مداخلة على هامش مقال السيد الشابندر / ج1


-1-

في مقالة لطيفة للسيد الشابندر في صفحة كتاب إيلاف، يتحدث الكاتب بإيمان يُحسد عليه عن هويته وهوية

في زمن تلى اصبح لدينا ماركسيون وليبراليون وديموقراطيون وقوميون متنورون يتمنى كل منهم لبلده وللأمة العربية أن ترقى إلى ما رقيت إليه امم اخرى في اسيا وامريكا واوربا، اي أن نخلق دولا جديرة بالعيش والبقاء والتطور والسير على مسافة متقاربة مع دول العالم الحر المتحضر التي تجاوزت الإشكالية القومية والعرقية والمذهبية
الكثيرين من اشقائنا في العروبة وفي الوطنية القطرية، اعني الهوية الثانوية الثقافية الشيعية، يتحدث عن هلال شيعي فعال ومتداخل مع القمر السني المشرق وطبعا لا يكون الهلال إلا مرحلة من مراحل دورة القمر وليس متعايش معه فهذا ما لا يصح لإستحالة وجود قمرين أحدهما بدر وآخر هلال...!
قد يكون هذا واقع الحال في هذه المرحلة الوسخة من زمن الهزيمة والذل والتردي العربي، أعني أن يكون هناك قمر سني وهلال شيعي، لأن تلكما الهويتان هما في واقع الحال هويات ثانوية تماما مثل أن تكون لاعب جمباز أو قاريء كف أو مهندس أو طبيب...!
أن تكون شيعيا أو سنيا هو في حقيقة الأمر ليس هوية وجودية ابدا، لكنها يمكن أن تكون كذلك في فترات الإنحطاط والإنحلال للأمم، حين يتغلب الصغير على الكبير وحين تتقزم المواطنة أو الكينونة الإنسانية أمام كينونة صغرى كالكينونة القبلية أو الطائفية.
في زمن مضى وهو ليس بالزمن البعيد، كان هناك متنورون حتى بين رجال الدين يحلمون بدول متمدنة متحضرة يمكن أن تلحق بركب الحضارة الإنسانية.
وفي زمن تلى اصبح لدينا ماركسيون وليبراليون وديموقراطيون وقوميون متنورون يتمنى كل منهم لبلده وللأمة العربية أن ترقى إلى ما رقيت إليه امم اخرى في اسيا وامريكا واوربا، اي أن نخلق دولا جديرة بالعيش والبقاء والتطور والسير على مسافة متقاربة مع دول العالم الحر المتحضر التي تجاوزت الإشكالية القومية والعرقية والمذهبية.
وليس هذا الزمن ببعيد ابدا، ولكننا وللأسف إنحططنا إلى المستوى الذي يتحدث به السيد نبيه بري عن قمر سني وهلال شيعي ( علما أن السيد بري كان بعثيا ولكنه انقلب في عصر ارتقاء الطائفية )، أو كما يتحدث عنه السيد الشابندر ولا اشك في ان الشابندر لم يكن يوما ما طائفيا، كما لم اكن يوما ما ليبراليا، بل ماركسيا.
وطبعا لأي منا الحق في ان يطور فكره، ونقول يطور لا أن يرتد...!

-2-

نظرة على اشكال الإجتماع البشري لغرض تأمين الوجود للأفراد:

