الإتصالات الأولى مع الأميركيين!

بتاريخ الثالث من حزيران / يونيو 1980 وصل لبغداد بشكل بالغ السرية وفد أمريكي برئاسة عضو مجلس النواب الأميركي وقتها و مسؤول لجنة التسلح فيه السيد ( دونالد رامسفيلد )!! و كان في إستقبال الوفد طارق عزيز وقد نزلت طائرة الوفد في المطار المخصص للزيارات السرية و التابع لرئاسة ديوان رئاسة الجمهورية و الواقع بين منطقتي ( اليوسفية و المحمودية ) جنوب بغداد، و كان رئيس الديوان وقتها السيد حسين كامل حسن المجيد ( الصهر الذي كان )!.


في يوم 4 حزيران / يونيو إلتقى الوفد الأمريكي بشكل سري للغاية في مدينة تكريت مع صدام حسين و لم تتسرب وقتها أية أنباء عما دار في ذلك الإجتماع المغلق، ثم في السابع من حزيران / يونيو غادر الوفد الأمريكي بنفس السرية التي جاء بها!!، بعد أيام طلب الرئيس صدام حسين من أعضاء خلية خاصة الإجتماع به لغرض التهيأ لتشكيل وفد أمني و سياسي عراقي للذهاب بشكل سري إلى العاصمة الأسبانية مدريد للإجتماع بوفد أمني و سياسي أمريكي لمناقشة الإستعدادات ووضع اللمسات النهائية لإعلان الحرب ضد إيران.

