تحت هذا العنوان كتب السيد أحمد محمد كنعان مقالاً في موقع إيلاف الإلكتروني بتاريخ الجمعة 16 أغسطس 2007. والمقال يحتوي على معلومات كثيرة عن تعريف العلم ونشأته على مر العصور، والسيد الكاتب يُشكر على المجهود الذي بذله في تجميع تلك المعلومات. غير أن الكاتب قلل من أهمية المقال عندما أصر على حشوه بالآيات القرآنية، وهي عبارة عن ركيزة الإيمان عند المسلم. وكما لا يُخفى على أحد فتعريف الإيمان هو quot;التصديق أو الاعتقاد بشيء أو منظومة تعاليم بدون أي دليل عقلي أو مادي عليهاquot;. وهذا التعريف يقف في الجهة المضادة تماماً لتعريف العلم الذي ذكره الكاتب في مقاله، فهو يقول (أن العلم ليس هو كل معرفة بل هو بتحديد أكثر دقة (المعرفة الصحيحة بسنن الله في خلقه)، أي المعرفة بالقوانين التي قدَّرها الخالق عزَّ وجلَّ لتنظم حركة كل شيء في هذا الوجود) انتهى.
فالكاتب هنا يناقض نفسه ويقول لنا إن العلم هو معرفة القوانين التي تحكم هذا العالم، أي معرفة هذه القوانين ببراهين لا تقبل الشك، مثل أن نقول إن الماء يتكون من ذرتين هايدروجين مع ذرة أوكسجين واحدة، كما قال هو. وكلما خلطنا هذه الذرات مع بعضها نتج الماء من اختلاطهما. فهذا علم يقبله العقل وتثبته التجارب المرة بعد الأخرى. ولكن تناقض الكاتب يظهر عندما يقول لنا (معرفة القوانين التي قدرها الخالق عزّ وجلّ لتنظم حركة كل شيء). فما هو دليل الكاتب بأن هذه القوانين خلقها الخالق عزّ وجلّ. أنا لا أشك أن هذا هو إيمان الكاتب، ولكن الكاتب، وخاصةً عندما يكتب عن العلم، يجب أن يفصل نفسه عن إيمانه ويعتمد فقط على العقل، كما يقول الدكتور علي الوردي في كتابه (مهزلة العقل البشري): (ان من شرائط المنهج العلمي الحديث ان يكون صاحبه مشككاً حائراً قبل ان يبدأ بالبحث. اما ان يدعي النظرة الموضوعية وهو منغمس في ايمانه فمعنى ذلك انه مغفل او مخادع) (ص 40). وأنا أربأ بالسيد كنعان أن يكون أحدهما أو كلاهما. فالشخص الذي يتحدث عن العلم من واقع إيمانه العقائدي غالباً ما يأتي بتعريف لا يمت للحقيقة بصلة. فمثلاً الشيخ السعودي ابن باز عندما تحدث عن العلم الصحيح، قال (العلم هو: قال الله وقال رسوله، بعد ذلك قول أهل العلم بما يفسرونه ويوضحونه للناس، وأهل العلم هم خلفاء الله في عباده بعد الرسل قال جل وعلا: quot;شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ quot; والعلم هو العلم بالله وبدينه، قال تعالى: quot;إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ quot; وهم الرسل وأتباعهم أهل البصائر، أهل الدين، أهل الحق، أهل القرآن والسنة، فالعلماء هم خلفاء الرسل وهم الموضحون والدالون على الله وعلى دينه، ولا يكون طالب العلم من أهل العلم إلا بتدبر وتعلم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والأخذ من علماء السنة، هذا هو طريق العلم.... ويأخذ العلم عن علماء أهل السنة والجماعة من أهل البصيرة، لا من علماء الكلام، ولا من علماء البدع، ولا من الجهلة، فالعلم الذي ليس من كتاب الله وسنة رسوله لا يسمى علما بل يسمى جهلا) (فتاوى بن باز، ج9، ص 166) انتهى.