إجتماع البشر على مشترك ما ( ذو قيمة ومتفق عليه ndash; الإيمان بالضرورة ) تفرضها الإشكالية الوجودية المعقدة والحرجة للكينونة الفردية والكينونة الجماعية لرهط من الناس او شعب من الشعوب ضمن الكينونة الإنسانية العامة وقبالة التحديات الوجودية الطبيعية أو الحياتية الخطرة احيانا، في هذا الوعاء الإنساني العام او الوعاء الإقليمي.
إشكالية وجود الفرد ضمن رهطه أو شعبه، وإشكالية وجود هذا الرهط أو الشعب على ارض ما ( وطن ) ضمن تحديات خارجية اقليمية أو دولية، هي إشكالية وجودية في المقام الأول، وقد تكون وجودية بمعنى ضيق اي بالقدرة في الإستمرار على الكفاف ( الذي قد لا يُرى كفافا ضمن ثقافة ووعي المجموعة المتعايشة معا ) ونعني بالكفاف هنا الزاد والماء والمرعى كما هو حال قبائل العرب وقبائل اليهود والعيلاميين والحيثيين وقبائل افريقيا البدائية ( وبعضها لا زال يعيش على هذا الشكل من الإجتماع ) إبان فجر وعيهم الذاتي بمشتركهم القبلي أو العرقي وخروجهم من فردية إنسان ما قبل التاريخ.
يومئذ كانت القبيلة هي الشكل الأسمى للإجتماع والعيش المشترك وحيث الدم هو الرباط والهواجس هي الهواجس الوجودية الفطرية من زاد ومرعى وأمن ضمن خيمة الدم القبلي ( إبن عمي يحميني وإبنة عمي هي زوجتي، وبهذا احمي وجودي الفردي ضمن القبيلة وتحمي القبيلة وجودها الجماعي ضمن الإقليم وتتحالف القبائل حينا بما بينها من مشتركات لتحمي الأمة وقد لا تفعل، حيث يمكن للقبيلة أن تقمع كل الأشقاء في القومية من اجل مصالح انانية قبلية يمكن أن يؤمنها الآخر- الأجنبي ).
وقد يرقى ذلك الوجود إلى مستوى تكون فيه القبيلة عنوان وخميرة لدولة يتمدد فيها جسد القبيلة أو الأمة على مساحات جغرافية واسعة ويكون ضمن جغرافية تلك القبيلة امم وشعوب اخرى قد تتعايش حينا عيشا جميلا سلميا وقد تحترب، ونجد امثلة من التاريخ على امم سادت فيها عرقية ما او قبيلة ما وتمددت وتوسعت وزحفت لتبسط عباءتها على اقوام آخرين وارض واسعة عريضة كما في حالة إمبراطوريات الفرس والبابليين والآشوريين والأقباط والفينيقيين، ولاحقا العرب حين تحولت قريش إلى امة تهيمن على العرب ويهيمن العرب بدورهم على امم اخرى ويغدو الإسلام العنوان المشترك لهذا التمدد وبذات الان لعنة على من انتجه في وقت لاحق حين تتغلب تلك الأمم على العرب ذاتهم وتبتلعهم بمهارة.
هذا الذي ذكرناه اعلاه يشير إلى حالات وجودية بدأت من الفرد الذي تبنى المقوم الفسيولوجي ( الدم ) كعامل اساس للإجتماع الآمن ( القبيلة ).
بعض الأمم لم تعرف هذا الشكل من الإجتماع، لكن عرفت ما هو اكبر منه وقفزت اليه، اي الإجتماع على اساس العرق أو القومية ولدينا الفرس والأقباط والفينيقيين امثلة على ذلك، وقد يكونوا في واقع الحال من ارومة واحدة ولديهم هذا الشكل القومي الموسع، لا الشكل الضيق الذي وُجد لدى العرب كنموذج للإجتماع على اساس الدم..!
تلك الأنماط من التجمعات، قبيلة- امة ( تحالف قبائل )، تحالف امم ( عبر المصاهرة بين الملوك )، هي الأنماط البدائية للتشكل الوجودي العام للبشر لتوفير الحماية والأمن والعيش، اي القدرة على الإستمرار في الوجود مقابل التحديات الخطيرة المهددة لهذا الوجود، من تحديات طبيعية أو تحديات من اقوام اخرى بعيدة جغرافيا وتروم التوسع والسيطرة لتحسين شروط أستمرارها في الوجود...!
دائما... هناك مشتركات وجودية جمعت الناس، الدم في إطاره الضيق ( القبيلة التي هي بدورها مجموعة اسر يكون الدم فيها اقرب ويمكن لهذه القبيلة أن تتشظى بسهولة مع تباعد الدم )، ولاحقا القومية كما في امم نجحت في ان تجتمع على اساس ارومة واحدة أو مصاهرة بين بضعة ارومات كما هو حال الفرس والفينيقين والأقباط والمغول والعثمانيين.
ودائما تتوسع القبيلة لتلتهم امما واراضي وتتزاوج وتتصاهر وتبسط هويتها على هويات الآخرين الأضعف، كما فعل العرب بعد أن إجتمعت كلمتهم على دين واحد رقى بقريش لتسود العرب وبالعرب ليسودوا الترك والفرس والمصريين وغيرهم.
نكرر الحاجات الوجودية فرضت المشتركات كما فرضت العداوات، الحاجات الوجودية بمعنى حاجات البقاء وتوسيع افاق هذا البقاء ليكون ارقى وأجمل وافضل واكثر شرفا وعزا وووو.

