مضى الوقت الذي كانت فيه كاميرا التلفزيون ترافق الضيف من المطار الى قصر الضيافة او الى الفندق ينزل

فيه، ومضى الوقت الذي كانت فيه اخبار الاستقبالات الرسمية تأخذ ثلثي نشرات الاخبار فيما بقية احداث العالم الساخن منه والطريف لا تأخذ الا الثلث الباقي. لكن هذا التغير في العمل الاعلامي الخليجي لاينفي ان محتواه لازال يعاني من ضعف بنيوي كبير ومن تسلط قوالب شكلية لم يستطع الافلات منها ولا يعرف احد سببا للتمسك بها. بل غدت هذه القوالب من فرط تكرارها اشبة بمقدمات الخطب الدينية التي لم يستطع خطباء المساجد في عالمنا العربي والاسلامي الى الآن،ابتداع صيغ بديلة عنها فأعادوا تكرارها مرة بعد مرة مضفين عليها طابع التقديس، وكانها جزء من الكتاب المنزل الذي لايجوز الخروج عليه، والتجاوز على نصوصه.


وطابع التقديس للقوالب الموروثه والصيغ الجاهزة نجد تجليات له في الاعلام الخليجي ففي المحتوى لازال الطابع الشخصي هوالمسيطرعلى العمل الاعلامي.فأي خبر مهما كان شأنه ومهما كان موضوعه لابد ان يبدأ بمقدمة برتوكولية مطولة تشير الى توجيهات من المسؤول الاعلى ومتابعة من المسؤول الادنى منه وتنفيذا لتعليمات من مسؤول ثالث، ومع كل اسم من هذه الاسماء تذكر الوظيفة او الوظائف التي يشغلها او اللجان التي يرأسها وهي وظائف ولجان يستغرق ذكرها وتسميتها اكثر من ثلث المساحة التي يشغلها الخبر.
وبخلاف الملل الذي تثيره هذه الصيغ والمصطلحات الاعلامية الممجوجه، وبخلاف ثقافة النفاق الاجتماعي التي تشيعها، فهي تعكس الى حد كبير نظرة بعض المسؤولين الى الوظائف التي يشغلونها. فهم من خلال تغطية نشاطاتهم بهذا الشكل الفج من النفاق انما يؤكدون انهم ينظرون الى الوظيفة باعتبارها منحة من المسؤول الاعلى، وليس حقا لهم نالوه بقدراتهم ومؤهلاتهم وخبراتهم.ولذلك فهم في سبيل تأكيد اعترافهم بالجميل يجزلون لذلك المسؤول الثناء المجبول بالنفاق من خلال الاشارة الى توجيهاته وتعليماته علما بأن المسؤول المشار اليه لايكون في غالب الاحيان على علم بما يجري او يحدث في الدائرة الادنى خاصة اذا كانت له مسؤوليات وواجبات متعددة اخرى. ولان الطابع العام للخبر او الموضوع هو طابع مجاملة ونفاق، فأنه يأتي خلوا من اي معلومات موضوعية ناهيك عن اي اشارة للسلبيات التي يفترض في الاعلام ان يكشف عنها او يشير اليها.


وقد نتج عن ذلك ان المسؤولين على اختلاف مواقعهم واختلاف مسؤولياتهم،اصبحوا يتعاملون مع الاعلام والصحافة، (كتشريفاتية ) هدفها، الاحتفاء بهم والاشارة الى مناقبهم وانجازاتهم بل وتجميل اخطائهم وتبريرها -- هذا ان ظهر منها شيء الى العلن ---.


ولذلك فأن ظهور المسؤولين في وسائل الاعلام لم يعد محكوما بنشاطهم ونشاط المؤسسات التي يديرونها بل بالمزاج الشخصي للمسؤول وكأن ظهوره وتصريحه نوعا من التفضل على الاعلام وتبريكا له. ومن هنا شاع استخدام تعبير (low profile )او بالعربية عدم حب الظهور عند الاشارة الى المسؤولين الذين يمتنعون عن الادلاء بتصريحات ويتجنبون الصحافة والاعلام. وكأن الظهور الاعلامي جزء من الامتيازات الكثيرة التي يتعين ان يتمتع بها المسؤول او يتعفف عنها ان اراد ورغب.


