إلى: فاطمة ناعوت
خارج نافذتي، كانت السماء تنثّ نديفَ الثلج الذي يكسو أغصان الأشجار وجذوعها والمنازل والسيارات والطرقات وكل شيء بكسوة ناصعة البياض والجمال، وكعادتي أفتتح الصباح بفنجان قهوة واميلي، وأترك لفيروز تمكر بي فتنقلني من أيما مكان إلى بيروت، فيروز تلوّن العالم ببيروت، وتنقل ثلجه وأرزه وجماله إلى قلبك، فتسرق منك حواسك، عندما تسلّم قيادك إلى فيروز عليك أن تستسلم، وتفقد إرادتك وترضى بمكرها.
لكن الذي مكر بي هذا الصباح هو ناسخ السي دي الخاص بأغاني فيروز، إذ دسّ بين فيروز أمَّ كلثوم، وبدلاً من أن أُسْلِم قيادي إلى ( ورقو الأصفر أيلول) وجدت يدي مشلولة من تغيير كوكب القلب إلى أرزة الروح، وتركتني مع: سيرة الحب، أحرث ذكرى وذكرى.
ناسخ السي دي، تلاعب بوقتي وبدّل زماني، وها أنذا أنسلخ من صباحي الأبيض إلى مساء موشى بعباءة الظلام، فيروز نجمة الصباح، وأم كلثوم كوكب الليل، إحداهما تحتلّ مكان الثانية، ولا معنى للزمن مع هاتين الحنجرتين المعجزتين، النغم يتلاعب بالزمن بطريقة سريالية، فيغدو الزمن مع فيروز والسيدة مفتوحاً على العمر كله.
وكما كتبت صديقتي العزيزة الشاعرة ( فاطمة ناعوت) إن فيروز: ( فوق النقد كأحد أيقونات الجمال غير المعيارية التي لا تخضع لأسباب بعينها حال تفنيد جمالها) أقول إن هذا الحكم يمكن تعميمه لينطبق كذلك على الجمال كله، ولأن أم كلثوم جميلة فهي لوحة ولا أقول أيقونة؛ لأن اللوحة لا تُختزَل فهي كالموناليزا بلا إطار للقراءة والمتعة، على حين أن الأيقونة يمكن تثبيت المعنى والجمال والمتعة فيها، وهكذا فإن فيروز وأم كلثوم لوحة لم تجفّ ألوانها بعد، ولم تتحدد بإطار قط.
وفرُ الثلج ينهمر خارج نافذتي، ليزيد بياض الصباح بياضاً، فيما ينهمر وفرُ كوكب الليل:
أمروني أحب لقيتني بحب
لقيتني أحب وبدوب بالحب
وأدوب بالحب وصبح ليل وليلللللللللللللللل على بابو
ولكي تستمتعوا معي، أو تتمثلوا نشوتي مع السيدة، ينبغي أن تغيروا قاف ( لقيتني) الثقيلة المجهورة إلى قاف تنطق في فم مصري كفم السيدة، أو فم فاطمة ناعوت كذلك، إنه ترقيق الصوت وتهذيب الجمال، ليهبط على القلب كأنه وَرَقَةُ ياسمين بيضاء، ويوشوش الأذن كأنه همسة حبيبة. عندما يقول بطل الفيلم المصري لحبيبته: زي الأمر، فإن تحويل القاف إلى الهمزة ( الأمر) يضخّ في الكلمة دلالة مضافة هي: الإمارة. فتتجانس في الكلمة دلالتان: دلالة إشراقة القمر، وإشراقة الإمارة، لذا من حقّ البطلة أن تتخيل نفسها قمراً يتبعثر على ورد العرش والإمارة.
حالما أستمع إلى فيروز، أو أم كلثوم، أنتقل من وضعية الاستماع إلى وضعية الاستماع والمشاهدة معاً. الصوت يرسم. ثمة حوار بين حنجريتهما وموسيقاهما. أحياناً تتبادل الموسيقى وحنجريتهما الأدوار، موسيقى تنطق بكلمات فصيحة وحنجرة تستحيل تماماً إلى موسيقى خالصة. إنه إعجاز الإبداع. الكلمات تكتسب في حنجريتهما دلالات جديدة، هما تتلاعبان بالنبر والترخيم والتنغيم والمدّ والقصر والجهر والهمس. حنجرتان تجيدان التحاور مع الحواس قاطبة، وتحيطان القلب كأنهما كفّا العناية والرحمة الإلهية. صوتان، عفواً نغمتان، عفواً حنجرتان، عفواً وتران، عفواً سمفونيتان تستحضران مسرحاً ورواية. حنجرة أم كلثوم في مسرح الأغنية، تشبه عندي المسرحية الكلاسيكية ذات الصوت الطاغي، المجلجل، الثوري، الممتد إلى أقصى الزمان، الصوت الدرامي، أم كلثوم تخلق الدراما في حنجرتها وتجعل لغة القصيدة تتحرك على وفق تلك الدراما، إنها حنجرة معجزة. وحنجرة فيروز الذهبية، تمسرح السحر والغواية، فتحوّل حتى الهمسات المتناهية صغراً إلى صورة تحاصر وجهك وتدغدغ حواسك، أو بالأحرى تسرقك مما أنت فيه إلى ذلك التمسرح العجيب للهمسة المتناهية. إنها لمسة من لمسات الإعجاز الرباني، لمسة فوق قدرة الطبيعة البشرية، وفيروز نفسها تعجز عن تفسيرها.