-3-

التطور يفرض الإرتقاء بالهوية من اضيق نطاق إلى نطاق اعلى، تماما كما إن الوجود يرقى من مستوى الزاد والماء والكلأ إلى مستوى حاجات اكبر كالسيطرة ونيل افضل ما في الحياة من إمتيازات، وحين نقول السيطرة فإننا نعني بذلك السيطرة على مخاطر ومُهددات الوجود كما والسيطرة على الطبيعة ومخاطرها التي تضيق من آفاق حريتنا الوجودية وتجعل هذا الوجود على كف عفريت.
الشكل القبلي لم يعد نافعا بالنسبة للعرب، كما إن اقواما اخرى سبقتهم في الإرتقاء إلى اشكال اكبر منه، لم يعد نافعا حين صار العرب امة { مجموعة قبائل تصاهرت بالدم والتقت على مشترك اللغة والإيمان الديني الواحد ( الفكر الواحد أو الآيديولوجيا الواحدة ) }، ثم ارتقت العرب إلى حالة جديدة سامية عن ما سلف وهي الحالة الإنسانية حين تكون ( ولو إعتباريا وليس واقعيا ) ما يسمى الآمة الإسلامية، وهنا إجتمع فرس وترك ومغول وصينيين وبربر وووو تحت سقف خيمة الآيديولوجيا ( تماما كما كانت الشيوعية آيديولوجيا مؤثرة في قلب الفلسطيني أو المصري إذ تجعله يتراقص طربا حين يرى صورة ماركس أو جيفارا رغم أنه لو إلتقى بهذا أو ذاك منهما لما تمكن من التحدث معه، ولكنه يحبه على اية حال، يحبه بعمق لأن بينهما ما يتفقان عليه لحماية وجودهما أو لجعل هذا الوجود افضل ولتأكيد ذواتهما وصوابية إتجاه تلك الذوات )..!
كما كانت القبائل تتمزق ( أو ترقى إلى مستويات اكبر ndash; القومية )، تمزقت الأمة الإسلامية إلى سنة وشيعة ودروز موحدين وعلويين وووو...!
وكما ينفصل الفرد عن قرينته أو شريكه في المتجر، لإنتفاء استمرارية المصالح المشتركة الوجودية بينهما، تنفصل الأسر والقبائل والقوميات وأحلاف الدول عن بعضها البعض حين يفقد المشترك الرابط بينهم قيمته أو ضرورته أو جديته أو منفعته.
ويعود الفرد غالبا ( أو المجموعة البشرية ) للبحث عن تحالفات جديدة تؤمن مشتركات جديدة اكثر جدية، وهذا ما حصل فعلا حين فقدت الرابطة القومية أهميتها لدى العرب حين تشكلت دولهم الوطنية ووجدوا أن مصالحهم كمجموعات ضمن الأسرة العربية يمكن تأمينه بالقفز على المشترك القومي ( بأعمدته الرئيسية -الدم واللغة والدين المشترك ).
