كان ذلك في أواخر الثمانينيات، حين أصدر (فاضل برّاك) القيادي في حزب البعث كتابه الشهير (البارزاني بين الأسطورة والحقيقة)، تناول فيه شخصية والدكم (رحمه الله) بالذم والطعن والنقد اللاذع. ولكن بما أن الكتاب كان يحتوي على بعض الصور المتنوعة للزعيم الراحل ملّا مصطفى بارزاني، فإن عموم الأكراد، ومنهم الأميّين، هرعوا لاقتناء الكتاب، للتمتع بصور والدكم وأفراد عائلتكم دون مبالاة بما يقوله الكاتب حول تاريخ العائلة البارزانية. كان اندفاع وتلهف الأكراد قوياً لدرجة أن نسخ الكتاب نفدت قبل صدور طبعة جديدة. الصور كانت السبب في انتشار الكتاب، والحب والولاء كانا السبب في اندفاع الناس للتمتع بتلك الصور.


أقولها بكل صراحة ومن دون لف أو دوران، إن الصور نفسها اليوم تثير اشمئزاز الأكراد وسخطهم. وما عاد الأكراد يكنون المحبة لكم ولعائلتكم. قد تعلم ذلك أو لا تعلم فالأمر سيّان: المصيبة أعظم.


لا يخدعنّك أناسٌ يقبلون على مقر إقامتكم يرددون عبارات الإطراء والمديح والمجاملة، فمعظم ذلك ليس سوى التملق والنفاق والفضاوة، نالهن قبلك زعماءٌ هالهم برقع القصائد وكيل المديح، فعجّل لهم المصير الأسود حتفهم.


أنت اليوم منفيٌ عن شعبك، تسكن في قصر الرئاسة فوق جبل (سَرْي رَش) محاطاً بالحواجز والحرّاس ونقاط التفتيش والسياجات الواقية. لا أصوات الشعب تصلك ولا أنت ترى واقعهم ومعيشتهم، ولا شكاويهم تبلغ مداك.


لقد بلغت المصيبة بشعبك أن أفراد (البيشمركة) الذين تفتخر بهم، وتعتبر نفسك واحداً منهم، ينتحرون تباعاً هنا وهناك، تحت ثقال المعيشة وهلاك الجوع ومصائب الفساد الذي يديره أتباعك ورجالك من العشيرة، ومن الحزب الديموقراطي الكُردستاني.


لديكم رجالٌ يحيطون بكم، وقد لا يبلغونكم الأخبار الصحيحة داخل شعبكم الكُردي الذي يقضي أيّامه الآن في مصائب ومعاناة، لا يموت فيها ولا يحيا.
قبل أيام نال أكثر من عائلة موتاً حزيناً مخزياً بسبب البرد وانعدام التدفئة لديها، فيما رجالك ومسئولو حزبك يتقلبون في رفاهٍ مسروق من أفواه الشعب الذي دفع أثمان نضاله كثيراً، يفوق الحساب والعدد.


ما الذي تبقى من مجد كُردستان؟ شعب ينتحر رجاله ونسائه. شبابه يضحون بالغالي والنفيس من أجل التخلص من الجحيم، متوسلين كشحاذين بأبواب الدول الغربية من أجل لقمة العيش، ونيل القليل من نِعم الحياة. أطفاله محرومون من كل رعاية وعناية ومتعة. يتامى في الشوارع يكسبون لقمة البقاء يصبغون الأحذية. نساء ورجال يشحذون في الطرقات. شعبٌ ملئ عينيه ولسانه الشكوى والألم واليأس.


أهكذا تريدنا أن نجلس في صف الشعوب والأمم تحت الشمس؟
لا أدري كيف يقوى قلبك على أن تمد الطعام إلى فيك وشعبك يموت برداً وجوعا؟
كيف تنام مطمئن البال والضمير، وشعبك أهلكته المصائب والمحن؟
هل تسعدك الرئاسة والشعب لا يملك لكم أي مودة وأي تقدير؟ وهل تفتخر أن تكون زعيماً لهكذا شعب سئم من سلطتكم؟
ألا تسألون من المسبّبُ ومن المسئول عن كلّ ذلك؟
منذ عام 1991 يوم انتفض الأكراد ضد الظلم، عدتم مع الآخرين من الأحزاب الكُردية، وتقاسمتم السلطة والمغانم. بدل الشروع في إعمار كُردستان، وإصلاح ما أفسده نظام البعث والأسبقين، فرض حزبكم على كُردستان بالاشتراك مع الإتحاد الوطني الكُردستاني بقيادة الرئيس جلال طالباني، حرباً أهلية لسنوات طويلة هلك فيها النسل والحرث والأمل.


انتفاضة عام 1991 كانت بعد ساخنة، حين قام مسئولو حزبكم والاتحاد الوطني بتهريب المكائن والآلات والمعدات إلى إيران وتركيا، دون أي حساب للمصلحة الوطنية والقومية الكُردية.


