لم تعد هناك جهة أو سلطة تستطيع أن تنكر وجود القضية القبطية أو تتجاهل الحركة القبطية المطالبة بالحقوق الدينية والمدنية و السياسية. فقد أثبت الأقباط داخل مصر و خارجها أنهم قادرون على تكوين حركة حقوقية تمتد جذورها فى أعماق مصر بمؤيدين من الأقباط و المسلمين من أجل مواجهة التحديات التى تتمثل فى العراقيل التى تقوم الحكومة بوضعها على طريق تحقيق المواطنة الكاملة فى مصر. وعلى الرغم أن هذا الطريق مازال طويلا إلا أن أكبر إنجازات الحركة القبطية هو إغلاق الفجوة بين الشعب القبطى داخل و خارج مصر،و هى الفجوة التى طالما حاولت الحكومة المصرية إستغلالها لتصوير الصحوة الحقوقية القبطية بطريقة خادعة على أنها ليست إلا نتيجة عمل شرزمة غاضبة تعيش و تتآمر فى الخارج مع اللوبى الصهيونى و اليمين المسيحى المتطرف.

و على الرغم من أن تاريخ مصر ملئ بالعديد من الملاحم البطولية على مر العصور لأعلام قبطية و حركات رفضت الظلم و الإضطهاد إلا أنه يمكن إعتبار الحركة القبطية الآن أنها أول حركة من نوعها تجتاز مرحلة عنق الزجاجة و التى لم تنجح أى حركة قبطية سابقا فى إجتيازها،وساشرح فى مقالة آخرى أسباب هذه الطفرة.

و قد إقيمت عدة مؤتمرات مهمة لمناقشة الشئون القبطية فى خلال العامين الماضيين بالقاهرة و زيورخ و واشنطن وكان أحدثها فى مونتريال، كما عقدت العديد من المؤتمرات المصغرة و الموائد المستديرة فى العديد من مدن مصر و دول أخرى. و كان من أهم العوامل المشتركة بين هذه النشاطات هى أنه كان هناك حرصا من النشطاء على أن تكون هناك مشاركة فعالة من مسلمى مصر و غيرهم من ممثلى طوائف و أقليات مصر بمختلف أنواعها، و أنه كان هناك فى المؤتمرات التى عقدت فى مصر حضور لمن يعيشون فى الخارج ومشاركة لنشطاء من داخل مصر فى المؤتمرات التى عقدت فى الخارج.
و بإزدياد نشاط الحركة القبطية فى ظل التغيرات السياسية فى مصر و العالم بشكل عام تزداد التحديات التى تواجه هذه الحركة، مما يطرح سؤالا هاما و هو quot;إلى أين تتجه الحركة القبطية ا؟quot;

و محاولة الإجابة على هذا السؤال هى جوهر هذه المقالة وهى تتطلب تقييم موضوعى لمكونات الحركة القبطية، و ربما لضيق المساحة هنا سيقتصر التحليل على أبرز هذه المكونات.

أولا الحركة القبطية هى حركة حقوق مدنية مثلها مثل حركات عديدة فى العالم و هى تقوم على قاعدة أخلاقية تتمثل فى الكفاح السامى السلمى من أجل رفع المعاناة عن الأقباط كنيسة و شعبا و أفرادا. و على الرغم من وجود العديد من النشطاء فى خارج مصر حيث ينتشر المفهوم العالمى للحريات الأساسية بشكل عام و الدينية بشكل خاص، و حيث هناك الوعى السياسى و الحقوقى بالإضافة إلى القدرة على التنقل مما أدى إلى مساهمة الشعب القبطى فى الخارج بشكل فعال فى تحريك القضية داخل الوطن الأم، إلا أن قوة الحركة القبطية تكمن فى الطاقات البشرية الهائلة للشعب القبطى داخل مصر بما فيه من نشطاء و حقوقيين.

و لأنها حركة واعدة فى حيز التكوين فهى ما زالت تناقش و تختبر الإتجاهات العديدة التى يشارك بها الأفراد و المجموعات التى تتكون منها و التى هى من طبيعة مثل هذه الحركات. فالتقدم التى تحرزه أى حركة حقوق مدنية يعتمد على مدى توازن مكوناتها، بمعنى أن معيارالتقدم يقاس بمعدل الطاقة المتبقية لدى الحركة ككل بعد عملية مناقشة الفروق الإتجاهية فيما بين جزئياتها. و لأن مناقشة الفروق بين تلك الجزئيات هى عملية ديناميكية فإن معيار التقدم حتما سيكون نسبيا عند أى نقطة من الزمن، و بمعنى آخر أن مؤشر التقدم هذا قد يتجه للأمام أو يقف أو حتى قد يتجه إلى الخلف. و من ثم يتحتم إلقاء بعض الضوء على أهم هذه المكونات، و التى يحدد تنافسها إتجاه مسار و سرعة الحركة.

