تداولت وكالات الأنباء خبر قبول اللجنة الدولية لحقوق الإنسان التابعة لمنظمة الأمم المتحدة طلب أقباط المهجر بمناقشة قضية اضطهاد الأقباط في مصر. طلب أقباط المهجر لم يكن مفاجئا في ذاته، فهم كثيرا ما طالبوا المجتمع الدولي بالضغط على الحكومة المصرية لتحقيق المساواة الكاملة في إطار المواطنة. ولكن المفاجأة كانت في قبول المنظمة الدولية للطلب في هذا التوقيت الذي يشهد خلافات دولية بشأن حرية التعبير والتعامل مع ردود الأفعال العنيفة في الشارع الإسلامي احتجاجا على الرسوم الكاريكاتيرية التي اعتبرت مسيئة للإسلام. ويجيء قبول الامم المتحدة النظر في قضية الأقباط بعد أسابيع قليلة من مطالبة الدول الإسلامية وعلى رأسها المملكة العربية السعودية ومصر للامم المتحدة بسن قرار يمنع ويحرم التعرض للأنبياء والأديان. لقد اراده العالم الإسلامي قرارا يحظر على الغرب التعرض للإسلام، ولكن ها هي الامم المتحدة تستخدم نفس السلاح للدفاع عن الأقليات الدينية في الدول الإسلامية.

اعتقد انه لا يمكننا الفصل بين تدخل الامم المتحدة في قضية اضطهاد الأقباط و قضية ردود الأفعال العنيفة التي اندلعت بسبب الرسوم الدنماركية، فالغرب الذي تسامح كثيرا مع الحكومات العربية والإسلامية بشأن حقوق الأقليات الدينية والعرقية ربما وجد لنفسه وسيلة للانتقام من هذه الحكومات التي اطلقت العنان للإسلاميين في بلدانها حتى اصبح التطرف الديني غولا من الصعب السيطرة عليه، وهو الأمر الذي تجسد في العديد من العمليات الإرهابية ضد مصالح غربية في السنوات الأخيرة. من هنا فإن قضية الأقباط ربما لن تكون سوى ضربة البداية لنزال قد يطال أوضاع أقليات اخرى في العالم الإسلامي ومنهم مسيحيو لبنان وسوريا والعراق والسودان وباكستان واندونسيا وماليزيا وبنجلاديش وتركيا وإيران، وأكراد العراق وسوريا وايران وتركيا، وبربر الجزائر وغيرهم.

لقد اقتصر التدخل الدولي في الماضي على ابداء النصيحة للحكومات الحليفة كمصر وتركيا وباكستان دون الضغط بتصعيد قضايا اضطهاد الأقليات إلى الامم المتحدة. ولكن يبدو أن المناخ الدولي بعد أحداث الرسوم وتبعاتها لم يعد كما كان في الماضي فقرر الغرب معاملة الدول الإسلامية بالمثل. ويبدو أن كل طرف سيسعى لاستخدام كافة أوراقه السياسية والاقتصادية الاجتماعية للضغط على الطرف الأخر. في الواقع إن قبول طلب الأقباط لا ينبئ بحال من الأحوال بتخلى الغرب عن سلبيته والدفاع عن حريات الأقليات بقدر ما ينبئ بتغير في سياسته تجاه الدول الإسلامية. فالغرب من فرط شعوره بالمرارة تجاه الدول الإسلامية يبدو أنه لن يتسامح مع أية زلة أو سقطة تقع فيها القاهرة أو الرياض أو إسلام اباد أو غيرها. ربما يشعر الغرب أن الدول الإسلامية لم تثمن صمت الغرب على انتهاكات حقوق أقلياتها العرقية والدينية فتمادت في ردود افعالها العنيفة - عند اشتعال أزمة الرسوم - التي شملت اعتداءات على بعض السفارات والقنصليات الغربية والمناداة بالإضافة إلى المقاطعة الإقتصادية للدنمارك والنرويج. ومن ثم كان تصعيد قضايا الأقليات في العالم الاسلامي بمثابة الاحتجاج على محاولات لي الذراع التي تم استخدامها لإجباره على الاعتذار.

كان من المؤسف أن ينقسم المجتمع الدولي حول قضية الرسوم بعد ان كاد الجميع شرقا وغربا، شمالا وجنوبا يتحدث لغة واحدة مناهضة للإرهاب والتطرف. يبدو أن الحكمة قد فارقت البعض فاقترب العالم من الاشتعال بنار الكراهية والتمزق بفعل الجهل. لعل جهل كل طرف بالأخر وثقافته لعب دورا في الأزمة الحالية، فالصحيفة الدنماركية كانت تجهل عقلية المسلمين الرافضة لنقد كل ما هو مقدس، كما أن المسلمين كانوا يجهلون فكر الغرب الذي لايقبل القيود.

