إحدى النعم التي يتمتع بها اللبناني أن لا استقلال واحداً لديه، فالهوية الوطنية لم تجار يوماً انتماءه الطائفي المسيس بعباءة الزعماء quot;الوطنيينquot; أو بذلاتهم وربطات عنقهم يقفزون بها في نشرات الأخبار وعبر كل المنابر المتاحة أو الفرص الضئيلة للظهور ولو كانت استغلالاً لدماء جنود لبنانيين طازجة، دفعوا إلى قتال غريب عنهم دفعاً ولم يعرفوا تماماً لأجل ماذا ومن سقطوا شهداء!

تلك الهوية الطائفية المترسخة أو المعبأة بحسب الظروف لا بدّ لها من أن تفرض عليه نوعية المناسبات التي يمكن له الإحتفال بها حزناً أم فرحاً. وفي العادة يكون من الطبيعي في بلد متعدد الطوائف والمذاهب أن يحتفل أبناء الطائفة الواحدة بأعيادهم الدينية أو العرقية دون أن تشاركهم بقية الطوائف بالإحتفالات إلاّ عن طريق تقديم التعازي أو التهنئة من خارج إطارها لا أكثر.

لكنّ الغريب في الأمر أن تعامل الأعياد الوطنية الكبرى التي أقرتها المراسيم الحكومية وصوت عليها نواب يفترض أنهم للأمة - غير الموجودة أساساً- نفس المعاملة التي تلقاها مناسبات الطوائف الخاصة. بل أكثر من ذلك فإنّ التهنئة غير موجودة في قاموس مثل هذه المناسبات حيث يشعر الطرف المقاطع للعيد أو الذكرى أنه يقف في مواجهة نفسه ويصل إلى حد تمجيد أعدائه في حال هنأ من يحتفل بها.

ذلك الأمر ينسحب على كافة المناسبات الوطنية الكبيرة التي ترسخها الذاكرة اللبنانية أعياداً للإستقلال وللجلاء وللجيش وللتحرير وللشهداء. ومع ذلك فالتفاوت يبرز بين هذه المناسبات بشكل واضح بحسب موقع المحتفل بها على الصعيد العام وبحسب مرجعيتها التاريخية.

فأعياد الإستقلال والجيش والشهداء وعلى الرغم من أنها لا تلقى رواجاً شعبياً كبيراً فالجميع يتفق على أنها أعياد لكل لبنان من رسميين لبنانيين وأحزاب وقوى فاعلة سياسياً، ومع ذلك فدرجة الإهتمام بها تختلف من مرحلة إلى أخرى بحسب قرب تلك الأحزاب والقوى من مفهوم الوطن أو ابتعادها عنه.

فالفترة التي سبقت الحرب الأهلية في لبنان وصولاً إلى الفترة التي تلتها مباشرة تعدّ الأكثر ابتعاداً عن الأعياد الخاصة بالدولة كوطن لجميع أبنائه. فتخلى كثير من القوى على وجه الخصوص عن تلك الأعياد لصالح أعياد حزبية أو أيديولوجية تمتد خارج الوطن معظم الأحيان. فكان لكل حزب عيد الشهداء الخاص به - الذين سقطوا في الغالب تجاه أحزاب أخرى تحتفل أيضاً بشهدائها في يوم آخر سقطوا أمام نفس الخصم أو غيره وهكذا.

وكان لكل حزب أناشيده الخاصة تترافق مع عروضه العسكرية في مناسبات كذكرى التأسيس وميلاد الزعيم وذكرى اغتياله أو اختطافه وتخريج الدورات العسكرية. ولم يكن يومها للجيش اللبناني- أو ما قد بقي منه بعد اقتسامه من جانب الأحزاب وإسرائيل- حامي الإستقلال الهش يومها سوى الضربات يتلقاها من كافة الجوانب، وكأن المتقاتلين يتفقون دوماً على ضربه قبل شروعهم بمقاتلة بعضهم بعضاً.