و هنا نأتى إلى بعض هذه الإتجاهات و التى من أهمها: الإتجاه الحقوقى والإتجاه السياسى و الإتجاه الدينى.

1) الأتجاه الحقوقى
يعمل الإتجاه الحقوقى البحت من منطلق عالمية حقوق الإنسان و يسعى من خلال القوانين المحلية و الدولية لإقناع السلطات المصرية بالوفاء بوعود و إلتزامات الدولة تجاه الدستور و قوانين حقوق الإنسان الدولية التى وقعتها الحكومة و صدقت عليها السلطة التشريعية للدولة. و على الرغم من أهمية هذا الإتجاه إلا أنه ما زال ضعيفا مقارنة بالإتجاهات الأخرى و التى ستناقش فيما بعد فى هذه المقالة. و من أهم أسباب ضعف الإتجاه الحقوقى:

ا) سيادة الإتجاه السياسى للحركة فى العقود الثلاث الماضية بشكله التقليدى فيما يختص باللجوء إلى دول أخرى ذوى ثقل إقتصادى و سياسى من أجل الضغط على الحكومة المصرية حتى ترفع المعاناة عن الكنيسة القبطية و رأسها قداسة الأنبا شنودة الثالث و شعب الكنيسة (فى بداية تكوينها إقتصر نشاط الحركة القبطية إلى حد كبير على ردود أفعال لإنتهاكات الحكومة المصرية و لم تكون ميكانيزم فعال و متواصل للحركة).

ب) بطء مسألة الإجراءات الدولية فيما يخص الجهات المعنية بمنظمة الأمم المتحدة و التى هى الراعى الأول و المسئولة عن وضع القانون الدولى الخاص بحماية حقوق الإنسان و مراقبة تصرفات الدول و العمل معها على تطبيقه على المستوى المحلى..

ج) ندرة الخبرة داخل الحركة القبطية بالقانون الدولى لمن يعيشون خارج مصر و عدم توافر الإمكانات المادية و الإستعدادات المعنوية و المهارات اللغوية للكفاءات القانونية بداخل مصر، بالإضافة إلى الشعورالعام بالإحباط من الجميع نحو الطريق الحقوقى المتسم بالبطء.

أما عن أهم مزايا المسلك الحقوقى فهى:
أولا، رغم بطء الإتجاه الحقوقى إلا أنه المسلك الوحيد الذى سيكون له أثر إيجابى دائم فى إدراك حقوق الإنسان المسلوبة و المواطنة الكاملة التى ينشدها و يستحقها الأقباط فى مصر. فهذا الإتجاه يعالج مع قضية الأقباط قضية مصر العظمى و المسئولة عن جميع مشاكل مصر ألا و هى قضية المؤسسات.

ثانيا، الإتجاه الحقوقى هو المسلك الوحيد الذى سيحتفظ للأقباط بالقاعدة الأخلاقية التى تتسم بها القضية القبطية، و خاصة على الصعيد الدولى حيث تعرف الحركة بأنها حركة سلمية أخلاقية لا تؤمن بالعنف و هى فى ذلك تقف على نفس القاعدة الأخلاقية مثلها مثل حركة أهل التبت و غيرها من الحركات السلمية التى حازت على إحترام و تعاطف العالم.


2) الإتجاه السياسى
هو أقوى الإتجاهات فى الحركة القبطية و لا يمكن تجاهله فهو مصدر قلق الحكومة المصرية الأول من هذه الحركة. و قد تعود الضغوط الخارجية و التى يسفر عنها هذا الإتجاه بين حين و آخر إلى ما قد تبدو و كأنها مكاسب، و لكنها قد لا تكون فى الحقيقة تتعدى أكثر من إجراءات ربما مؤقتة من أجل إرضاء الجهات التى تقوم بالضغط من ناحية و من أجل إمتصاص طاقة الأقباط من ناحية أخرى. و الحقيقة أنه لم تسفر هذه الضغوط السياسية حتى الآن إلا عن تحقيق جزء ضئيل من مطالب الأقباط المشروعة، و حتى هذا الفتات الذى يحصل عليه الأفباط من جهة الحكومة دائما ما تصاحبة حملات إعلامية معادية للأقباط و مثيرة لمشاعر البسطاء مما يؤثر سلبيا بالطبع على الأقباط فى الشارع المصرى.

