قبل وجود الانسان على كوكب الأرض، كانت تعيش عليه أنواع الحيوانات منها المرعبة المخيفة ومنها الوديعة اللطيفة. كانت تجوب الأرض بحثا عن الماء و الطعام. واذا ماشح الطعام يبدأ النزاع فيما بينها ولو على دودة حقيرة. واذا ما توفر فانها تتنازع على الأجود. القوي منها يستولى، والضعيف الخائر القوى ينتظر غفلة من القوي (لسرقة) ما يستطيعه منه. وبعد اسكات البطون وعودة النشاط، تظهر الرغبة للجنس الآخر، ومرة أخرى يستولى القوي على الأجمل والأحسن، وينتظر الضعيف ان يتعب القوي ليحاول الحصول على شيء مما تركه القوي أو نام عنه.


أتظن ان ذلك يحدث فى عالم الحيوان فقط؟ كلا، فان عالم النبات يشارك عالم الحيوان فى هذه الصفة الفطرية، حيث تزاحم النبتة القوية النبتة الضعيفة لتستولى على مائها وغذائها وتتركها تموت جوعا وعطشا. وحيثما تنعدم النباتات القوية فان الضعيفة تتكاثر ويبدأ النزاع بينها حيث (تسرق) الواحدة الأخرى ويهلك الجميع. ويحصل ان بعض النباتات الضعيفة تتكاثر وتهاجم النباتات القوية القليلة العدد فتقضى عليها وتحل محلها.

وبعد ظهور الانسان البدائي، فان غريزته فى البحث عن الطعام وسرقته من الآخرين لا تختلف عن غريزة الحيوانات التى سبقته الى الأرض، ولشدة ضعفه وقلة حيلته فانه كان نباتيا فى البداية، لعدم استطاعته السيطرة على الحيوانات التى كانت تتفوق عليه عددا وقوة. وبدأ النزاع بين الأفراد على الطعام والجنس تماما كما تفعل بقية الأحياء. وبسبب اختلاف مخ الانسان عن غيره من المخلوقات، فان ذلك المخ كان كالماسة الخام تحتاج الى الصقل كي يظهر جمالها. وصقل الدماغ عند الانسان هى التجارب التى دأب عليها منذ وجوده على الأرض وستبقى معه الى الأبد. علمته التجارب كيف يزرع، وكيف يدجن الحيوانات ليسد بها رمقه اويسخرها لخدمته، وكيف ينصب الأشراك للحيوانات الكبيرة لاستدراجها وصيدها.

وظهرت الأسرة. الرجل أقوى من المرأة عضلا، والحياة آنئذ تحتاج الى العضل أكثر من العقل، فأصبح سيد الأسرة بلا منازع وخضعت له المرأة والأولاد بدون نقاش. تعددت الأسر وبدأت روح التنافس تظهر بينها، فتحاول كل اسرة ان تكون أكثر غنى من الأسر الأخري بما تملكه من عدد أكبر من الذكورالأقوياء والملابس الجيدة (جلود الحيوانات)، والحيوانات الداجنة والأرض الزراعية. وقد تتطور المنافسة الى نزاع ومحاولة كل منها الاستيلاء على ما تملكه الاسر الأخرى وسرقتها. وينفصل الأبناء الكبار عن آبائهم لتكوين اسر جديدة، ولم يكن ذلك سهلا فى البداية لصعوبة الحصول على الزوجة والمأوى ومستلزماته بالسرعة المطلوبة، فان الأكثرية كانوا يلجئون الى الاستيلاء على ما يملكه الآخرون ويسرقونه.

وبمرور الزمن وتطور العقلية البشرية وبسبب ازدياد عمليات الاستيلاء (السرقة) اهتدى الانسان الى انه لكي يضمن السلامة فان عليه ان يتفق مع غيره من الجيران والأقرباء ليضمنوا بذلك حماية انفسهم اذا ما هوجموا، وانتصارهم اذا ما هاجموا. فتكونت القبيلة التى يقودها فى العادة أقوى فرد فيها من الناحية العضلية، أو غنيا يشترى الأتباع، او اكبرهم سنا وله أبناء عديدون أقوياء.

لجهل الانسان البدائي الأحوال الطبيعية، فقد كان يرتعب من الرعد والبرق والنار التى قد تنتج عن تلك الظاهرة، فيحاول ان يتقرب اليها ويقدم لها القرابين لينجوا من شرها وبطشها. ولا تخلو قبيلة من أذكياء يستفيدون من رعب الناس ليسرقوا منهم فيوهمونهم بأنهم على صلة بتلك (الآلهة)، ولما كانت غالبية الناس قليلى الذكاء فانهم صدقوا دعواتهم، وأفاضوا على اولئك الأدعياء الدجالين يما يتيسر لديهم من البيض والدجاج والعسل والقمح وغيرها مما يملكون، وناموا مطمئنين الى أنهم أرضوا الآلهة وسيكونون بمنجى من غضبها.