وهذا ما حصل فعلا بالنسبة للأمة الإسلامية حين سقطت الدولة العثمانية ولم يعد العرب أو غيرهم يعنون بإحياء هذا المشترك ( وإن لم يدفنوه كليا ).
علما بأن تلك الأمة الإسلامية كانت مشطورة عموديا إلى سنة وشيعة وآخرين إنما كانوا على الأقل يجتمعون على مشترك واهٍ باقٍ وهو الإسلام الواحد.
ما الفيصل في إجتماع أو إفتراق المجموعات البشرية؟
دائما... الحاجات الوجودية بمستوياتها الدنيا أو مستوياتها العليا، وتلك الحاجات تصب غالبا في جعبة الفرد، جسده ( المطعم والملبس والمأوى )، الحاجات الروحية السامية ( إيمان، طمأنينة داخلية على شرعية وضرورة وقيمة هذا الوجود الفردي من خلال وجود شيء يعتنقه ويبرر كفاحه من اجل العيش حيث أن الإيمان يمنح ليس دفء القلب وراحة الضمير بل والقدرة على تأكيد الذات وتلك قيمة وجودية جبارة وخطيرة للغاية ولا يمكن الإستغناء عنها )، وإذن فالناس تجتمع في تجمعات بهذا الحجم أو ذاك وبهذا القدر أو ذاك لتلبي مع بعضها تلك الإحتياجات الوجودية للفرد الواحد فيها.
وإذن متى عجز مشترك ما عن تلبية إحتياجات الفرد الواحد، وتذمرت الأغلبية أو على الأقل تكاسلت في التواصل والعطاء الفردي لرفد هذا المشترك وهيئته الجامعة ( القيادة الفقهية أو السياسية أو قيادة الحزب أو الأمة أو الأسرة أو شيخ القبيلة )، تفككت اللحمة ببطء ( أو بسرعة في بعض الأحيان ) وتحولت الناس للبحث عن اشكال أخرى تؤمن ما عجزت الأشكال الأولى عن تلبيته.
هذا الأمر تفعله الأمم والقبائل والأفراد دائما، تصيب أحيانا وتخطيء احايين لكن في كل الأحوال هي عملية مستمرة، تماما كتلك التي يتحدث عنها الكاتب وكثير من الطائفيين ( ليس من باب الإساءة ابدا ولكن التوصيف الواقعي للحالة )، ودائما الناس افرادا او جماعات احرار كل الحرية في الحديث أو التحليل أو الدعوة لهذا الشكل أو ذاك من اشكال التجمع، إنما عليهم هنا أن يطرحوا الجدوى الواقعية العقلانية العملية البراجماتية ذات الأفق المستقبلي لهذا التجمع أو ذاك، بغير هذا تغدو العملية لا اكثر من عبث عاطفي لا خير فيه ولا نفع منه للأفراد أو للجماعات ( المفترضة غالبا، والإعتبارية في اغلب الأحيان )....!

