بعيداً عن الكلام الدبلوماسي المنمق، فلم يكن حضور الرئيس الإيراني أحمدي نجاد لقمة مجلس التعاون لدول الخليج quot;الفارسيquot; ربما هذه المرة، حدثاً عابراً، البتة، وسيلقي بظلاله لوقت طويل على مشاهد هذه القمم المقبلة، وسيفتح أفاقاً جديدة من التعاطي السياسي والتعاون الإقليمي بين دول الخليج العربي وإيران، ومن منظور جديد، وسترك آثاره على مجمل النظرة العامة للدور الإيراني في المنطقة بعد عقود من التوجس والريبة والمخاوف المتبادلة على ضفتي الخليج. هي ضربة المعلم الإيرانية وملاليها قادمون من على أنقاض أسوار الرفض التقليدية لدورهم الإقليمي. وها هم يحصدون اليوم أثماناً، ولو بدت معنوية وإعلامية حتى الآن، مقابل الملف النووي الخطير الذي كانوا قد طرحوه على ساحة اللعب الإقليمي.

وطبعاً هذا الحضور لم يكن، البتة، خارج توافق وإجماع خليجي عام عليها، ويعلم الجميع بالطبع ما هو الحال بالنسبة للموافقة الضمنية والضوء الأخضر الأمريكي الأكبر. إذن لقد quot;انصاعquot; أعضاء المجلس الخليجي لأمَرّ الخيارات الإستراتيجية طراً التي كابر عليها ورفضها لعقود خلت، وتجلى بحضور الجار quot;الفارسيquot; القوي، وباللغة السائدة شوارعياً، هذا إذا علمنا أن محاولات دؤوبة وحثيثة سابقاً قد باءت بالفشل لدعوة دول عربية تربطهم معها وشائج القربي وأخوة quot;العقيدة والدمquot;. فما عدا مما بدا، ليتم رفض الأشقاء في مقابل حضور quot;الغرباءquot; الألداء؟ وما هو سر عدم إثارة مواضيع وملفات حساسة كالجزر الإماراتية، إذا لم يكن هناك ثمة قضايا كبرى قد مُـرِّرت من تحت الموائد الأنيقة وطالما أن الجميع كان يعرج على ذلك الملف، ويلعلع بخطاب حماسي وعاطفي بمناسبة ومن دون مناسبة؟ وهذا إذا علمنا بأن عرب الخليج كانوا قد فرضوا طوقاً سياسياً وحظراً محكماً حول منظومتهم النفطية الإقليمية لم يسمح، ولم يتم اختراقه، وبهذه القوة اللافتة، إلا من خلال أحمدي نجاد ممثل آيات الله الأقوياء المحملين بترسانات عسكرية مرعبة خلخلت، وإلى الأبد، موازين القوى الإستراتيجية التقليدية في المنطقة.

لا شك أن ذلك الاختراق الإيراني المثير كان قد ترافق مع حملة إعلامية مفاجئة، ومن جهات مختلفة لتخفيف الاحتقان، وتهدئة التوتر الذي ساد طويلاً على محور الملف النووي الإيراني اعتقد كثيرون معه أن الصدام واقع لا محالة وهو قاب قوسين أو أدنى. وقد أدهشت التصريحات، والانقلاب الإعلامي الغريب ذو الصلة بالأمر الكثير من المراقبين، لاسيما بعد حدوث سلسلة من التوافقات والانفراجات الإقليمية المختلفة، على صعد وملفات أخرى شائكة، وكانت نتائج ومحصلة بارزة، بالطبع، لما جرى في كواليس أنابوليس. ولن ننسى أنه، وبالتوازي مع ذلك كله كان هناك، هدوءاً واضحة على جبهة العمليات في العراق، وتضاؤل الخسائر الأمريكية الشهرية لأدنى مستوى لها منذ بداية الغزو العسكري الأمريكي للعراق. هل ثمة ربط بين هذا وذاك؟ وهل تكون ساحة الخليج العربي quot;سابقاًquot;، والفارسي لاحقاً، وبعد هذه التطورات، هي حصة إيران من أنابوليس وجائزة الترضية الإقليمية لها مقابل تسوية أمر البرنامج النووي سلمياً، والقبول، ولن نقول الرضا، الخليجي المرّ بذلك طبقاً للتوجيهات، وربما تحت الضغوط والإملاءات الأمريكية المعهودة؟ فهل ربحت إيران الخليج اقتصادياً على الأقل، وفي هذه المرحلة، في عملية يانصيب التسويات الإقليمية؟ واستطاعت عبر دأب، وحنكة، وصبر ومهارة تفاوضية ودبلوماسية من انتزاع اعتراف إقليمي مدو بها ليس ببعيد عن إذعان أمريكي مر في خلفية المشهد؟