تطورت عقول البشر أكثر، فأدركوا أن الرعد والبرق هما ظاهرتان طبيعيتان وستحدثان اذا أعطوا (النذور) لاولئك الدجالين الوسطاء ام لم يعطوهم، فكان لزاما على الدجالين ان يبحثوا عن شيء آخر أو أشياء أخرى ليطمئنوا الى استمرار مواردهم التى لا يحتاجون الى كثير جهد أو كبير مغامرة للحصول عليها من البسطاء أو بالأحرى سرقتهم. فظهر من بينهم دعاة الطب ndash; ولا يزال هناك عدد منهم فى افريقيا اليوم ndash; وادعوا بعلمهم فى علاج المرضى، تارة بالأعشاب وتارة بكتابة الأدعية وأخرى بضربهم ضربا مبرحا لأخراج الجن والعفاريت الذين يتقمصونهم ويسببون لهم المرض، وهذه أيضا ما زالت موجودة فى بعض البلدان.

السراق المذكورون لم يكونوا يحصلون على الأموال الطائلة، بل يكفيهم بعض البيض أو الحليب وقد يدفع لهم ميسورو الحال دجاجة او معزة. أما اللصوص الجدد فى العراق بعد نهاية حكم البعث المباد، فان مبلغ الألف دولار أمريكي لا يستحق منهم ولا حتى رمشة عين، وتطور الأمر وأصبحوا يتحدثون بالملايين، وبعضهم لا يتحدث الا بالمليارات، أما الدنانير العراقية فقد نسوها تماما.

من السراق الجدد من ذوى العمائم ومرتزقة الدين يعدون البسطاء بتخليصهم من عذاب السعير و يغروهم بالحور العين والغلمان المخلدين، ولا يعود هؤلاء يحبون حياتهم الحالية بل يتغلب عليهم هوس الحب للآخرة، حيث سيجدون فيها كل ما يشتهون وكل ما يحرمه عليهم مرتزقة الدين فى هذه الدنيا، فيصدقونهم ببلاهة، ويفجرون انفسهم بين الناس البريئين ويزهقون أرواحهم، ويخربون ممتلكاتهم، لتدخل ملايين جديدة من الدولارات الى حساباتهم فى خارج البلد التاعس.

واشتد التنافس بين اللص المعمم والسياسي (المهندم) على حساب الشعب العراقى الجائع المشرذم، وبلغت خسارة البلد خلال السنوات الخمس الماضية مبلغا لا يكاد يصدق وهو 250 بليون (مليار) دولار أمريكي حسبما كتبت عدة صحف عالمية كبرى فى الاسبوع الماضي.

صحيح ان اللصوصية يكتسبها الانسان بالفطرة كما بينت، ولكن من كان يصدق ان من الناس من تصل بهم الخسة والدناءة ان يسرقوا بلدهم وأبناء شعبهم المحرومين من كل ملذات الحياة ومستلزماتها ومن الدواء والماء والكهرباء، ولا يحصلون على رغيف الخبز الا بشق الأنفس والمخاطرة بالحياة، وهم يشترون العمارات والقصوروالأراضي داخل البلد وخارجه، ويستثمرون المال المسروق فى الدول السعيدة ليزيدوا فى سعادتها ويزيدوا فى شقاء أبناء جلدتهم؟ أي نوع من البشر هؤلاء، ان صحت تسميتهم بالبشر؟

فى صغري سمعت قصة عن لصوص دخلوا فى احدى الليالى دارا كانت خالية من أهلها، لفت نظركبير اللصوص شيئا يلمع فى الظلام على الأرض فالتقطه ولم يعرف ماهيته، فوضعه فى فمه، ثم بصقه وأمر جماعته من ترك كل شيء سرقوه من البيت فى مكانه، واعادة كل شيء الى ما كان عليه قبل دخولهم اليه. سأله أصحابه عن السبب فقال لهم : وجدت ان الشيء الذى التقطته كان (فصا) من الملح، ولما تذوقت الملح فقد أصبح حرام وعارعلينا سرقة بيت تذوقنا ملحه.

أن فص الملح قد (غزر كما نقول فى العراق) بلص من اللصوص ومنعه من سرقة محتويات بيت، فما بالك بلصوص الملايين من الدولارات، وهم الذين عاشوا فى هذا البلد وأكلوا من خيراته وشربوا من دجلته وفراته؟ كيف سينظرون الى وجوههم فى المرآة، وماذا سيقولون لأولادهم وأحفادهم؟ هل سيشعرون بذنوبهم فى يوم من الأيام؟ لا ريب فى انهم سيعيشون فى رعب دائم من انهم قد يلقى القبض عليهم فى يوم من الأيام ويقدمون الى المحاكم التى ستقتص منهم، ولا أظن ان ذلك اليوم ببعيد.

عاطف العزي
كندا