لقد اعتاد الكثير من نقاد الغناء العربي الاكاديميين في نقدهم وتقييمهم للاصوات الغنائية، الحديث عن خامة الحنجرة وعن التكنيك الادائي التقليدي الخالي من التجديد التي تتمتع بها هذه الاصوات، اكثر بكثير من الحديث عن احاسيسها في الغناء، وعن القابلية التأثيرية لاصواتها على المتلقي، او بالاحرى عن الطاقة التعبيرية والدرامية لاصواتها، وعن التكنيك الادائي المتجدد والمغاير عن الاصول الكلاسيكية في الاداء.


وهذا الشئ حصل ومازال يحصل برأينا في الساحة الغنائية العربية حتى الان، لان هؤلاء النقاد شعروا بأن الطاقة التعبيرية للمشاعر الانسانية في الاغنية تتجسد في الالحان والكلمات فقط او في الغالب، وهذا يعني انهم نسوا او تناسوا بأن صوت المغني بأمكانه ان يجسد الكثير من الحالات الوجدانية والذهنية والدرامية للانسان.


لذا نحن نرى بأن خامة الحنجرة يجب ان لاتكون المعيار الحقيقي في تقييم المغنين، وذلك لانها اولا ليست نتاج المغني وانما هي نتاج الطبيعة التي خلق منها، وثانيا لان الصوت الغنائي لايصدر عبر الحنجرة فقط وانما هو يصدر عبر الرأس احيانا وعبر الاذنين احيانا وعبر الانف احيانا وعبر الصوت المستعار ( وهو صوت صعب التمكن منه من دون نشاز ) احيانا اخرى وذلك مروراً بالحنجرة، وثالثا لان طبيعة كل خامة هي نسبية ولايوجد معيار نقدي ثابت لها. اي بمعنى ان خامة الحنجرة النقية للمغني مثلا تكاد تكون مؤثرة على بعض المتلقين وتكاد تكون غير مؤثرة على البعض الاخر. واحيانا تكون الخامة الخشنة اكثر تأثيراً على المستمع من تأثير الخامة النقية وبالعكس وهكذا. لذا فأن التركيز على خامة الحنجرة برأينا بل وحتى التركيز على طرق الاداء التقليدي ايضا مع اهمال بشكل او باخر العناصر الاخرى في صوت المغني ليس مقبولا من ناحية التقييم الجمالي والفني، لان هذا الاهمال سيصيب العناصر التي يثبت فيها المغني قدراته الذاتية اكثر مما يثبت فيه قدرات الخامة الطبيعية المخلوقة فيه قسراً، وسيجعل المغني العربي من جهة اخرى ( وهو ماحصل ومازال يحصل حتى الان في الغناء العربي ) يعتمد اعتمادا كبيرا واساسيا في الغالب الاعم من غنائه على الحنجرة، واحيانا قليلة على الانف لعدم صعوبة الاتيان بمثل هذا الغناء مقارنة بالغناء عبر ( الرأس والاذنين وعبر الصوت المستعار )، مما جعل من الطاقة التعبيرية لديه محدودة بل وضعيفة احيانا كثيرة بأستثناء القلة طبعا.


لذا نحن نرى بأن التركيز على خامة الحنجرة في تقييم ونقد الاصوات الغنائية، قد خلق خللا نقديا كبيرا في النقد الغنائي العربي، وخلق تشوهاً لانظير له في التلقي والتذوق الغنائي في العالم العربي ككل، الى الحد الذي جعل هذا الخلل يصيب الكثير من ذائقة المغنين والملحنين العرب ايضا ويصيب تقييمهم الفني لهذا المغني او ذاك بشكل سيئ، بل انه حدد كثيرا من حرية الملحن خصوصا من التنقل في الحانه بين الطبقات الموسيقية الاربع ( الباص، التينور، الالتو، السبرانو )، بسبب خضوع المغني لهذا المفهوم المشوه والذي خلق محدودية ضيقة لاحساسه ولطاقته التعبيرية.
ويكاد يكون الفنان الكبير كاظم الساهر من الفنانين القلائل الذين نجوا من هذا الخلل والتشوه المفاهيمي الغنائي. فبسبب وعيه الفني الحاد وبسبب مهارته الغنائية التي لانظير لها الان استطاع هذا المبدع المتجدد، الغناء من عدة مناطق صوتية، الى الحد الذي جعل من صوته صوتاً ثريا ومتنوعا بشكل نادر جداً.


