يبدو أن قطاع غزة يعيش في حالة من اللامنطق على صعيد الفكر والممارسة سواء بفعل عوامل ذاتية أو موضوعية. إذ تبدأ حالة اللامنطق منذ الوصول إلى معبر رفح الواصل بين جمهورية مصر العربية وقطاع غزة حيث يغلق لأيام متعددة ويفتح لساعات محددة وبالتالي فإن سكان القطاع يعيشون في سجن كبير مغلق ويفتح فقط كساعات استراحة للسجناء للاتصال في العالم الخارجي. ويعد السفر في جميع دول العالم متعة ونزهة لاسيما في الدول الأوروبية التي لا يفصل بينها نقاط حدودية بينما هي في قطاع غزة قطعة من العذاب، وباب من أبواب جهنم. وبالطبع يتحمل الاحتلال الجزء الأكبر من حالة اللامنطق هذه ولكن بالطبع نتحمل نحن جزءاً مهماً في هذا المجال حيث يفتقر المعبر إلى النظام وتنتشر حالة من المحسوبية والواسطة في معاملاته، بحيث يشير ذلك إلى عجزنا عن إدارة المعبر بشكل سليم، هذا إضافة إلى كثرة حوادث إطلاق النار داخله وحوله مما يعرض أمن الموطنين للخطر. وبالتالي فإن المنفذ الوحيد لسكان قطاع غزة يعاني من حالة اللامنطق في جميع معاملاته.


أما الحالة الثانية التي تشكل شيئاً مخالفاً للمنطق فهي الأبراج السكنية لاسيما في مدينة غزة. إذ يعتبر وجود هذه الأبراج سمة من سمات الازدهار والتطور التي شهدته المدينة في عقد التسعينيات من القرن الماضي، وارتبط بشكل كبير بنشأة السلطة الوطنية الفلسطينية، حيث استوعبت مدينة غزة الكثير من العائلات الفلسطينية سواء من الخارج أو من الداخل أي من مخيمات وقرى وباقي مدن القطاع الذين استوعبوا في الوزارات الفلسطينية التي شكلت مدينة غزة مركزاً رئيساً لها. ويعد بناء الأبراج _وحسب خبراء التخطيط السكاني_ ضرورة ملحة لمواجهة الزيادة السكانية الكبيرة في تعداد السكان في مقابل صغر مساحة قطاع غزة التي تعد ربما أعلى مناطق الكثافة السكانية في العالم. وقد ازدادت الهجرة الداخلية باتجاه مدينة غزة بفعل الحواجز الإسرائيلية خلال انتفاضة الأقصى لاسيما حاجز أبو هولي الذي كان بمثابة قطعة من الجحيم للمواطنين من الموظفين والطلبة. ولكن يبدو أن كل جانب مشرق في سلوكنا يتم استغلاله بشكل خاطئ حيث أبرز الصراع الداخلي خلال الفترة السابقة أن الأبراج السكنية أصبحت نقمة على سكان المدينة بعد أن تم اعتلائها من قبل مسلحي الطرفين المتنازعين واستخدمها للقنص ونشر الموت في الأبراج المقابلة لاسيما المتاخمة لمقرات الأجهزة الأمنية وبخاصة أبراج تل الهوى. وهنا أصبح سكان الأبراج يعيشون في جحيم ويخشون النزول للشارع لأيام متتالية خوفاً من أن يتخطفهم الموت. وهكذا أصبح سكان المدينة يعيشون حالة اللامنطق في استخدام هذه الأبراج لنشر ثقافة الموت بدلاً أن تشكل الأبراج بحدها ذاتها جزءاً من ثقافة الحياة. وربما يدفع ذلك البعض إلى التمني بأن تهدم جميع أبراج مدينة غزة حتى لا يعلوا أحد على أحد وحتى لا تكون هدفاً لتسلق مسلحي الأطراف المتنازعة لنشر القتل في كل مكان. وهذه قدرة عجيبة لدينا أن نحول كل شي جميل إلى شيء مرعب نتمنى زواله.


