يفتخر العراقيون بتاريخهم السومري والمصريون بأجدادهم الفراعنة واليونانيون بحكمائهم القدامى. كل يترنم بحضارته التي أرست للإنسانية العديد من القواعد المدنية والقوانين الأساسية، الإرث عظيم يستوجب منا الإشادة به وبكل حضارة أضافت للإنسانية علوما وآدابا أثرت مخزوننا الحضاري المشترك. هنا في القارتين الأمريكيتين الشمالية والجنوبية بقي من أثار حضارتي الـ quot;مايانquot; والـ quot;أزتكquot; بعض الطلل. رغم وجود تاريخ حضاري عريق في أمريكا الوسطى والجنوبية ضم الكتابة والرسم بالإضافة إلى الديانة والتقويم، دون أن أنسى ذكر المجسمات والبنيات الهندسية المبهرة مثل أهرامات الـ quot;مايانquot;، إلا أن الأمريكيين لم يحددوا هويتهم من خلال ذلك الموروث.

كما أن الأمريكيين لا يعتقدون بأنهم أروبيو الهوية رغم أن المستوطنين البريطانيين استقروا في في جيمستاون الواقعة في ولاية فيرجينا عام 1607. لقد جلب المستوطنون الأوائل معهم تراثا حضاريا وفكرا ثقافيا استطاع أن يترك أثرا على مجتمعنا ونظامنا السياسي الحالي إلا أننا طورنا نظمنا إلى خارج حدود ذلك القالب الأوروبي. فمنذ ذلك الحين وحتى الآن ترحب الولايات المتحدة بالمهاجرين إليها من جميع أنحاء العالم ومن ضمنهم مهاجروا العالم العربي. ونتيجة لوجود هؤلاء المهاجرين بما يمثلونه من ثقافات عريقة مختلفة ومتباينة تناغم طيف الهوية الأمريكية ليتشكل في حلته التي نشاهدها اليوم. نحن في العادة نصف أنفسنا بأننا quot; أُمَّةٌ مكونة من أُمَمquot; (Nation of Nations) أو وطن quot;الانصهار الثقافيquot; (Melting Pot) للتعبير عن نظرتنا لما هي أمريكا. كنتيجة لذلك وباختصار فإن الثقافة الأمريكية هي نسج حاكه أبناؤها بخيوط ثقافية وحضارية مختلفة مرحبين بكل ما يضيف إلى التجربة الأمريكية.

لقد أرسيت قواعد هذه المستوطنة الأولى ndash; مستوطنة جيمستاون - بعد حوالي 115 عاما بعد ابحار كرستوفر كولومبوس إلى القارة الأمريكية. فترة طويلة من الاستكشافات والتطور الإجتماعي والسياسي أدت إلى سبغ الهوية الأمريكية على quot;الدنيا الجديدةquot;، وهو اللقب الذي كان يطلق على الولايات المتحدة حينها. تخلل تلك الحقبة أحداث مهمة مثل تأسيس أولى الجامعات الأمريكية وهي جامعة هارفرد بمدينة كيمبريج بولاية ماساتشوستس عام 1636، وتتابعت الأحداث إلى أن وصلت ذروتها باجتماع أصحاب الحل والعقد في فيلادلفيا لإرساء قواعد الهوية الأمريكية حين أعلنوا استقلال الولايات المتحدة الأمريكية في الرابع من تموز/يوليو من عام 1776 لتظهر الهوية الأمريكية إلى الوجود بشكل متكامل. أرست وثيقتي الإستقلال والدستور أسس الحكم والقوانين الأمريكية واستمر ادخال التعديلات على القوانين والتشريعات نشطا من أجل تطوير النظام ليواكب التقدم الإجتماعي والعلمي.

تبلغ الولايات المتحدة كدولة من العمر 230 عام منذ أن أعلنت استقلالها عن التاج البريطاني. احتفلنا مؤخرا بمرور 400 عام على تأسيس مستوطنة جيمستاون تخليدا لذلك الحدث الأهم. لقد شاركت في الاحتفال ملكة المملكة المتحدة إليزابيث الثانية تكريما للدور البريطاني في تلك الحقبة. وكانت بالفعل مناسبة تاريخية مؤثرة ومع ذلك فإن المواطن الأمريكي العادي لا يستمد من ذلك التاريخ دعائم هويته الشخصية. فالأمريكي إنسان يأخذ من الماضي دروسا يتعلم منها لمستقبله الشخصي والعملي. تلك الدروس في العادة يطلق عليها quot;الدروس المستفادةquot; وهي مبنية على تحليل للمشاهدات والتجارب المرتبطة بتجربة معينة. فنحن كشعب نتطلع إلى الغد ونعمل جاهدين من أجل استثمار كل ثانية ودقيقة وساعة لكسب أفضلية في حياتنا الخاصة والمهنية. هذه الخاصية تجعل الفرد الأمريكي يدور في فلك اللحظة الآنية ولكنه في نفس الوقت يبقي عينه على المستقل، مما يجعل العمل والوظيفة من أهم النشاطات التي يقوم بها بشكل يومي، إن لم تكن الأساس الذي يعتمد عليه في تشكيل حياته.