فلولا الموهبة الكبيرة التي يتمتع بها هذا الفنان ولولا وعيه الفني الحاد الذي جعله يخرج من الاطر التقليدية في الغناء العربي التي اعتمدت الغناء في الغالب من الحنجرة فقط ( طبعا كما هو معروف ان الغناء عبر الحنجرة يكون حاضرا دائما في الاداء، ولكنه برأينا يجب ان يمتزج احيانا كثيرة مع الغناء عبر الرأس والاذنين والانف والصوت المستعار )، ولولا خروجه عن الطرق الادائية الكلاسيكية التي لامغايرة فيها ولااختلاف منذ زمن طويل في الغناء العربي، ولولا ادراكه بأنه يجب عدم الاكتفاء ببث الاحساس التعبيري والطاقة الدرامية في اللحن والكلمة فقط وانما يجب ان يبث هذا الشئ في الصوت ايضا، لما امتلك هذا المطرب الطاقة التعبيرية المؤثرة في صوته، ولما امتلك هذا التنوع في صوته، ولما امتلك ايضا صفة المجدد والمبدع. فالكثير من الاصوات الغنائية العربية المعروفة تكاد تكون جميلة ولكنها ليست مبدعة، وذلك لان ليس كل شئ جميل هو مبدع، بينما كل شئ مبدع هو جميل. فالمغني الان الذي يغني الغناء الريفي او المقام العراقي او الغناء الشعبي او الغناء السائد او القدود الحلبية او غيرها من الاطر الغنائية الكلاسيكية، بشكل ملتزم وصحيح يستحق مفردة المغني الجميل اكثر مما يستحق ان نطلق عليه المغني المبدع، وذلك لانه لم يضف شيئا من عنده الى الدرجة التي تجعله صاحب بصمة غنائية ابداعية تجعلنا نطلق عليه الصفة الابداعية مثلما فعل رواد الاغنية الاوائل مثلا او مثلما فعل المبدع الكبير كاظم الساهر. وكذلك لان الغناء الجميل الكلاسيكي، يعكس بل ويكرس الذائقة السائدة لدى المتلقي، لذا فهو لايواجه سوى بالقبول بشكل عام ولايواجه بالرفض القاطع له ولاتدور حوله الاراء المتناقضة كثيراً. بينما الغناء الابداعي، هو الذي يخلق ذائقة جديدة وحالة جديدة من التلقي، لذا فهو يكون عرضة للرفض احيانا الا بعد مرور فترة من تذوقه، ويكون عرضة للاراء المتناقضة حوله دائما. وكاظم الساهر يتنمي في غنائه بل وحتى في الحانه المهمة الى هذا النوع. اي ان كاظم الساهر استطاع ان يخلق ذائقة جديدة في الغناء العربي سواء من خلال الحانه او كلماته او من خلال اداءه المميز، لذا صار هذا المبدع الاصيل مثار جدل مستمر منذ شهرته وحتى الان، وهذا ان دل على شئ، فأنما يدل على قدرة هذا الفنان على ابراز حالة الصراع الدائم بين القديم والجديد، وبين السائد والمغاير، وبين المؤتلف والمختلف في العالم العربي. وهذا الامر بحد ذاته يحتاج الى دراسة متخصصة لسنا بخصوص التحدث عنها الان.


ان كاظم الساهر يعي جيدا كل هذه الامور، ويعي اهمية ان يتمتع المغني بطاقة تعبيرية هائلة في صوته، ويعي بأن هذا الامر يتطلب من المغني المران الدائم والحقيقي للوصول الى الغناء عبر ( الرأس والانف والاذنين وعبر الصوت المستعار ). والذي ساعد الساهر في نجاحه الباهر في تجسيد الاحاسيس الانسانية المختلفة وفي امتلاكه للطاقة التعبيرية والدرامية في صوته، هو طبيعة صوته نفسها ايضا.


فصوت الساهر يتمتع بمساحة صوتية واسعة ( طبقتين صوتيتين ونصف الطبقة )، بالاضافة الى تميزها بالقوة والحدية والتفجر، سواء كان يغني على طبقة ( القرار ) او كان يغني على طبقة ( الجواب )، او بتعبير ادق على طبقات ( الباص، التينور، الالتو، السبرانو ).
لذا هو يكاد ان يكون المطرب العراقي والعربي الوحيد الذي نجح بامتياز هائل الاقتراب الى حدٍ ما في غنائه من قوالب الغناء الاوبرالي. ويعد هذا النوع من الغناء كما هو معروف، النوع الاصعب في تاريخ الغناء العالمي من جهة، ومن جهة اخرى يعد غناء غريب عن عالمنا العربي، وذلك لانه نتاج الثقافة الغربية بالاساس. وهذا الامر يجعله صعباً جدا على المغني العربي، كونه لم يتمرس عليه كثيراً. ولكن موهبة الساهر ورغبته بتجسيد احاسيسه الفنية بطرق مختلفة ومتنوعة جعلته يؤدي جانبا من هذا النوع الغنائي الفريد بشكل مبدع وخلاق، وخاصة في اغنيتيه ( الحب المستحيل وقولي احبك مثلا ).
ان سمات الاحساس المرهف والطاقة التعبيرية التي يتمتع بها صوت الساهر ماكان لها ان تبرز بشكل مميز لولا امتلاك هذا الفنان لتكنيك ادائي يكاد يكون نادر جدا ولايتمتع به سوى الاصلاء من المطربين من امثال ( صباح فخري، ومحمد عبد الوهاب )، مع اختلاف الساهر عنهم بشيئين: الاول، هو ان اصوات هؤلاء المطربين اكثر نقاوة من صوته ( صوت الساهر فيه بعضا من الخشونة، احيانا تبرز في اغانيه بشكل مؤثر على المتلقي واحيانا قليلة جدا تظهر بشكل غير مؤثر، ولكننا نرى بأن هذه الخشونة جعلت من صوته مميزا جدا وبالاخص في جواباته العالية التي لاتشبه جوابات المغنين الاخرين ). والاختلاف الثاني، هو أن الابعاد المتنوعة والثراء الصوتي والادائي والطاقة التعبيرية التي يمتلكها صوت الساهر اوسع بشكل واضح مما تمتلكه اصوات ( صباح فخري ومحمد عبد الوهاب ) على سبيل المثال.