منذ الصغر، منذ أمدٍ طويل، جيلاً بعد جيل نحلم بالحرية والأمن لكُردستان. مع الأسف تجربة السبعة عشر عاماً الأخيرة قضت على حماس الأكراد ورباطة جأشهم، وشعورهم الوطني.


الظلم والمعاناة والشقاء الذي يعانيه الشعب الكُردي اليوم يفوق في الكثير من الجوانب ما عاناه بيد الأنظمة الديكتاتورية والقمعية المعادية لتطلعات الشعب الكُردي والفئات الأخرى نحو السلام والحرية.
سجونكم كانت أشد تنكيلاً بالأكراد من سجون البعث، وهناك الآن أناسٌ أحياء شهدوا مراحل التعذيب والقمع في سجون (آكرى، أربيل، دهوك، السليمانية، جمجمال وغيرها).


مالذي تبقى من الحلم؟
منذ سبعة عشر عاماً عجزتم عن تأمين الكهرباء لشعبكم. عجزتم عن توفير التدفئة لعموم كُردستان. عجزتم عن تقديم الخدمات الضرورية للشعب بعدما كان يتمتع بها قبل عهد الجبهة الكُردستانية عام 1991. عجزتم عن منع الناس من الموت جوعاً. عجزتم عن تحقيق العدالة. عجزتم عن تقديم عِلمٍ محمود وإصلاح الدراسة وتطوير مناهجها. عجزتم عن صدّ رجال سلطتكم من إختلاس الثروة الوطنية. عجزتم عن منع مسئولي حزبكم وحاشيتكم من سرقة أموال الشعب. عجزتم عن تأهيل الشعب نحو شرفة السعادة وأفق النصر. هلا أخبرتنا عن الوظيفة الحقيقية لسلطتكم؟
مالذي تبقى من الحلم؟


ها هم الناس يموتون برداً أمام ناظريك. قبل أيام في ضاحيتين تابعتين لعاصمة الإقليم، أربيل، قضى حوالي عشرة أشخاص من عائلتين حتفهم برداً في مشهدٍ أليمٍ ذليلٍ كئيبٍ بئيسٍ عظيم.
شباب شعبك، بناة المستقبل، أفواجاً إثر أفواج يزحفون نحو خارج كُردستان، يلعنون صباح مساء حظوظهم ومعيشتهم. مالذي قدمتموه للشباب كلّ هذه السنين العجاف؟


كيف تسمح لنفسك أن تكون على رأس سلطة، أفرادها، بسبب القرابة والتملق والنفاق، جمعوا الملايين من الدولارات دون حساب أو رقيب، بينما شعبك يئن تحت وطأة الجوع والعذاب والحرمان؟


ألا تقول لنا أين تذهب ميزانية كُردستان ذات المليارات من الدولارات؟
ها هي قصوركم وقصور أتباعكم الفخمة في مصيف صلاح الدين وسَري رَش ومناطق أخرى، تزدان وتبتهج بالأفراح والرفاه. المسئولون والحاشية رغم جهلهم وفشلهم وعدم نزاهتهم، يقضون أوقاتهم في السياحة والأسفار خارج كُردستان، على حساب الشعب الكُردي الذي تتغنون بالنضال من أجله. هؤلاء يتقاسمون الثروة والأراضي والمصالح. أما الوطن فقد غطاه الفقر والحرمان والتخلف.
إذن من أجل ماذا تناضلون؟


تحرير كُردستان؟ إعادة الكرامة والسعادة إلى الأكراد؟ تطوير المجتمع؟ الإرتقاء بالشعب الكُردي إلى مصاف الشعوب المتقدمة؟
كلّ ذلك لم يتحقق. بل الأنكى منذ ذلك التاريخ وسلطتكم تقوم بعكس ذلك، ليلاً ونهارا، وليس ذلك بخاف على الشعب الكُردي.
كيف لا ترى؟


رجاءً أنظر إلى طرائق معيشتك ومعيشة حاشيتك وحزبك، ثم ترجّل من عرشك لسويعاتٍ وتجول في أحياء عاصمتك أربيل، لترى الجوع، لترى الموت، لترى الهلاك، لترى الدمار، لترى اليأس ولترى الإنهيار الذي يضرب شعبك.
مالذي تبقى من الحلم؟
ماذا تفعل مقراتكم المحروسة من مسلحين ومُخبرين داخل المناطق السكنية المدنية. أم أنك لا تعلم أن في كلّ حيّ من أحياء المدينة مقرّ مسلح، يعاني مسلحوه الفضاوة والبطالة، يعرضون فيهما قوة الحزب المزيفة. أهكذا تبنون الديموقراطية لكُردستان؟
أم أنك نسيت أن القوة لا تكمن في المقرات المسلحة؟ ألا تذكر أن كلّ بيت كُردي كان مقراً لحزبك حين كنتم وراء الحدود ووراء الغياب وأبعد منه، ولم يكن حزبك يملك آنئذٍ تلفزيوناً ولا مزماراً ودفا؟ ألا تذكر أن بطش صدام ونظام البعث لم ينقص من ولاء الشعب لحزبكم وعائلتكم، لكن تصرفات العائلة من الأقربين، وآداء رجال حزبك قضى على الولاء نفسه بكل سهولة ويسر؟ إن الولاء لا يُكتسب بالقوة وعرض السلاح والمقرات.
إنها مسألة يوم أو ضحاها، فحين ينتفض الشعب تنهار عروش الظلم والعدوان، وتزول المقرات والفروع. هذا ما تركه حزب البعث درساً ثميناً لمن يعتبر.