و لا شك أن الإتجاه السياسى فى الحركة القبطية يبدو و كأنه يتسم بنوع من الميكيافيلية حيث يكثر الحديث عن quot;إحراز نتائجquot; و لا أكثر دليلا على ذلك من وجود بعض التحالفات السياسية بين هذا الإتجاه و منظمات أو إدارات سياسية لدول عظمى لا تعبء لا بالقانون الدولى و لا بمبادئ حقوق الإتسان و الديمقراطية التى طالما يتشدقون بها و يستخدمونها لتغطية إنتهاكات أفظع من التى ترتكبها الحكومة المصرية. و هذه الظاهرة لا تقتصر على الإتجاه السياسى داخل الحركة القبطية بل تشمل قطاع عريض ممن ينتمون إلى المفهوم الشرق أوسطى لليبرالية، والذى يبدو منحازا للغرب و بعض سياساته المنتهكة لحقوق الإنسان فى الشرق الأوسط،أو على الأقل غير مناهضا لها بشكل علني، منه إيمانا بالمبادئ السامية التى لها جذور فى الحضارة الغربية، و لكن يندر العثور عليها فى السلوك السياسى الدولى لبعض هذه الدول. و على سبيل المثال يجد المراقب أنه على الرغم من التأييد الأمريكى لقضية الأقباط إلا أن مصالح تلك الدولة مع الحكومة المصرية دائما تأخذ الأولوية على مطالب الأقباط، حتى أن التقرير السنوى الذى يصدر عن لجنة الحريات الدينية لم يذكر الكلمتان التى يثيرا غضب الحكومة المصرية و هلعها فى آن واحد وهما: إضطهاد و أقليات. و هكذا فإن الوقوع فى فخ تسييس حقوق الإنسان أو الدخول فيه تطوعا ربما بحجة الإسترتيجية قد يؤذى أكثر مما يفيد لأنه لا يمكن أن تكون هناك مصداقية لمن يكيل بمكيالين. و ليس بمفاجاءة لأحد أن تستغل الحكومة المصرية نقطة الضعف هذه لتطعن فى الحركة القبطية ككل فى حملات البروباجاندة المقيتة، حتى أنه لم تعد تفتح القضية فى أى مجال إلا و يطغى على الحوار موضوع التدخل الأجنبى.

3) الإتجاه الدينى
و يعتبر هذا الإتجاه من أخطر مكونات الحركة القبطية، ليس لكثرة أقطابه العددية بل لدرجة تأثيره السلبى على مسار الحوار الحقوقى. فهذا الإتجاه يرد على رفض الأخر بالرفض و التشويه. و لا شك أن معاناة الأقباط و المسيحيون عموما من جراء إزدراء المسيحية هى تجربة يومية يمرون بها عبر قرون طويلة تحت الحكم الإسلامى، و ليس من العدل أن نطالب الأقباط الذين يمارسونها ضد المسلمين بالكف عنها قبل أن يتوقف الأخرون عن ممارستها ضدهم كل يوم. و لكن خطورة هذا الإتجاه الحقيقية تكمن فى التأثير السلبى على مزاج و روح الإتجاه الحقوقى و الذى هو كفيل بالتعامل مع إزدراء المسيحية بالقانون.

ففى ظل إحترام القانون الدولى لا يمكن للإسلام أن يشكل خطرا على المسيحية. فلو طبقت الحكومة المصرية المادة 18 من العهد الدولى للحقوق المدنية و السياسية و التى صدقت عليه مصر عام 1982 و التى تضع (بعض الحدود على الممارسات الدينية) لمنعت بالقانون كل من يزدرئ المسيحية و المسيحيين حتى و لو إدعوا أن هذا الإزدراء ينبع من ديانتهم، فحرية ممارسة الأديان تقف عند حرية الآخر لممارسة دينه.

و بالطبع هناك إتجاهات أخرى عديدة و لكن ليست لديها القدرة على التأثير بشكل ملاحظ على الحركة القبطية. أما عن الإتجاهات الثلاث السابق ذكرهم فوجودهم فى حركة حقوق مدنية هو شئ طبيعى و لا يدعو للقلق لأنه لا يملك أحد الحق حتى لو إمتلك القدرة فى أن يفرض إتجاهه و رؤيته على الإخر، و لأن تفاعل مكونات الحركة مع بعضها البعض ثم مع العوامل المحيطة بها تجعلها بمثابة كيان ديناميكي يتغير وقت الضرورة ليضبط إيقاعه. و لكن يبقى أن حقوق الإنسان على الرغم من جذورها الدينية و الأخلاقية هى عند التطبيق لها محتوى قانونى يحمى كل فرد من الإنتهاكات و يسرى على كل فرد و كل مؤسسة.
عبد العزيز عبد العزيز ناشط وباحث متخصص فى مجال حقوق الأنسان مقيم بنيويورك.

عبد العزيز عبد العزيز

نيويورك
[email protected]