أما الحالة الثالثة فهي انتشار السلاح في قطاع غزة، حيث أن توفر السلاح يشكل أحد الجوانب الإيجابية لأي حركة تحرر وطني، وحيث أننا لا زلنا نتلمس طريق المشروع الوطني الفلسطيني ولم نكمل استقلالنا، ونيل سيادتنا، وأن الدبابات الإسرائيلية تحاصرنا على مرمى البصر فإن توفر السلاح في يد المقاومة نعمة وليس نقمة، وضرورة ملحة للدفاع عن النفس والأرض والعرض ضد المحتل. ولكن يبدو أن حالة اللامنطق قد امتدت أيضاً إلى هذا الجانب فبدل أن يتم استخدام السلاح ضد المحتل المتربص بنا والذي ينهش أرضنا، ويحاصرنا براً وبراً وجواً فإن السلاح قد أصبح يوجه إلى صدور الأشقاء، وانحرف عن مساره وأصبح يشكل عبئاً على أمن المجتمع وعلى عدالة القضية الفلسطينية. وأصبح السلاح في يد quot;الهامل قبل الكاملquot;، ومثار فزع في المجتمع الذي وصلت به حالة الانفلات الأمني إلى النخاع. ونشر هذا السلاح الموت في شوارع القطاع وأزقة حارته، فهناك عصابات الإجرام، وحروب داحس والغبراء العائلية. وانتشر أمراء الحرب، وأثرياء الموت والدمار. وأصبح المواطنون يحلمون في اليوم الذي يختفي فيه السلاح من منازل غزة، بعد أن ُجير لخدمة المصالح الشخصية والحزبية والعائلية، وابتعد عن أيادي المقاومين الشرفاء.
أما الحالة الرابعة فهي قيام مجموعات بتفجير مقاهي الانترنت محاولة بلك السير ضد التيار، والتجديف للخلف في محاولة للقفز عبر الزمن إلى قرون حجرية موغلة في القدم، ومحلقة في فضاءات لا متناهية من التخلف والجهل. فمن المعروف أن الانترنت (الشبكة العنكبوتية حسب مجامع اللغة العربية) هو مظهر من مظاهر التقدم، حيث اختصر الزمان والمكان. وقدم للبشرية خدمات جليلة لم يعد الاستغناء عنها ممكناً. وهنا لابد من القول إن الانترنت هو اختراع علمي يمكن استخدامه لأغراض الخير ويمكن استخدمه لأغراض الشر، فهو هنا مثل الطاقة النووية التي قد تستخدم في السلم ورفاهية الشعوب، ويمكن استخدامها كآلة للدمار. والانترنت مثل التلفزيون يمكن استخدامه في سماع ومشاهدة الأخبار والبرامج الدينية والعلمية وغيرها ويمكن استخدامه لأغراض مسيئة للأخلاق والقيم المجتمعية. وحسب فتاوى بعض رجال الدين فهو ليس خيراً أو شراً بذاته بل الذي يحدد ذلك هو طريقة الاستخدام. وهنا فإن سعي البعض إلى أسلمة المجتمع من خلال الرعب ونشر الدمار لا يمكن أن تنتج إلا مزيداً من الخوف والرعب والجهل الذي لن يخدم الدعوة للإسلام الذي قام على نشر الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة. ويشكل ذلك إساءة إلى الدين الإسلامي الذي يقوم على التسامح والإقناع.


ومن هنا فإن ما قمنا بتناوله هو غيض من فيض من حالة اللامنطق التي تسود قطاعنا الحبيب على أساس الفكر والممارسة، وأن ما يتم هو تحويل كل نعمة إلى نقمة، وكل شيء جميل إلى قبيح، وكل منحى من ثقافة الحياة إلى ثقافة للموت والدمار.

د. خالد محمد صافي