.. قبل الحديث عن أي quot; تغيير quot; ينبغي التأكد من تحقق الشروط العلميّة للأزمة المستهدفة من قبَل quot; فعل quot; التغيير هذا. وعن الأزمة، ذاتها، فليس من العلميّة بمكان أن تظل مجرّد إحساس بالمساءة، أو فزّاعة عاطفيّة، إذ هي في أبسط تعريفاتها : احتمالات الفشل والنجاح، الفرصة والخطر. بمقدورِنا، بعد اتفاق مبدئي على تعريف الأزمة، أن نتعامل مع احتمالات الخروج منها كواقعيّات فُرَص بنفس درجة وعيِنا للخطر، فكما أنّها تحوي في داخلها غوريللا الانهيار هي كذلك مليئة باحتمالات النجاح، سواءً بسواء..


هناك شكلان للأزمة، حادّة ومزمِنة.. فالحادة غالباً ما يترافق معها وعيٌ حاد بوجودِها ويدفع باتجاه تجاوِزها بوعي كامل بمخاطرها، وبفعل هاجس البقاء نفسه. فالتغيّرات الحادّة عن المعيار غالباً ما تكون ملحوظة ومحسوسة على نحو فاضح، وهي التي ينصرف مفهوم quot; الأزمة quot; -التعريف السابق - إليها. في حين تتكاثر الأزمة المزمِنة في ظل غياب القدر الكافي من الوعي بها، بل على العكس : فإنّ الأزمة المزمنة غالباً ما تتصالح مع الجمهور، بوصفِها شرّاً يمكن اتقاؤه بالتغاضي والقناعة. والأزمة بهذه الميكانيزم الخفيّة ( المزمِنة ) هي الشكل الأكثر شيوعاً، والمسؤولة عن انهيار أرقى المشاريع الحضاريّة، كمشروع الدولة، ومشروع الوحدة..


دائماً ما ينشأ، في ظل هوجة الإحساس بالفزع بسبب من الأزمة، سؤال عريض لا يحظى بإجابة كافية : ما هي الخطوة الأولى الصحيحة؟ وهو سؤال مفرّغ، بالضرورة، إذ من المفترض أن يرافقه سؤال يملأه : من هي الفئة المنوط بها القيام بالخطوة الأولى الصحيحة؟ غير أنّ ما يحدث أثناء الأزمة ( أي أزمة ) هو ضخ حِزَم وسلال من الحلول والتشخصيات تفضي كلها إلى تضبيب الذاكرة الجماعيّة وربما توسيع الشق على الراتق. وخطورة التعامل مع الأزمة بهذه الطريقة تنشأ من حقيقة أنّ مهاجمتها بخطاطات مشروع متكامِل ليست عملاً رساليّا كونها تفترِض في الأزمة توفّر الشروط الموضوعيّة الكاملة للتغيير الجذري، وهذا ما ترفضه واقعية الأزمة التي لا تفسح مجالاً لغير الخروج من الورطة بحل وحيد، شرعيّته هي النجاة بالمشروع الكبير ( الدولة على سبيل المثال ) إلى مساحة جديدة غير مأزومة، بالإمكان بعدئذٍ اختبار حقول الإجابات والحلول وتأهيل العلمي والمنطقي، فيها.


وبشكل علميّ سيمكننا افتراض التالي : يتحرّك المجتمعُ البشري بشكل متوازِن، وفي طريقه يخلّق مشاكله ويبدع حلولَه. ولأسباب كثيرة، يمكن تخمينها على كل حال، تحدث انشقاقات في هذا المسار على هيئة اضطراب أو انقطاع أو انهيار أو أي حدث يؤدّي معنى الانشقاق. تتناسل هذه اللحظات المأزومة بفعل تراكم تاريخي لمشاكل لم تُحَل، فمن طبيعة المشاكل أنها حين تترك في الخلف فإنّها تقفز إلى المقدمة. هنا يطرح السؤال العلمي نفسه : ما هي الخطوة الأولى الصحيحة للخروج من هذه الدائرة؟ وبالطبع فهذا السؤال لا يحتمل الجواب التقليدي (انجُ سعدٌ فقد هلك سعيد )!؟ وبحسب قواعد الرياضيات فإنّ الخطوة الأولى الصحيحة هي العودة إلى الخطوة الأخيرة الصحيحة، تلك التي سبقت أول ظهور لمشكلة لم تُحل.