-4-

هل التطور من حالة مجتمعية إلى اخرى يتم بشكل خطي هندسي تصاعدي؟
بمعنى هل إرتقاء الفرد من فردية مطلقة ( كما في حالة الإنسان الأول التائه في الغابة والجامع للعشب والثمار البرية )، إلى الأممية كما هو حاصل اليوم في المجتمع السويسري أو الفرنسي أو الأمريكي، يتم بشكل طبيعي مع تعقد الإحتياجات وتوسع آفاق تأكيد الذات الفردية وإرتقاء الوجود إلى وجود ذي طابع جمالي اكبر واسمى، حيث الإنجليزية أو الفرنسية، لغة الجميع وحيث بمقدور الروح الفردية أن ترقص على المسرح العالمي كله بإنسيابية شديدة لينهال عليها التصفيق من قبل الجميع لأن الفهم والمشترك الأممي متوفر لدى كل الحاضرين في المسرح؟
الحقيقة، إختيار هوية جمعية كما اسلفنا يعتمد على الحاجات الفردية لتأمين المتطلبات الوجودية في مرحلة من المراحل.
في مرحلتنا هذه، اعني مرحلة العولمة واللغة المشتركة بين كل الشعوب والمصالح التي يمكن أن تجمع الجميع وتؤمن للجميع بقدر معقول، وبوجود قانون دولي محترم وامم متحدة ( تمثل قيادة الإنسانية مع التحفظ على دورها الذي لا زال مضطربا ركيكا )، وفي ظل إرتقاء البشرية إلى مستويات يمكن قريبا أن توفر عدلا اكبر وحماية اكبر للأفراد وللهويات الإثنية الصغرى أو الأمم، وفي ظل الرقي التقني الذي اوشك أن يصير مشاعا للجميع، وفي ظل الرخاء العام لأغلب الدول والإنتفاع الذكي الحسن للمصادر والثروات وفي ظل سيطرة وهيمنة اكبر على الطبيعة وقواها الخفية الجبارة، وفي ظل صعوبة إشعال الحروب نتيجة وجود إجماع اممي على ذلك، في ظل جميع هذه الظروف وفي حالة تحسن مستوى التعليم ومشاعيته اكثر واكثر، ( وقد نصل في القريب إلى وجود هيمنة دولية اممية على مناهج التعليم وضرورات تقديمه لكل البشر وفي مختلف الأعمار للقضاء على الأمية العالمية )، في ظل مجمل تلك الظروف نعتقد أن عملية الإرتقاء إلى شكل اسمى واعظم من أشكال الإجتماع المصيري للمجموعات البشرية، سيغدو عاما شاملا غالبا، وهو بالنهاية الشكل الأسمى المتوقع تحققه ربما في ظرف قرن من الآن أو ربما اكثر بقليل إذا استمرت وتيرة التطور الإنساني على ما هي عليه الآن، وبالذات من ناحية الرقي المعرفي والتقني.
هذه حالة عامة شاملة لكل البشر وهي المصير والمستقبل المتوقع للبشر في القرون التالية إذا ما استمر التطور على ذات هذه الوتيرة، لكن ببن هذا وذاك تنشط وتنشأ أشكال اخرى وأرتقاءات أو إرتدادات هنا وهناك في إنتخاب وتقرير هذه الهوية أو تلك كهوية مجتمعية تؤمن للفرد الحاجات الوجودية الفردية وتضمن من خلال ولاء الفرد أن تؤمن الأمن الجمعي للمنتسبين لهذا الفريق أو ذاك.
العملية ليست تطور خطي مثل عملية صعود سلم...!
التطور العلمي التقني الهائل الحاصل الآن وتحسن القدرة في السيطرة على الطبيعة والكون تبشر بحالة جمعية عامة رائعة للوصول إلى إنسانية موحدة سعيدة تزول بينها الفروق أو بالأحرى تغدو غير عدائية، لكن يبقى التطور ليس خطيا في المضمار الإنساني، فالعامل الفردي يلعب دوره والمجتمعات قد يقيض لها في فترة من الفترات مغامر أو مجنون يمكن أن يحرق المركب، كما فعل نيرون إذ احرق روما التي بنيت عبر مئات السنين وخلقت ارقى ديموقراطية في فجر التاريخ...!
لنأخذ نجاد الإيراني مثلا أو بن لادن أو آخرين...!
هؤلاء نماذج لإمكانية المغامرة بالمصير الجمعي لمجموعة بشرية قد تكون عريضة كالشعب الإيراني أو الشعوب العربية أو إقليم الشرق بأكمله....!