وهذا الامر برأينا جعل صوت الساهر يجسد جوانب كثيرة من المشاعر البشرية المتعددة بمهارة واتقان عاليين. فأحيانا حينما نستمع اليه نشعر بالشموخ ( المقطع الاخير من اغنية الحب المستحيل مثلا التي يتصاعد فيها اداؤه من طبقة الالتو الى طبقة السبرانو ) واحيانا نشعر باالرومانسية العالية التي تجعل العاشق مثل طير يحلق بالهواء من دون قيود ( اغنية قولي احبك مثلا التي يتنقل فيها ببراعة بين عدة طبقات صوتية )، واحيانا نشعر بالانكسار ( استهلال اغنية انا وليلى مثلا )، واحيانا نشعر بالغربة ( اغنية سنين وياك مثلا )، واحيانا نشعر بالغضب ( الآهات التي يطلقها في الكثير من اغانيه )، واحيانا نشعر بالدفء والحنان ( اغاني اراضي خدودها، وماشي بشارع، وصباحك سكر مثلا ) واحيانا نشعر بمشاعر كثيرة بل ومتناقضة احيانا في آن واحد ( اغنية لاياصديقي وحافية القدمين واني خيرتك مثلا ).


ان التكنيك الادائي الماهر الذي يمتلكه الساهر ليس سهلا وليس متاحا لكل مغني حتى لو كان هذا المغني احيانا يمتلك خامة صوتية جميلة او حضورا كبيرا في الساحة الغنائية، وذلك لان التكنيك حاله مثل حال التوزيع الموسيقي، ليس مجرد معادلات رياضية بمجرد التعرف عليها يمكن تطبيقها بمهارة وابداع، وانما هو بالاساس نابع من الموهبة الكبيرة ومن الاحساس العالي بطبيعة الطبقات الصوتية وبأهمية التنقل بسلاسة وتدفق من درجة الى درجة اخرى ومن طبقة الى طبقة اخرى ومن مقام الى مقام اخر، ومن التحسس العميق وليس الظاهر للجملة اللحنية ولكلمات الاغنية. لذا فأن اهم مايميز اداء الساهر عن البقية من المغنين هو امتلاكه لكل هذه المفاتيح بمهارة عالية، بالاضافة الى رغبته الهائلة بالغناء من جميع المناطق الصوتية التي يتمتع بها الانسان، والتي اغنت طاقة صوته التعبيرية والدرامية بشكل كبير مثلما اشرنا اعلاه. فهو في الغالب طبعا حاله مثل حال بقية المطربين يغني من الحنجرة، ولكنه احيانا يغني عبر الانف ( بداية اغنية اشكيك لمين، واغنية اكرهها مثلا )، واحيانا يغني عبر الاذنين ( المقطع الاول من اغنية مستقيل والمقطع الاخير من اغنية زيديني عشقا مثلا ) واحيانا عبر الرأس ( مفردة ( بغداد ) في اغنية كثر الحديث، ومفردة ( حرام ) في اغنية تقولين عني، والعديد من الاهات المغناة بطبقات عالية مثلا ) واحيانا عبر الصوت المستعار ( الكثير من الآهات التي يطلقها من طبقات عالية في اغانيه مثلا ).


ان هذه القدرة الادائية التعبيرية المتجددة للساهر بالاضافة الى قدراته الموسيقية الكبيرة ( سنتحدث عن الحانه في مقال اخر ) وذكائه في اختيار كلمات وموضوعات الاغاني المغايرة عن السائد، جعلت صوته يمتلك قدرات مميزة جدا في التاثير على المتلقي، بل وجعلت منه ظاهرة وحالة فنية دائمة سيكون مصيرها الخلود بلا شك، في زمن يكاد يخلو من شئ اسمه الظاهرة الفنية.

باسم الأنصار

*شاعر وكاتب عراقي
[email protected]