ما الذي تبقى من الحلم؟
أجدادك الذين الذين ناضلوا من أجل كُردستان منذ زمن العثمانيين في تراث يحظى بتقدير الشعب الكُردي، ها هم الأحفاد يحولون هذا التراث إلى مطية لشهواتهم ونزواتهم، ضاربين مودة الأكراد وتقديرهم عرض الحائط، أمام عينيك، وأنت تُعتبر اليوم الوريث الشرعي لهذا التراث.
أحفادٌ لم يتورعوا في جعل الوطن ملعباً لهواهم، وثروة الشعب هبة لنزواتهم، والقوة فخراً لقمع الشعب الذي ناضل تحت راية أجدادهم. ما هكذا يجازي المناضلون شعوبهم، وما ذلك بالنصيب الذي سعى إليه الكُرد بغية نيل المرام وتحقيق الكرامة في المقام.
الشرح يطول يا سيدي عن آلاف العنزات وآلاف البغال التي تعثرت بساح وغاك. وتطول الحكاية عن تعثر الملايين من أبناء شعبك بلوغ الحدود الدنيا من كسب معيشةٍ تحافظُ على كرامتهم. دعك عن الذين ذهبوا هدراً في الحروب البهلوانية في إقتتال داخلي مقيت، وما تركوا من أرامل وشهداء يتضورون جوعاً، وتحتبس مآقيهم دموع الشكوى والألم.


ما الذي تبقى من شعبك؟
لم يبق له غير الخوف من أن ينتفض. فسجون الحزبين كما أخبرتنا وزارة خارجية أميركا، ومنظمة (هيومان رايتس ووتش)، وتقارير الضحايا جرّبت الأهوال والحراب والعذاب على أبناء حلبجة، وباليسان، وكرميان، وبادينان، تكملةً لحصص الأنفال وما لم يقدر الكيمياوي من تحقيقه من سوء مآل.
برلمانك جبان وميت. حكومتك ووزرائها الإثنين والأربعون، غارقة في الفساد والنهب والكارثة.
شعبك يلوذ بالفقر والخوف، ويخزن الحقد والكراهية لسلطتكم وحزبكم ليوم موعود.
صدقني ليس من غرض هذه الرسالة نيل الدراهم، فكل دنياكم كما قال علي ابن أبي طالب (ع)، لا تساوي عندي عفطة عنزٍ. والمقال حانقٌ ليس بحاقدٍ، ولا يرمي الشهرة فقد نالها دون بغيةٍ في أبواب سبقت مطروحةً على صفحةٍ هي الأشهرُ في تبليغ الشرقِ وهي quot;ايلافquot; ضيفة كلّ بيتٍ عزيزةً. وصاحب المقال سعيدٌ أن الدنيا قصيرةٌ، وليس في عنقه حقوق الناس ولا يتحمل مسئولية خلائق الربّ. وتلك سعادة لن تنالها سلطة أو دراهم. وتذكر أنه لم يبق من عمرك سوى أعوام قليلة تقتضي الحكمة صرفها في ما ينفع الناس لدنياهم، تكسبك إسماً لامعاً في الدنيا وحظ النجاة في الآخرة إن كنت من المؤمنين.


هذه الرسالة جرس الإنذار، إن كان تراث عائلتك يحظى بحراستك وحرصك من الضياع والإفتضاح.
صدقوني ليس أمامكم سوى طريقين لا ثالث لهما.


إما أن تحذو حذو العادلين، فتقيم ثورة على الفساد وتحاسب رجال سلطتك دون مراعاة القربة وموالاة المنافقين الخاذلين. أن تحاسبوا أنفسكم اليوم قبل أن تُحاسبوا غداً بقساوة لا توفر أحداً من انتقام جموع الشعب، خيرٌ لكم قبل قيامة الثائرين، تثور في أنفسهم ثورة الغضب العظيم.
وإما أن تستقيل من سلطة لم تجلب لكُردستان سوى الخراب والدمار. والإستقالة محافظةٌ على سمعة التراث المذكور خشية الانقلاب من المجد إلى الضد، يرفضه القوم غداً ولن يسعفه مؤرخ أو جهاز إعلامٍ.


ذلك أضعف الإيمان أن تستقيل، ولكن ليس من منفذٍ آخر. فمصائر الأمور غدت في يد الانفجار الشعبي، قد يحدث في أي لحظة ممطرة أو في أي يوم صاف!

علي سيريني