وقد بدا هذا (التبرير الناعم ) مقبولا اجتماعيا بالرغم من انه تعبير عن عجز المسؤول الذي يتمترس خلفه. فالاصل ان ظهور المسؤولين امام الاعلام والصحافة واجب وجزء من مهام وظائفهم وتأكيد على الكفاءة والمقدرة التي يتمتعون بها،هذا اذا كان دور الاعلام هو السؤال والتحقيق عما يفعله هذا المسؤول او ذاك او هدفها الحصول على اجابات عن الاخطاء التي وقعت في نطاق اختصاص هذه الدائرة او تلك. ولعل اطلاق تعبير السلطة الرابعة على الصحافة والاعلام لم يأت اعتباطا فهي في واجبها لاتتبع سلطة اخرى ولا تأتمر بأمر جهات الاصل انها في موضع التساؤل والاستجواب.


ولعل شيوع اعلام العلاقات العامة، من بين ابرز مظاهر ظاهرة الشخصنة التي يعاني منها الاعلام العربي والخليجي بشكل خاص.فالهوة التي تفصل بين الاخبار الصحفية التي تعدها شركات العلاقات العامة--- بمقابل مادي من الجهة التي تستخدمها----، وبين العمل الصحفي المهني بدأت تضيق لدرجة كبيرة، واصبحنا نرى تقارير العلاقات العامة التي ترد الى الصحف تنشر( بعجرها وبجرها ) وبنفس الفاظ التفخيم والتعظيم. واللافت ان الاعلام الخاص وقع هو الآخر ضحية للتقارير السابقة التجهيز او تقارير شركات العلاقات العامة. ويرجع ذلك الى عدم توفر بدائل للوصول الى المعلومات او لان المؤسسات الاعلامية الخاصة باتت اكثر تشددا في الصرف واكثر حذرا في الاعتماد على كوادر محترفة قد تضع هذه الصحف في مواجهة مع السلطات.


والغريب ان المؤسسات الحكومية والمؤسسات العامة لم تعد ترضى حتى بتغطية وكالات الانباء الرسمية، بالرغم من انها وكالات احترفت لغة التفخيم والتعظيم وفرضت مفردات وصيغ على الساحة الاعلامية، فبدأت تلك المؤسسات هي الاخرى بالاستعانة بشركات العلاقات العامة لتغطية انشطتها واخبارها في اقرار مباشر بالطابع الاحتفالي والبرتوكولي لهذه الانشطة. بعد ان اصبحت الاخبار سابقة التجهيز هي الاصل في كل ما يصدر عن تلك المؤسسات.والغريب ان لا احد يبدى احتجاجا على استخدام شركات العلاقات العامة للاعلام عن الانشطة الحكومية بالرغم من ان هناك شبهة ان تكون مثل هذه الممارسة مخالفة للقانون.فالقانون من الناحية النظرية يلزم مؤسسات الدولة الافصاح والشفافية عن اعمالها لا ان تكتفي بالبيانات التي تصدرها وتفصلها على المقاس الذي تريد.


يضاف الى ذلك ان شركات العلاقات العامة اعادت المهنة الى الوراء من خلال اعتمادها على كوادر اعلامية غير مؤهلة وغير مدربة، واقصى ما تفعله هذه الكوادر القيام بترجمات حرفية ركيكة تفتقر للروح وتحرص على ارضاء المسؤول او الجهة التي تدفع لها.