ولكن يبقى السؤال عما سيسفر عنه احالة قضية الأقباط إلى لجنة حقوق الإنسان بالامم المتحدة. أعتقد أن الإجابة تتوقف على النقاط الآتية:

أولا: جدية المجتمع الدولي في تناوله لقضايا الأقليات. فإذا ما كان التناول بغرض الثأر من الدول الإسلامية ـ كما اسلفت ـ فلا اتوقع نتائج ملموسة، لأن مصالح الغرب ـ على سبيل المثال ـ في المنطقة قد تلعب دورا يعيق تدخلا حاسما لمصلحة الأقليات. ولكن إذا ما كان المجتمع الدولي جادا في دفاعه عن الأقليات، فربما يقود تدويل قضية الأقباط إلى ممارسة ضغوط سياسية واقتصادية على مصر. يجدر بالذكر أن ميثاق اللجنة الدولية لحقوق الانسان التابعة للامم المتحدة ينص على حماية ودعم حقوق الإنسان ومنع حدوث أو استمرار أية انتهاكات. تهدف اللجنة إلى فرض مستوى عالمي موحد لحقوق الانسان في جميع الدول من خلال التصديق على معاهدات حقوق الانسان الدولية وتنفيذها. وتتفاوت درجات تدخل اللجنة من حالة إلى اخرى. ففي بعض الحالات تكتفي اللجنة بإرسال خبرائها للتحقيق في دعاوى انتهاك حقوق الانسان. وفي حالات اخرى تقدم اللجنة الدعم الفني للحكومات للمساعدة في حل المشكلات القائمة. وفي الحالات القصوى ترفع اللجنة تقارير إلى الجمعية العامة للامم المتحدة وامينها العام للتدخل بشكل اكثر تأثيرا. كما حدث في أزمة اقليم دارفور السوداني.

ثانيا: مرونة الحكومة المصرية في تعاطي قضايا الأقباط. رغم التحسن الطفيف الذي طرأ على موقف الحكومة المصرية في الآونة الأخيرة ومنها قرار نقل تراخيص بناء الكنائس إلى المحافظين، وتعيين محافظ قبطي لمحافظ جماهيرية وهي قنا، إلا أن الأقباط مازالوا يعانون عدم المساواة في حقوق المواطنة رغم المساواة في الواجبات ومن أهمها دفع الضرائب والخدمة بالقوات المسلحة. بعد قبول الامم المتحدة للقضية، يجب على الحكومة المصرية أن تتعاطى مع القضية بجدية لتفادي تداعيات سلبية. فالمنظمة الدولية لن تأخذ بالتصريحات الجوفاء التي يطلقها المسئولون المصريون، ولكنها ستأخذ بالواقع ومجريات الأحداث في الشارع المصري.

ثالثا: هناك انقسام ملحوظ بين أقباط الداخل والخارج. بينما ينشط أقباط الخارج دوليا للدفاع عن حقوق ذويهم بالداخل، بعدما يئسوا من تدخل الحكومة المصرية لحل مشاكلهم، نجد أن أقباط الداخل ويتزعمهم البابا شنوده يطالبون بحل مشاكلهم في اطار الاسرة المصرية الواحدة. لا شك أن أقباط الداخل يملكون الدافع وراء خيارهم، لأن تدويل قضيتهم ربما يعود بالسلب على أوضاعهم. فالحكومة المصرية لن تتوقف عن ممارسة الضغوط على الأقباط ورئاستهم لإظهار القضية كما لو كانت مؤامرة مفتعلة تحاك ضد مصر. كما أن وسائل الإعلام الحكومية والمتأسلمة لن تكف عن اتهام الأقباط في وطنيتهم بعد تدويل قضيتهم.

رابعا: تفهم القوى السياسية والتنفيذية والجماهيرية والتعبوية لأهمية المساواة بين المواطنين دون التفرقة بسبب الدين أو اللون او الجنس. لقد حان الوقت كي تعمل فيه كافة هذه القوى بما لها من نفوذ وتأثير على نشر الوعي بين المواطنين ومحاربة التطرف والتصرف بمسئولية للحفاظ على سلامة الوطن. وباتت وسائل الإعلام مطالبة اليوم بتبني قضايا الأقباط بدلا من اهانتهم واهانة عقيدتهم.

خامسا: قبول المواطنين المسلمين لنظرائهم المسيحيين كشركاء في الوطن والمواطنة. فلم يعد من المقبول أن تستمر حساسية البعض تجاه بناء الكنائس وتعيين الأقباط في الوظائف العليا بالدولة. كما لم يعد مقبولا أن يقوم المتطرفون بمهاجمة منازل وممتلكات الأقباط وغيرها من الأعمال التي يندى لها الجبين.

إن قضايا الأقليات العرقية والدينية في العالمين العربي والإسلامي بحاجة إلى قادة حكماء ذوي عقليات منفتحة لمناقشتها بغرض إيجاد حلول جذرية لها حتى لا تتحول جميعها إلى قضايا دولية يجد فيها المجتمع الدولي منفذا لفرض إرادته. إن قبول الامم المتحدة النظر في قضايا حقوق الانسان القبطي لا يجب أن يمر مرور الكرام على أصحاب الشأن في المنطقتين العربية والإسلامية، وانما يجب على الجميع بدءا من المواطن العادي ومرورا برجال الدين وسائل الاعلام وانتهاء بالحكومة أن يلعبوا دورا ايجابيا في اجتثاث الفتنة المتوغلة في جسد مصر. كما ينبغي ألا ينظر للأقباط على أنهم عملاء لقوى خارجية لأنهم صلب مصر وأساسها الراسخ ككل الأقليات الدينية والعرقية بالدول العربية والإسلامية. إن تدخل الامم المتحدة في قضية الأقباط لهو درس لشعوبنا وحكامنا، فما يحدث اليوم مع اقباط مصر قد يحدث غدا مع اقليات اخرى. ها قد بلغت اللهم فاشهد.

جوزيف بشارة