ويزيد ابن قيم الجوزية في هذا التعريف للعلم بدافع من إيمانه، فيقول (إن قولكم إن المسلمين بنوا أساس دينهم على رواية عوام من الصحابة من أعظم البهت وأفحش الكذب، فإنهم وإن كانوا أميين فمذ بعث الله فيهم رسوله زكاهم وعلمهم الكتاب والحكمة وفضلهم في العلم والعمل والهدى والمعارف الإلهية والعلوم النافعة المكملة للنفوس على جميع الأمم، فلم تبق أمة من الأمم تدانيهم في فضلهم وعلومهم وأعمالهم ومعارفهم. فلو قيس ما عند جميع الأمم من معرفة وعلم وهدى بصيرة إلى ما عندهم لم يظهر له نسبة إليه بوجه ما، وإن كان غيرهم من الأمم أعلم بالحساب والهندسة، والكم المتصل والكم المنفصل، والنبض والقارورة ووزن الأنهار ونقوش الحيطان، ووضع الآلات العجيبة وصناعة الكيمياء، وعلم الفرحة، وعلم الهيئة، وتسيير الكواكب، وعلم الموسيقى والألحان، وغير ذلك من العلوم التي هي بين علم لا ينفع وبين ظنون كاذبة، وبين علم نفعه في العاجلة وليس من زاد المعاد) (ابن القيم، هداية الحيارى، ص 120) انتهى.
فابن القيم يعتبر كل العلوم غير الدينية هي ظنون كاذبة وعلم لا ينفع. ولتفادي مثل هذه الآراء يجب أن نناقش العلم وتعريفه بتجرد كامل عن الإيمان. وليت السيد كنعان فعل هذا بدل أن يُقحم الآيات في مقاله. فهو بدأ بداية يشوبها الخطأ والتناقض، فقال (إذا كان تحديد المصطلحات هو الخطوة الأولى على الطريق إلى (العِلْم) فيمكن أن نقول إن تاريخ العلم قد بدأ منذ مطلع التاريخ البشري، حين تعلَّم نبي الله آدم أبو البشرية عليه السلام الأسماء كلها عن ربه، كما جاء في قصة الخلق الأول: ((وإِذ قالَ ربُّكَ للملائكةِ إنِّي جاعلٌ في الأرضِ خليفةً، قالوا أتجعلُ فيها مَنْ يُفْسِدُ فيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ ونحنُ نُسَبِّحُ بحمدكَ وَنُقَدِّسُ لكَ، قالَ إنِّي أعلمُ ما لا تَعْلَمونَ 0 وَعَلَّمَ آدمَ الأسماءَ كلَّها ثمَّ عرضَهُم على الملائكةِ فقالَ أَنْبئوني بأسماءِ هؤلاء إنْ كُنْتُم صادقينَ 0 قَالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لنا إلا مَا عَلَّمْتَنا، إِنَّكَ أنتَ العَليمُ الحَكيمُ 0 قالَ يا آدمُ أَنْبِئْهُم بأسمائهم، فَلَّمَا أَنْبَأَهُم بأَسْمائهم قالَ أَلَم أقُلْ لَكُم إنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمواتِ والأرضِ وأعْلَمُ ما تُبْدونَ وما كُنْتُم تَكْتُمونَ)) سورة البقرة 30 ـ 33.
فالعلم الذي يتحدث عنه الكاتب يؤكد لنا بما لا يدع مجالاً للشك أن الإنسان لم يُخلق كاملاً وفي هيئته هذه ex nihilo، كما خُلق آدم، حسب قول العهد القديم والقرآن. فإذا آمنا بالعلم التجريبي فلا بد أن نرفض فكرة كون الإنسان بدأ بآدم. وعليه تصبح الآية المذكورة متناقضة مع العلم الذي نود تعريفه ودرسه. ثم أن الآية بها تناقضات منطقية عديدة تخرجها عن دائرة المعقول، اللهم إلا إذا كنت مؤمناً مسبقاً ولا يخامرك الشك في الآية. فالآية تخبرنا أن الله قال للملائكة إنه سوف يخلق خليفةً في الأرض. وحتى هذه اللحظة لم تكن الملائكة تعرف نوعية أو شكل هذا الخليفة. ولكن الآية تفاجئنا بقول الملائكة (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟) فالملائكة إذاً عرفت بالسليقة أو علمت الغيب وعرفت أن الخليفة الجديد سوف يكون مخلوقاً من لحم ودم وسوف يسفك ذلك الدم. ولكن الملائكة نفسها مخلوقة من نور ولم تكن تعرف ما هو الدم ولا تعرف الحيوانات ولا اسماءها، بدليل أن الله سألهم عن الأسماء فلم يعرفوها وقالو له quot;سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتناquot; فرد عليهم الله بقوله quot; ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرضquot;. وهذا يخبرنا أن الملائكة لا تعلم غيب السموات والأرض وأن الله وحده هو الذي يعلم ذلك. وأظن التناقض هنا واضح للعيان.