وفي البحث عن جذور ظاهرة ( النفاق الاعلامي )-- ان جاز التعبير ndash; وجدنا انها مرتبطة بالتطور السياسي والاجتماعي والاقتصادي. فعلى المستوى السياسي فأن الاساليب التقليدية للتغطية الاعلامية تتراجع كثيرا في الدول التي تتوافر فيها تيارات وقوى سياسية وتحكمها القوانين، فيما تكون طاغية في الانظمة التي ترتبط بالاشخاص ويتراجع فيها دور التشريعات او التي يسهل فيها اختراق تلك التشريعات. وعلى المستوى الاجتماعي فأن الدور الذي تلعبه الصحافة والاعلام يرتبط بمستوى تأثيرهذه الوسائل مقارنة بتأثير الاتصالات الشخصية والقبلية. ففي بعض الدول فأن الوصول الى الحقوق او الحصول على المكاسب يكون اسهل من خلال الاتصال الشخصي اكثر من اللجوء للمؤسسات. وينطبق هذا الامر على المستوى الاقتصادي حيث تجد مؤسسات الاعمال ان كثيرا من مصالحها ونشاطها مرهون برضى المراجع العليا وهو رضى يعبر عنه بالاغراء او الاقصاء.ولعل الاعلانات التي تتسابق عليها المؤسسات الخاصة لتهنئة هذا المسؤول او ذاك بزفاف ميمون او المشاركة بالاحزان او منصب جديد او انجاب طفل او عودة من سفر ماهي الا نوع من الدفاع الاستباقي عن النفس لانها تعلم ان هذا المسؤول هو السند الذي يحميها عند الضرورة او الذي يسهل لها الاعمال عندما تحتاج.


و في غيبة الحصانة اللازمة لاعلام قوي وناجح وفي غيبة اعتراف بضرورة مثل هذا الاعلام وفي ظل استسهال البقاء اسرى لصيغ الاعلام التقليدية، تبقى ساقية الاعلام العربي عموما والخليجي خصوصا تدور بنفس الوتيرة ونفس المفردات والكليشهات. وسنظل نسمع ونقرأ الى وقت طويل انه بناء على توجيهات او تحت رعاية من فلان بن فلان أو مندوبا عن وزير 0000 ورئيس000 وبمتابعة من فلان بن علان وكيل 00000 ورئيس لجنة 000وعضو المجلس0000 قام فلان ثالث هو مساعد الوكيل الثاني والمشرف على 00000 بزيارة الى 00000 واستقبله عند وصوله فلان رابع هو رئيس دائرة 0000 وعضو المجلس البلدي في 00000.، وقبل ان نصل الى الموضوع يكون القاريء او المستمع قد غط في نوم عميق ليفيق على خبر جديد ومناسبة جديدة.


ان في الساحة الاعلامية الخليجية تجارب اعلامية تلفزيونية وصحفية جديدة تؤكد على ان الشلل الذي يعاني منه الاعلام الرسمي وبعض الاعلام غير الرسمي سببه الاساسي ليس سياسات الحكومة بل في القيود التي يفرضها القائمون على اجهزة الاعلام الرسمية، تحت ذريعة حماية الانظمة القائمة والتصدي للمعارضين لها والتبشير بمشروعها السياسي والاجتماعي. والواقع ان تلك القيود هدفها الاول والاخير هو الدفاع عن الوظائف التي تشغلها القيادات الاعلامية الرسمية التي باتت مكشوفة مهنيا بعد ان اصبحت في منافسة مع قوى اعلامية جديدة عابرة للحدود وتملك كوادر اعلامية قادرة على تقديم لغة اعلامية جديدة وبايقاع جديد يتناسب مع ايقاع العصر ولغته.


وحتى لايقال ان المطلوب هو تغيير الاشخاص نسارع للقول ان المطلوب للخروج من حالة الشلل التي تعاني منها بعض المؤسسات الاعلاميةفي المنطقة ايجاد صيغ جديدة، لاتكون للحكومات فيها اي سيطرة مادية او مهنية على وسائل الاعلام.فالغاء وزارات الاعلام على اهميته يجب ان يكون متبوعا بالغاء ملكية الدولة للمؤسسات الصحفية ووسائل الاعلام المسموعة والمرئية، كما يجب ان يكون متبوعا بالاعتراف بالاعلام كسلطة رابعة وآلية من آليات الرقابة المجتمعية على اداء السلطة ونزاهتها.ان مثل هذا الاعتراف لايعني بالضرورة الدخول مع الاعلام في خصومة بل سيساعد في ايجاد قاعدة تأثير جديدة بعد ان فقد الاعلام الرسمي تأثيره بل واصبح اداءه عبئا على الانظمة لاحرزا لها.

تاج الدين عبد الحق