منذ بضعة أيام قرأت خبراً على قناة النيل المصرية يقول quot; المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل تكرم المهندس المصرى هانى عازر وتمنحه أرفع جائزة فى الهندسة المعمارية لتصميمه أكبر محطة أنفاق فى أوربا quot; أنتهى الخبر ثم شاهدت الفضائية المصرية التى أوردت نفس الخبر لكن بصورة أخرى حيث تقول quot; ميركل تفتتح محطة أنفاق برلين التى صممها المهندس المصرى هانى عازر quot; أنتهى الخبر. واضح جداً أختزال الأخبار وكيفية أفتخار الإعلاميين بالفضائية المصرية واضعى الأخبار بالتجاهل والتقزيم إن أمكن وتقديرهم لجهود أخوتهم المصريين المهاجرين الذين يبدعون دائماً فى الخارج بهذا الأسلوب الحضارى!
ذكرنى هذا الخبر بالندوة التى عُقدت مؤخراً بالدوحة عن هجرة العقول العربية وحاول الباحثين فيها الوصول إلى السبل الكفيلة بعودة آلاف العلماء والباحثين العرب إلى بلادهم للأنتفاع quot; بعقولهم quot; فى خطط التنمية وغيرها من الشعارات الحماسية التى تعلن دائماً للأستهلاك المحلى لكنها دائماً شعارات تسقط سقوطاً مجلجلاً على أرض الواقع العربى المتصحر عقلاً وجسماً.
سواء فى مصر أو فى عالمنا العربى الذى نصر بأفتخار تسميته العالم العربى تنتشر ظاهرة المهاترات والمجاملات والمشاعر العنصرية التى تتحكم فى أسس التعليم بكافة مراحله حتى الجامعة وأصبحت ظاهرة طبيعية فى شخصية المصرى متعلماً كان أو جاهلاً ومن بين الأمثلة التى توضح لنا الحالة المرضية هذه نجدها فى خبر إستقالة الدكتور سالم أحمد سالم أستاذ طب الأطفال بكلية طب جامعة المنيا لأن ضميره الإنسانى عايش جريمة واقعية وأستقال أحتجاجاً على quot; الممارسات المعادية لحقوق المواطنة والظلم الذى مُورس ضد باحثة مصرية بسبب ديانتها المسيحية quot;، والمثال الأخر هو ما فعلته الدولة والمثقفون المصريون مع الحائز على جائزة نوبل الدكتور أحمد زويل الذى كان يخطط للنهوض بالتعليم المصرى وإنشاء الجامعة التكنولوجية وغيرها من مشروعات، تلك المعاملة السيئة خاصةً من أجهزة الدولة حتى جعلوه يطفش بمشروعاته التى كان يريد تقديمها لشعبه شعب مصر ومن قبله الكثير من العلماء المخلصين الذين أرادوا فعل نفس الشئ لكنهم اصطدموا بالمعوقات quot; الطبيعية quot; فى أجهزة دولتنا المصرية ولا ننسى ما حدث مع العالم الكبير الدكتور فاروق الباز وغيرهم من العلماء الذين يساهمون فى صنع الحضارة الإنسانية فى بلاد المهجر ولو حدث خطأ وقرر أحدهم قرار لا رجعة فيه ترك بلاد الفرنجة والعودة إلى الوطن لكانت نهايته الحتمية إما الموت قصير العمر أو الرضى بقليله والجلوس على كرسى فى أحد مكاتبنا الحكومية وإذا جاء أحدهم بالصدفة ليسأله عن أبتكاراته العلمية سيجيب عليه ببراءة مصرية quot; فوت علينا بكره quot; !
ينسى العربى أنه ينتمى إلى ثقافة خاصة جداً وأنظمة سياسية خاصة جداً وشعوب خاصة جداً، يعنى كل شئ فى بلادنا quot; العربية quot; له خصوصية كبيرة جداً، لذلك من السهل لحكماء هذا الزمان من مثقفين وسياسيين وبسطاء الشعب أن يرفضوا أى تدخل quot; أجنبى quot; فى عملية التطوير والإصلاح الذى تقوم به القوى الوطنية، فهؤلاء العلماء أصبحوا أجانب فى نظر الجميع وترحب بهم الدولة المصرية وتقيم لهم الحفلات والموائد العامرة بما لذ وطاب وبعد أن تنتهى الهيصة كل واحد يذهب إلى بيته أو إلى بلده، يعنى لسان حال المصرى بيقول لعلماء المهجر quot; أحنا مبسوطين كده quot; والإصلاح لا بد أن ينبع من الداخل ولا نرضى أن يفرض علينا أحد تعليم أو إصلاح أو ديمقراطية، لأننا بلاد الإصلاح والديمقراطية وحضارة السبعة آلاف سنة بل وحضارة الإنسان الحديث الذى أستطاع أن quot; يعبأ الشمس فى زجاجات quot; ! !
هذه الأمثلة تعبر عن واقع ليس فقط عن طبيعة الأنظمة العربية الدكتاتورية وإنما تعبر عن دكتاتورية الشخصية العربية عموماً وطبيعتها الإستعلائية التى تطلب الحرية لنفسها وترفضها لمن يختلف معها فى الرأى أو العقيدة، تلك الثقافة وذلك التراث الدكتاتورى يكشف عرى أنظمة التربية والتعليم العربية التى ألحقت التخلف الفكرى عن واقع الإنسان الحقيقى.
لذلك الحاجة تلح أن تستيقظ الأفراد والشعوب المندهشة التى تعيش حالة إندهاش مستمر من الثورات العلمية وإندهاش وسخط من الفساد الغربى وإندهاش من ديمقراطية الشياطين، هذا الأندهاش المستمر الذى يصاحبه التفكر المستمر بلا هدف طبقاً لخصوصية العقل العربى أقصد الفكر العربى لأن العقل واحد فى الشرق أو الغرب لكن الفكر أو الثقافة هى التى تحدد هويته، أتمنى أن يتوقف المرء هنيهة عن إندهاشه المستمر حتى لا يأتى اليوم الذى ينظر العالم إلى جهلنا ويقول ساخراً : أصحاب العقول فى راحة!!


ميشيل نجيب