حسنا... ما هي العوامل التي تتحكم اليوم في إختياراتنا لمجتمعات (ذات مشتركات ) يمكن أن تؤمن لنا الحاجات الفردية الوجودية؟
الرصيد المعرفي الذي وصل لنا لغاية الآن، يلعب دوره إذا ما توفر التعليم الحر الموسع، يمكن أن يلعب دوره في الإرتقاء بالوعي الفردي والجمعي وبالتالي التأثير في الخيارات التي ننتخبها للإجتماع مع آخرين تحت هوية إثنية أو وطنية.
نجاح المجتمع الدولي وبالذات الدول الكبرى في إشراك الدول الأصغر والمجاميع الإثنية الأصغر في الثروة العالمية والمعرفة العالمية والفهم لإحتياجاتها الوطنية أو المجتمعية الصغيرة، يلعب مجتمعا دورا في الإرتقاء الكيفي بمساعينا لتشكيل هويات اصغر ضمن الكينونة الإنسانية، بحيث يتم تعزيز ( أو إنتاج، أو اعادة إنتاج ) هويات يكون الضغط عليها ارقى نوعيا وأكثر سلمية وإنسانية واقل عمقا وجوديا من الضغط الذي يتسلط على الهوية القبلية ( بمعنى أن وجودا آمنا في العالم يكفل لنا أن نعيد النظر برابطة الدم أو العرق أو الأسطورة الطائفية، بعكسه فإننا سننحط إلى مستوى رابطة الدم ثانية كما هو حاصل في العراق الآن أو إلى الطائفة كما هو حاصل في لبنان أو إيران أو العراق ايضا )...!
حين يتفرغ الناس إلى البناء الجماعي الأوسع بناء الدولة (وبناء الدولة جزء من العملية المعرفية حسب تصوري )، فإنهم سيرتقون قطعا بمتطلبات الأمان وتأكيد الذات فلا تعود الإسطورة أو العائلة أو الدم أو العرق هو هاجسهم اليومي { نذكر في الخمسينات والستينات أننا كنا نملك هاجسا يتراوح بين الأممية ( بضمنها الأممية الصغرى ndash; الوطنية ) في ظل الإنتصارات الماركسية الرائعة وثورة اكتوبر العظمى، والهاجس القومي في ظل التحدي الوجودي لإسرائيل ( مع تحفظي الشخصي على تعبير تحدي ولكني انظر للأمر هنا من الزاوية القومية للقوميين وبعض اليسار العربي ) وبفضل الإقتران الجميل المبارك بين القومي والأممي في ظل وجود السوفييت ونشوء الدول القومية الرائعة في الصين والهند وغيرها ( مع التباين بين هند ديموقراطية وصين شمولية مقبولة من الشعب برمته ) ويومئذ لم يكن هناك من يهتم بآيديولوجيات ماضوية غير بنائية وغير واقعية كالتسنن أو التشيع أو القبيلة والعشيرة }، كما هو حاصل الآن في الشرق عامة.
أما حين يتدهور السلم العالمي أو الإقليمي وينشأ تعارض بين الهوية الصغرى ( الوطنية والقومية ) والهوية الأكبر الإقليمية أو العالمية، وحين يتوقف التقدم المعرفي ويصعب الحصول عليه من قبل المجتمعات والشعوب ويُفتقد العدل في توزيع الثروات وتقاسم السلطة، وتكف عملية البناء والإنشغال بالبناء المادي ( ببعده الفكري الروحي ) على الأصعدة الوطنية والقومية، وحين تعتلي مقاليد الأمور تجمعات أو شخصيات مغامرة، متخلفة وجاهلة ( وغالبا بسبب الإهمال العالمي من قبل القوى الكبرى أو الخبث في سياساتها ومصالحها )، ساعتها يمكن أن تنحط المجتمعات إلى المستوى الطائفي أو القبلي ليتحول هذا الهاجس مجددا إلى خيمة للأمان لأعضاء التجمع ( الطائفة أو القبيلة )، ثم ما هي إلا فترة وتعود الأمور إلى سابق عهدها حين يتدخل المجتمع الدولي ممثلا بتجمعاته ذات القدرات التقنية والسياسية والمادية الهائلة القادرة على إعادة إيقاظ مستويات ارقى من الوعي الوجودي للفرد والمجتمعات الصغرى.

وللحديث صلة.

كامل السعدون

النرويج