بمعنى: إعادة الانتظام في النسق السليم، في مرحلة ما قبل الانهيار. وهذه الفكرة ليست شعريّة البتّة، فمثلاً : رافقت حركتي التصحيح الديني والتنوير،الأوروبيّتين، عملية إعادة الانتظام في النسق التاريخي السليم، في مراحل ما قبل الانهيار، رغم غروبها في التاريخ. وكان أن أحيى التنويريون التراث اليوناني والروماني، وفلسفطة أفلاطون، وحتى قصائد الشاعر ( أوشن ) الغارقة في القدم، فقد ترجِمت وأعيدت إلى الجماهير. وهنا يجدر بنا أن نشير إلى السؤال المرافق : من هي الفئة المنوط بها فعل التغيير؟ في الواقع كان المثقف هو الشخص المبادِر، والمؤهّل في الوقت ذاته لقيادة الحلم الجماهيري. نلاحظ في قراءاتنا لحركات التنوير أن أول مبدإ أطلِق في سماء الأزمة الأوروبيّة كان هو quot; حريّة التعبير الأدبي quot; وهو المبدأ الذي قاد، بالضرورة والحتميّة، إلى مبدإٍ آخر وهو : حريّة الفرد، ثم الحريّةِ عموماً. فالجماهير لا تهتم كثيراً للبحث عن الحل الصحيح رقم واحِد، فهي غالباً ما تكتفي بالشكوى والتذمّر، ولا تفارق هذه المنطقة مهما كانت ضراوة الأزمة. وهي الحقيقة التي تدعو إلى الدور النبوئي للمثقف غير المتعالي والمشترك مع الجماهير في أشواقِها. فهي ( أي الجماهير ) عندما تظاهرت على لويس السادس عشر وخرجت إلى الشارع العام بفعل ضربات التنوير التي فجرتها مسرحيات وكتابات موليير ومونتسكيه وفولتير وشيلّلر وجوته وبومارشيه وغيرهم، هذه الجماهير وقفت أمام قصر الملك تندد بالحاكم وبالوضع ( الأزمة ) حتى تعِبت.. لأن جواب السؤال العريض : quot; ما هي الخطوة الأولى الصحيحة quot; لم يكُن قد تشكّل بعد، إلى أن وقفت امرأة أمام الناس وصاحت : إلى الباستيل، و كانت هي الخطوة الثانية الصحيحة، بعد شيوع ثقافة الإحساس بالظلم والرغبة في التغيير، أي تدمير رمز الظلم الاجتماعي واللاعدالة. هذا المبدأ هو نفسه مبدأ quot;المعتزلة quot; في الإسلام حين رفضوا التثوير إلا في حالة واحدة وهي quot; ثقة عناصر الثورة من النصر وتحقيق التغيير quot; رافضين التثوير في ظل قوّة الدولة، خوفاً من انهيار المجتمع، وهو ما يعني : تعميق الأزمة وقطع الطريق دون احتمالات الخروج منها..


في quot; طبائع الاستبداد quot; يضع الكواكبي ما يراه حلّاً لسؤال الخطوة الأولى الصحيحة في محاولة للخروج من أزمة الحكومة المستبدة - quot;عرّفها بأنّها حكومة مطلقة العنان، تتصرّف في شؤون الرعيّة كما تشاء بلا خشية حشاب quot;.. يقول الكواكبي : ( إنّ الاستبداد لا يقاوم بالقوّة، إنما يقاوم باللين والتدرّج، ببث الشعور بالظلم وهذا يكون بالتعليم والتحميس لأن الاستبداد محفوف بأنواع القوّات... ) وطبيعي أن يحتوي هذا الرأي على إجابة السؤال المرافق ( من هي الفئة المنوط بها القيام بفعل التغيير؟) فمّما يمكن استنتاجه من حديث الكواكبي أنّ دور التعليم والتحميس لا يمكن أن يقوم به غير المثقّف الرسالي. يمكننا استثناء السياسي من القيام بهذا الدور، كون السياسي يعمل في التبشير ببرنامجه أكثر منه في بث المعرفة والوعي العام، وتأهيل الضمير الجماعي. الإمام محمد عبده أجاب عن السؤال ذاته بقوله : quot; وها نحن بعد النظر لا نجد سبباً لرُقي أوروبا في الثروة والقوة إلا ارتقاء المعارف والعلوم فيما بينهم حتى قادتهم إلى رشدهم quot;. واضح أيضاً أن الإمام محمد عبده يقترب من الكواكبي في تحديد دور المعرفة والوعي، خاصة الوعي بالحقوق والحريّات، كما رددها الإمام نفسه في أكثر من موضع، وبث روح التحدّي والمغامرة وتفجير السؤال الحضاري، وثقافة الممكن واللامستحيل.. هذه القيم هي الإجابات الأعمق عن سؤال الخطوة الأولى. مهاتير محمد، الرئيس الماليزي السابق، يتحدّث عن إجاباته عن مثل هذا السؤال : جعلتُ من عبارة quot;ماليزيا قادرة على فعل كل شيء quot; أهم تحدٍ أمام قوم من الرعاة والعاملين بالسخرة، فنجحوا..


