماعي إلى الشوارع وإشعال الشموع في الليل، والطرق على الأدوات المنزلية وإطلاق الصفارات الجماعية وغيرها من أساليب العصيان المدني التي طرحتها حركات تلك الشعوب في أجزاء من أوربا، والتي اتخذت موقفا جماعيا سلميا لنيل المطالب والحقوق.
لا شك أن هذه الحالة المشهودة لها بالتقدم والتطور والتحضر في التعبير عن الرأي المقابل شكلت حالة متقدمة من الناحية الإنسانية والعقلانية وأرست مفاهيم ومباديء في الفكر والنضال الإنساني وهي جديدة في حقيقة الأمر لأنها مبنية على الخيار المدني وبهذا الخيار فإن الشعوب المتبنية لهذا الأسلوب النضالي السلمي قد عبرت عن تمدن وتحضر كامل لسلوك المجتمع والإنسان في وقت واحد.
لهذا ومن منطلق الآية الكريمة القائلة quot; لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ quot; سورة البقرة الآية 286، فان المراجع الإسلامية تقف على عاتقها إعادة التفكير في منهج المسلمين بعقلانية وواقعية لإخراجهم من أزماتهم ومشاكلهم ومن أساليب بعض أعمالهم المتسمة بالعنف الغير المنطقي والبعيد عن حكمة العقل، وتشكل هذه الدعوة للمراجع بمثابة دعوة للإصلاح الديني خاصة ونحن في بدايات الألفية الثالثة وهذه البداية بمثابة امتحان لهم، لتغيير ميزات وسمات وواقع الحالة الراهنة التي نعيشها من اجل إرساء ركائز أساسية جديدة للمفاهيم الإسلامية المطروحة على الساحة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، لإخراج منهج جديد حيوي متفاعل مع الحاجات المتجددة للناس وفق تطور العصر والزمن، منهج مبني على مباديء أساسية تراعى فيها المنطق والعقل والحقوق بجميع حلقاتها وفقراتها المتعلقة بالفرد والمجتمع، وتراعى فيها الجانب الإنساني بكل أطرها الإنسانية والديمقراطية والاجتماعية من باب إرساء العدالة في السلوك والتطبيق والنهج والفكر لدى الفرد والمجتمع، لإقامة أنظمة حكم معتدلة تتسم بمدنية الدولة قادرة على تلبي متطلبات الشعوب التي تحكمها وفق مفاهيم حكم جديدة مستندة إلى تطبيق الأسس الديمقراطية والقواعد الدستورية.

د.جرجيس كوليزادة
كاتب ومحلل سياسي ndash; العراق - إقليم كوردستان
[email protected]