أما الفترة التي تلت هذه الحرب وابتداءاً من العام 1992 فقد كانت ذهبية بالنسبة لأعياد الوطن ولو أنها تفاوتت في الأهمية بين عيد وآخر وعام وآخر بحسب الظروف السياسية الناشئة أو الإعتداءات الإسرائيلية المستمرة بحسب اتساعها وامتدادها. فمعظم الأحزاب التي فضلت الإنخراط بالعملية السياسية انضواءاً تحت ترويكا الهرواي- بري- الحريري وبدعم سوري جلي التزمت بأعياد الوطن من استقلال وجيش وشهداء تماماً على الصعيد الرسمي ولو انها لم تحمل جماهيرها على الإحتفال بها ولم تتخل أيضاً عن أعيادها الخاصة التي تغيرت وظيفتها من عسكرية إلى سياسية واستمرت في تبدلها بحسب المرحلة والتحالفات القائمة.

ومع حلول الخامس والعشرين من أيار عام 2000 وانسحاب آخر جندي لإسرائيل من الجنوب اللبناني والبقاع الغربي ومن خلفه المتعاملين معه من quot;جيش لحدquot; احتفل بعيد التحرير في الأرض المحتلة سابقاً ذلك العام في بلدة بنت جبيل عبر إجراء جلسة للبرلمان اللبناني فيها. وعبر الأحزاب المعنية مباشرة بالمقاومة التي أدت إلى خروج الإسرائيلي من معظم لبنان وفي مقدمها حزب الله الذي تملك مشاهد الإحتفالات يومها.

وعاماً بعد آخر بات اسم العيد مقترناً بحزب الله وكأنّ الذكرى باتت تعنيه وحده حين لم يلب كثير من القوى اللبنانية الإحتفالات السنوية التالية - شعبياً على وجه الخصوص- خاصة القوى المسيحية. جاء ذلك رغم إقرار العيد رسمياً من جانب مجلس الوزراء واعتباره عطلة رسمية وعيداً وطنياً لجميع اللبنانيين.

ولم يكن الحال أفضل في العامين الأخيرين ومنذ اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري حيث استعيدت أجواء الأعياد الخاصة. واستعيض عن أعياد الوطن مجدداً بأعياد ومناسبات وتظاهرات واعتصامات وذكرى شهداء. حتى بدا وكأن اللبنانيين نسوا تماماً أيّ شيء عن الثاني والعشرين من تشرين الثاني\ نوفمبر (عيد الإستقلال) حين بات إستقلال 2005 الذي توج بخروج السوريين من لبنان وبدرة تاجه تظاهرة الرابع عشر من آذار البديل الشرعي لذاك الإستقلال quot;الباليquot; عام 1943.

أما عيد الشهداء الذي يعود إلى تاريخ عثماني بائد في السادس من أيار\ مايو عام 1915 فتفرع مجدداً إلى أعياد وأكثر من ذكرى في أكثر من مكان وحزب وتاريخ لشهداء معاصرين سقطوا جراء الإغتيالات الأخيرة ولا شك فسينضم إليهم شهداء حرب تموز الإسرائيلية على لبنان العام المنصرم بتاريخ جديد بدوره. وأصبح العيد الأصلي مجدداً في عداد الأعياد المنسية والمجهولة.

وفي وطن يتحدث الجميع فيه عن إعادة بنائه سياسياً ومؤسساتياً وعلى صعيد الهوية والمواطنة نجد في جردة سريعة أن أعياد الأحزاب، والطوائف حتى، والذكرى الخاصة بكل منها قد استعادت المرتبة الأولى على الصعيد الشعبي.

فمن يوم القدس وعيد التحرير لدى حزب الله، إلى ذكرى اختطاف موسى الصدر لدى حركة أمل، إلى ذكرى اغتيال الحريري لدى تيار المستقبل، إلى ذكرى اغتيال كمال جنبلاط لدى التقدمي الإشتراكي، إلى عودة الجنرال وحرب التحرير لدى التيار الوطني الحر، إلى خروج الحكيم من السجن واغتيال بشير الجميل لدى القوات اللبنانية، إلى اغتيال الزعيم لدى السوري القومي، إلى ميلاد البعث، إلى غيرها الكثير من المناسبات الخاصة جداً - على الرغم من تعميم بعضها لتشمل فئة أكبر- يتضح في الأمر ارتداداً نحو حرب أهلية تبدو كلّ مكوناتها جاهزة على كافة صعد التقوقع والإصطفاف بانتظار قرار خارجي ما قد يأتي وقد لا يأتي كما هو حال لبنان المدوّل دائماً.

بانتظار تلك أو ذلك أو الإثنين معاً.. كلّ تحرير وأنتم بخير.

عصام سحمراني