هذه من جهة، ومن جهة أخرى، يبدو أننا أمام مرحلة جديدة، وحقبة تاريخية جديدة من تفكيك آخر المنظومات والتكتلات الإقليمية العربية، بعد انهيار المنظومات الأخرى وتداعيها كمجلس التعاون العربي والمغاربي، وتداعي المشروع القومي العربي الأكبر، ذات صبيحة من حزيران quot;النكسةquot; التعبير الأكثر تهذيباً للهزيمة، أمام استحقاقات إستراتيجية أكبر وأهم شأناً وفاعلية. وسيكون هذه المرة لصالح الجار quot;الفارسيquot;، الذي أصبح أمر تجاوزه والتعامي عنه ضرباً من الغباء والطيش السياسي، ومرغم أخاك quot; الخليجيquot; لا بطل.

تبدو إيران اليوم أقوى من أي وقت مضى، وتتواجد بقوة في خلفية الطيف السياسي العام في المنطقة. لذا صار من الحكمة والبراغماتية السياسية أخذ دورها ومصالحها بالحسبان وبعين الاعتبار. والسؤال الآن ما هو ثمن هذا quot;التقايضquot;؟ وهل الدخول الإيراني من البوابة الخليجية سيقابله خروج من بوابات أخرى في المنطقة وإعادة هيكلة ما للمشهد العام؟ وما هي الأثمان التي ستدفعها إيران والكل يعرف في ألفباء العلم السياسي أن كل حركة بحساب، ولا شيء، يأتي، قطعاً، وهكذا بالمجان.

لقد بدت قمة مجلس التعاون لدول الخليج العربي، ومن منظور آخر، كتحصيل حاصل لما تم إنجازه، وكنشاط ملحق، ومتمم على هامش مؤتمر أنابوليس quot;الأمquot;، الذي أفضى على ما يبدو إلى انفراجات وصفقات أخرى quot;بينيةquot; لم تكن واردة في حساب أشد المراقبين تفاؤلاً نظراً للسرعة والكيفية التي تمت بها. وكأن جورج بوش الابن قد أدرك، وفي هذه الساعات الباقية والمتأخرة، بأن quot;الله حقquot;. ويريد، من جهة أخرى، أن يغسل في شهوره الأخيرة ما علق من أدران خلال ولايته التي امتدت لسبع سنوات قاسية عجاف عليه وعلى الدولار الأمريكي، بشكل خاص، والذي quot;طاحquot;، وأصبح بالأرض مقابل العملات الرئيسية، من فرط الخسائر السياسية والعسكرية المجلجلة والفادحة التي تعرض لها، وبات ينذر بانهيار اقتصادي أمريكي وشيك إذا ما استمر التدهور السياسي والحماقات البوشية على ما هي عليه، قابل ذلك quot;تأجيلquot; خليجي لفصل تحالف عملاتها مع الدولار لأن ذلك سيكون قاصمة الظهر للدولار، رغبة منها في إعطائه جرعة من الأمل المشوب باليأس حيال تلك العملة التي باتت وأصبحت شائخة وهزيلة بفعل السياسات المغامرة والتدميرية الخرقاء لجورج بوش، وربما تكون هذه واحدة من الخدمات الجليلة التي تقدمها المنظومة الخليجية الإقليمية وهدية الوداع الأخيرة للحليف الأمريكي.

ولا يمكن النظر لحضور العاهل السعودي عبد الله بن عبد العزيز، المتمنع سابقاً عن زيارة الدوحة، إلا كأحد تجليات تلك التوافقات وربما المصالحات الكبرى، كما هو الحال بالنسبة لشبه التوافق القائم على الرئيس اللبناني المقبل وإذعان صقور quot;الأغلبيةquot;، وتغير لهجاتهم وخطابهم لجهة تعديل الدستور بعد أن كان قد أعلن السنيورة سابقاً، بأنه سيقطع يديه قبل أن تمتد لتعديله، وبعد أن قرأ جيداً، مع حلفائه الرسائل العاجلة القادمة من واشنطون، لتنفيذها بحرفيتها، لا بل لقد تم رصد تبدل جدري للمواقف بدرجات قاربت المائة والثمانين درجة فقط، وأضحى الصقور بين ليلة وضحاها، حمائم طيعة ترفرف في سرب التوافق الإقليمي والدولي.

إنها إذن أنابوليس، أخرى، ولكن بطبعة، ونكهة خليجية هذه المرة. وإنه، حقاً، زمن التوافقات، وربما الصفقات الكبرى. فهل نقول مبروك لإيران؟ أم quot;هارد لكquot; لعرب الاعتدال؟

نضال نعيسة
[email protected]