وبما أن الكاتب قد قال (فالعلم وفق التعريف الذي اخترناه هو المعرفة اليقينية بالسنن التي تحكم ظواهر هذا الوجود، فإذا لم نتوصل إلى هذه الدرجة من المعرفة فإننا لا نكون قد توصلنا إلى العلم الصحيح بالظاهرة الكونية موضوع البحث، ومن ثم فإن وصف بعض الاكتشافات بأنها (علمية) قبل الوصول إلى هذه الدرجة من المعرفة يعدُّ خطأ فادحاً بحق العلم.) فإن موضوع الملائكة وما يقولون وما يفعلون لا يمت للعلم بصلة لأنه لا يدخل في القوانين التي تحكم العالم ولذلك كان يجدر بالسيد كنعان أن يتفادى الحديث عن الغيبيات التي تتعارض مع العلم.
ولزيادة الطين بلة يقول السيد كنعان (أن البشرية كانت كلما قطعت شوطاً في مضمار العلم كلما تقلصت المساحة المتاحة للأسطورة والتنجيم والسحر وبقية الممارسات التي كان لها فيما مضى مكانة رفيعة لا تقل عن مكانة العلم والعلماء في أيامنا الحاضرة ومع مرور الوقت ونتيجة لمصداقية المفاهيم العلمية بدأ الناس يفقدون ثقتهم بتلك الممارسات حتى كادت تختفي تماماً ولم يعد لها وجود إلا في الزوايا المظلمة من هذا العالم.) ثم يفاجئنا السيد كنعان بقوله إن الله تعالى قال (quot;وما أوتيتم من العلم إلا قليلاquot; وسوف يبقى هذا الوصف الإلهي صحيحاً وملازماً للعلم البشري وحتى آخر الزمان، فمهما اكتشف الإنسان من أسرار هذا الوجود، ومهما حصلوا من العلم فإن علمهم سيبقى قاصراً ضئيلاً محدوداً أمام عظمة هذا الوجود الذي لا يحيط بدقائقه وتفاصيله إحاطة علمية كاملة إلا خالقه ومبدعه ومصوره) انتهى.
فالسيد كنعان هنا قفز إلى المستقبل وقرر بدون ي دليل عقلي أو علمي، غير الآية المذكورة، أن علم الإنسان أي عقله سوف يظل قاصراً إلى نهاية هذا العالم الذي يحيط بنا. وهذا الحكم من السيد كنعان يأتي بسطور قليلة قبل قوله ((أما حجم المعرفة البشرية الذي كان في الماضي يحتاج إلى مئات السنين لكي يتضاعف فقد أصبح في أواسط القرن العشرين يتضاعف كل (10 ـ 15 سنة) ثم أصبح في أواخر القرن العشرين يتضاعف كل (5 سنوات)) انتهى. فهذا العقل البشري الذي أضحى يضاعف معرفتنا العلمية كل خمس سنوات سوف يستمر في نموئه وتفتحه وسوف يضاعف علمنا ربما كل سنتين أو أقل. وليس للعقل البشري العلمي أي حدود غير حدود الإيمان بالغيبيات التي تلغيه تماماً. وتدريجياً سوف يفقد الناس ثقتهم بالممارسات غير العلمية حتى تنتهي تماماً ويصبح العقل هو الإله ووقتها سوف لا يكون للعقل حدود.