أيضاً، على هامش لقاء ثقافي وجّهت السؤال ذاته ( ما هي الخطوة الأولى الصحيحة ) إلى د. عبد الرحمن البيضاني، فكانت إجابته مختلفة تماماً. قال لي : اليمن حقل قنابل موقوتة، والجوع هو الخطوة الأولى للتغيير. ففي بلد أصبح يبيع الأعراض والأعضاء الجسديّة، لا يمكن أن نبحث عن جواب آخر غير هذا الجواب المتوفّر، وهو ما يجعل من الأزمة اليمنيّة مشكلة عالميّة. ذكر أمثلة لتدويل الأزمة من التاريخ مثل اعتراض سفينة إسرائيلية في باب المندب سنة 1972م وما تلى ذلك من كتابات لمسؤولين إسرائيلين يطالبون برقابة دولية على باب المندب. لقد أراد البيضاني أن يتحدّث عن الأزمة بأمثولتها اليمنية الراهِنة، وجعل من الضمير العالمي بالإضافة إلى الجوع والفقر الداخلي جواباً جاهزاً لسؤال الأزمة، وسؤال من يقوم بالتغيير، معاً. بادرتُه بقراءة وثيقة حزب الأحرار التي أرسلت إلى حاكم اليمن الإمام يحيى في 19 يونيو - 1944م. قلتُ له : جاء في الوثيقة ( إن مطلبنا هو إنقاذ الأمّة من المجاعة التي ألجأتها إلى قطع المسافات بحثاً عن الشجر وتموت في سبيل طلبه، واضطرتها إلى أكل الحيوانات من بقر ميّتة وحمير وقرود، وغير ذلك وسببت الأمراض المخيفة المتنوّعة والوفيات الكثيرة حتى أصبح كثيرٌ من الموتى في الطرقات تمر بهم قوافل الجمال التي تحمل أموالهم وثمار أتعابهم لتخزن في قصورِكم وفي المغارات التي أعددتموها لذلك..) ثم تساءلتُ أمامه : فعلى الرغم من أن الأمن الاجتماعي والغذائي الآن أصبح أرقى من مثيله في الأربعينات، كما يتضح من رسالة الأحرار، إلا أن الثوار الطليعيين عندما قرروا القيام بالثورة لم يذهبوا إلى الجماهير الجائعة بل توجّهوا إلى الجيش. إن هذا الأمر يعني تماماً سقوط الجوع كجواب لسؤال : الخطوة الأولى الصحيحة، و يعود بنا إلى التعريف السابق عن الأزمة الحادة والأزمة المزمِنة. فببساطة متناهية يمكننا تتبّع كل ثورات الجوع لنكتشف أنها ثورات أعقبت الأزمة الحادة وليس الأزمة المزمِنة، فالأخيرة تسمح بالمصالحة معها، بينما تقود الأولى إلى المصادمة والفعل الثوري..أحسبُ أنها اللحظة المناسبة ليعمل المثقف من خلال نشر الوعي العام، بالنص الشعري والمعنى الجمالي والنقد المسرحي وحتى الإدعاء الفلسفي، ثم تفجير هاجس المغامرة و تخليق غواية الصعب والمستحيل.. إن هذه القيم الذهنيّة هي التي تكفل نشوء عقل نقدي يؤدي بدوره إلى مجتمع معرفي متسائل ومتماسِك يصعب خداعه من خلال برنامج سياسي لحزب، أو إصلاحات دعائية لحكومة، فتشكيل ملكة العقل النقدي تأتي لاحقاً لتأهيل العقل المتسائل والمبدع. هذه هي الخطوة الأولى الصحيحة، للخروج من الأزمة.. وهو دور المثقف النبوئي.

مروان الغفوري

القاهرة

مارس - 2006