الناسخ مزج بين فيروز وهي تمسرح:
أنا مين وانت مين يا نحْنَه المنسيين
وبين كوكب الشرق وهي تمسرح:
أمروني أحب لقيتني بحب
لقيتني أحب وبدوب بالحب
وأدوب بالحب وصبح ليل وليلللللللللللللللل على بابو
خارج نافذتي، تتحول الأسطح المائلة إلى قبعات بيضاء ويستمر انهمار الثلج الجميل، وأجدني أردد مع أرزة لبنان:
أقولُ لبيتٍ إذا صرتُ وحدي وهبتْ ليالٍ بثلجٍ وبَرْدِ
ليالي وبيتيَ نارٌ ويَمضي الشتـاءُ رفيقاً كغابـةِ وردِ
كنتُ منهمكاً في ترجمة نصوص لشاعرة سويدية في غاية الجمال والروعة، فيما كان القراء يختصمون حول إحدى مقالاتي في موقع ( إيلاف)، والسيدة تطير بي إلى تونس الخضراء، إلى مسرح قرطاج، إلى صوفيا صادق وهي تغني باقتدار سيرة الحب فيما كانت رؤوس الجمهور تتمايل يميناً وشمالاً حتى الفجر، وحياة جاب الله لا تتعب من الرقص بالجينز المثقب من الركبتين وهي تثبّت الفلّ ما بين أذنها ورأسها، ترقص وتندمج بسيرة الحب وتحنو عليّ تضع فمها على فمي فيطيب الجوّ ويصبح للأغنية معنى آخر. يا سلام على الدنيا وحلاوتها فعين العُشّاء......ياسلام....ياسلام.... مسرح قرطاج ينسلخ هو والغابة التي يربض فيها مثل أسد مهيب، ينسلخ من المكان والزمان ويصبح أرواحاً هائمة معجونة بالآهات، صوفيا تتقمص جيداً دور أم كلثوم فتتحرر الروح، وتطهّرنا الموسيقى، ويوحدنا الحبّ. حي باردو، مقهى باريس، قيس الوسلاتي، الزيتونة، شارع ( أبو رقيبة).... أماكن تستيقظ الآن، وزمن يتراكض في دمعة تسقط عنوة وتبللني، والسيدة تمسرح النغم في سيرة الحبّ:
طول عمري بخاف من الحب وسيرة الحب وزُلْم الحب.... وأعرف حكايات مليانة آهات ودموع وأنين... والعاشئين دابو متابو... طول عمري بئول لنا أدْ الشوء وليالي الشوء ولا ألبي أدْ عزابو... وآبلتك انت لئيتك بتغير كل حياتي... معرفش الزي حبيتك معرفش الزي يحياتي من همسة حب لئيتني بحب لئيتني بحب وأدوب بالحب آه وأدوب بالحب وصبح وليل وليللللللللل على بابو.
الشاعرة السويدية، حزينة جداً، حبيبها هاجر إلى بلاد ثانية، وها هو ينام في يد أخرى، أكاد أسمع نشيج هذه الشاعرة، وأكاد أرى صورتها في تلك اللحظة التي افترقت فيها معه، ملوحة له بانكسار وشجن عند مفترق طريق: وداعاً..وداعاً. لحظات سرقتني بها الشاعرة السويدية من التداخل بين فيروز والسيدة، وها هي أرزة لبنان تهدر كأنها تشيّد في صوتها أوبرا تنشد تواً وتعيدني إليها:
أؤمنُ أنْ خلفَ الحبّاتِ الوادعاتْ تزهو جنّاتْ
أؤمن أنَّ القلبَ المُلقى في الأحزانْ يلقى الحنانْ كلّي إيمانْ
أؤمن أنْ خلفَ الريحِ الهوجاءِ شفاه تتلو الصلاة
أؤمن أنْ في صمتِ الكونِ المقفلِ مَن يُصغي لي
إني إذْ ترنو عينايَ للسماءْ تصفو الاضواءْ تعلو الألحانْ كلي إيمانْ
فيروز: المُصْلِحَة، الوادعة، الهامسة، الذائبة، موقظة الخيال، فيروز الحكاية الجبلية المعطرة بالأرز وبيروت والحب، تشبك يدها بيد كوكب الشرق: حارثة الذكرى، نجمة الليل، مطبّبة الروح، الصوت الهَرَم، الصوت الذي لا يشيخ. صوتان يستحيلان إلى صوت واحد. الأرز يشرب من النيل وبيروت تعتلي متن القاهرة، وصباح الشرق يعانق ليله، ويتدفق في نغمٍ لسيدتي الغناء العربي.
فيروز والسيدة، نغم يسكن الأشجار، والغمام، والأنهار، يسكن البراري والسهوب، واحدة تسكن الصباح والأخرى تسكن الليل، وفوق غصن الصباح والليل ثمة قلب كأنه طير يسافر، ويحرث بجناحيه حقول الذكرى.

ناظم عودة

[email protected]