فعلى سبيل المثال، الحياة الوظيفية للموظف الأمريكي بناءا على تقرير جمعية العمال الدولية المنبثقة عن الأمم المتحدة تشغل حيزا كبيرا في حياته فمعدل عمل الفرد الأمريكي يزيد عن عمل الفرد الألماني - على سبيل المثال - بخمسمائة ساعة سنويا. هذا الرقم لا يبدوا مبهرا إلا إذا أخذنا في الاعتبار أن ثماني ساعات عمل في اليوم لمدة خمسة أيام ndash; أي أسبوع عمل ndash; سوف تعطينا 40 ساعة عمل أسبوعيا. أي أننا نعمل بمعدل إثنى عشر أسبوعا أكثر من الموظف الألماني كل عام. أذكر في أول وظيفة لي أن الإجازة السنوية كانت 5 أيام مقارنة بالعديد من الدول التي تعطي موظفيها أكثر من عشرين يوما مدفوعة الأجر سنويا. ومع ذلك فقد كنت فخورا ومتحمسا للقيام بمهام الوظيفة لإيماني بأن المسؤولية كبيرة وأن علي إثبات نفسي بشكل دائم. كنت حينها أعمل في منظمة إعلامية ستة أيام في الأسبوع بمعدل عشر ساعات يوميا. لن أخفيكم سرا، لم يكن هناك بند للوقت الإضافي وإنما كنت منغمسا في العمل مثل زملائي.

زيادة عدد ساعات عمل الموظف الأمريكي بشكل سنوي ربما يزيد من الإنتاج العام. ومع ذلك تواكب الزيادة في عدد الساعات زيادة في نسبة الإنتاج. فالموظف الأمريكي استطاع خلال الربع الأول من هذا العام 2007 زيادة إنتاجه بنسبة 1.2% وذلك يعني أن في حال بقاء عدد الساعات ثابتا فإنه يعمل بشكل أكثر فاعلية وأكبر إنتاجية. بالطبع يعود ذلك بالفائدة على الولايات المتحدة في ارتفاع مستوى الناتج المحلي الوطني. ولكن ما الذي يدفع الفرد الأمريكي على ذلك؟ للإجابة على ذلك يجب علينا النظر إلى البيئة والقيم الشخصية والاجتماعية، فما هي خصائص البيئة الأمريكية وكيف تؤثر على القيم الأمريكية؟

سوف أعرض بعض الخصائص البيئية والتجارب التاريخية المؤثرة على الهوية الأمريكية من خلال سلسلة من المقالات الأسبوعية. من ضمن العناصر والخصائص الأهم وهو ما يعرف عن الولايات المتحدة بأنها تقوم على أساس فردية المواطن. ذلك النظام الاجتماعي يجعل الفرد ومن ثم العائلة الوحدة الأساسية التي تقوم عليها الدولة ndash; على عكس معظم دول العالم التي تجعل الدولة هي الأساس وأفراد الشعب توابع للكيان الأكبر. كما سأسلط الضوء على علاقة الفرد بعائلته وبالمجتمع وبالحكومة وغيرها من الخصائص التي تحدد كيف ينظر الفرد الأمريكي إلى حياته الخاصة والعامة ndash; أي لوجوده ومجتمعه. هذه النظرة تؤثر على مفاهيم متعددة، منها الوقت - لماذا يحترم الأمريكيون مواعيدهم على سبيل المثال - و مفهوم التطوع من أجل قضية أو للدفاع عن مجموعة مستضعفة معينة. أسئلة عديدة منها لماذا يخصص الأمريكيون من وقتهم جزءا للعمل الخيري وكيف يمكن تفسير سبب التبرع المالي الكبير للأعمال الخيرية، فعلى سبيل المثال ما الذي يجعل شخصا مثل وورين بوفيت يتبرع 30 مليار دولار إلى منظمة بيل وماليندا غيتس للأعمال الخيرية؟

هناك العديد من التناقضات في الوجود الأمريكي إلا أننا إذا فهمنا البيئة والهيكل الاجتماعي سوف نتمكن من وضع التجربة الأمريكية في نصابها لاستيعاب القيم الأمريكية وينجلي التناقض، إذا فهم السبب بطل العجب.

الأسبوع القادم: الفردية الأمريكية ndash; أنانية أم وحدة بناء للمجتمع؟


وليد جواد
فريق التواصل الإلكتروني
وزارة الخارجية الأمريكية
[email protected]
http://usinfo.state.gov/ar