الوفد العراقي لإجتماعات مدريد :
في التاسع من تموز / يوليو 1980 تم في مكتب صدام حسين عقد إجتماع خاص ضم كل من مدير الأمن العام وقتذاك السيد فاضل البراك، و أخ صدام غير الشقيق سبعاوي إبراهيم الحسن، و موفق رشيد التكريتي و سعد خليل إبراهيم التكريتي و شخص آخر لا داعي لذكر إسمه، المهم إنه قد طرحت في الإجتماع الخاص قضية الحرب على إيران كما أعلم الحاضرون بأنهم سيسافرون خلال أيام قريبة لمدريد بغرض اللقاء مع وفد أمريكي خاص لمناقشة بعض الأمور الفنية و الستراتيجية المتعلقة بمشروع الحرب القادمة و عليهم الإستعداد لذلك و تنفيذ تعليمات القيادة ( صدام )!، و من واقع محضر الإجتماع السري الخاص الموجود أمامي فقد طلب مدير الأمن العام اللواء فاضل البراك من الرئيس العراقي منحه الأمان و حرية الكلام من أجل أن يعبر عن رأيه في الموضوع، فلم يمانع صدام و أعطاه ما أراد و حيث كانت آراء فاضل البراك على الشاكلة التالية أنقلها للقراء الكرام كما وردت بالنص دون تدخل أو تحريف :
فاضل البراك : إن دخولنا الحرب ضد إيران يا سيدي سوف يدخلنا في مشاكل كثيرة، سيدي الرئيس أنا أطلب من سيادتكم أن تمنحوني الرأي و الأمان لكي أقول لك ما في قلبي و ما في جعبتي، سيدي أنا مدير الأمن العام و الأمن الداخلي العراقي هو مسؤوليتي أمامك و لكن أنا من خلال موقعي و مسؤوليتي أتابع الكثير من الأمور و أنا معي ملف متكامل أضعه أمام سيادتك و لكن سوف ألخص الأمور المهمة لعلمي بإنشغال سيادتك فقال له صدام.. لا فاضل أخذ وقتك الكافي، وهنا إستطرد البراك ما يلي:
سيدي.. الأمن العام سجل الأحداث التالية منذ 1 آذار / مارس 1979 :
تم ضبط 6209 حالة تسلل لأكراد من إيران ضمن المنافذ التالية :
حاج عمران ndash; فتحة سرتك ميدان ndash; خانقين ndash; لاوي حسن ndash; بياره ndash; حلبجة ndash; مضيق دربندخان ndash; فتحة دوكان ndash; و عشرات المنافذ الأخرى،
أنا لا أريد أن أبالغ في الأمور و لكن أؤكد لسيادتك أنها تحت السيطرة التامة.
هناك نشاط محموم و إختراقات حدودية على طول الحدود الجنوبية و بالأخص من البصرة و أهوار العمارة و منفذ زرباطية و هذه المنافذ يستخدمها حزب الدعوة.
هناك سيدي نشاط كبير جدا لحزب الدعوة في عموم العراق من البصرة و صعودا لبغداد و لا يمر يوم دون أن نعثر على منشورات معادية و هذه بعض منها أضعها أمام سيادتك.
خروقات جوية إيرانية كل يوم و أنا أطلع عليها بتفاصيلها لأني كما يعلم سيادتك عضو في مجلس الأمن القومي.
تم ضبط الكثير من الأسلحة و المتفجرات مهربة من إيران إلى داخل العراق و إن لم تكن جميعها إذا قلت جميعها فأنا أكذب و لكن أكثر من 65% تحت سيطرتنا بالكامل.
حادث الجامعة المستنصرية الذي تعرض الرفيقان طارق عزيز و محمد دبدب و ما أعقبه من أحداث أخرى.
التحرك الغير مألوف لجماعة حزب الدعوة و النشاط الغير إعتيادي و التدريبات العسكرية التي يقومون بها و النشاط المحموم للكسب و إغراء الشباب في الجامعات و الثانويات.
ضبط حالات إختراق من قبل عناصر حزب الدعوة لبعض الأجهزة الحزبية و الأمنية و الحكومية وهذا ما لم يحدث سابقا.
إن التحرك الإيراني إتجاه العراق محموم و خطير و يشكل خطر على الوضع الأمني المستقر في العراق إلا أنا أرى أنه تحت السيطرة التامة ولا يدعونا لخوض غمار حرب لا تعرف عقباها أو نتائجها، أنا أرى أن النظام الإيراني الحالي يعاني من عزلة دولية و عزلة داخلية و إن المتغيرات السياسية في إيران التي حدثت بعد خروج الشاه و رجوع الخميني إلى إيران تسير نحو الهاوية لا يمكن أن يستمر هذا النظام بما هو عليه من زخم أو أن يطاول في البقاء على قيد الحياة، إن التغييرات في إيران التي كانت باريس الشرق كما يسميها شاه إيران و ما إعتاد عليه الشعب الإيراني و إن التغيير الحاصل في إيران وهو إنقلاب الأوضاع 180 درجة من مجتمع متحرر و منفتح إلى مجتمع مغلق يسوده التزمت الديني و هيمنة رجال الدين على السلطة سوف يدفع إيران خلال السنتان القادمتان إلى سلسلة إنقلابات عسكرية و تسود الفوضى و هذا لصالحنا، أما أن ندخل حرب مع إيران فأنا أتوقع من أنها حرب لن تكون خاطفة أو حرب ساعات أو أيام كما يحدث بين العرب و إسرائيل، لا يا سيدي أنا أرى إذا أعلنا الحرب على إيران فإنه طوق نجاة للنظام الحالي سوف نتضرر نحن و هم من يستفاد منها إلى أقصى الحدود المتاحة له و أعتقد أنها حرب سنين و لا يتوقع أحد أن تنتهي هذه الحرب بأشهر!!، و قبل أن أدخل في التفاصيل الأخرى سيدي فقيل أن أكون مدير أمن أنا ضابط في الجيش العراقي و أنا دارس أركان و أنا أتابع الستراتيجية العسكرية في العالم بما تسمح لي به الظروف أو ما هو متاح لنا من إطلاع على الستراتيجيات العالمية، الحرب سوف تلحق بنا الضرر أكثر مما تلحقه بإيران و ما تعلمته في الكلية العسكرية و كلية الأركان إن أي مدينة تقصف بالمدفعية تعد ساقطة عسكريا و إن لم يدخلها الجيش و سيادتكم تعلم أن المدن الحدودية العراقية بالنسبة للعراق ذات أهمية ستراتيجية و خطيرة و إن الكثافة السكانية في هذه المدن قد تعرضنا لأهتزاز أمني و تخلخل في السيطرة و كما أسلفت قبل قليل و إن خط الحدود بين بغداد العاصمة و أقرب نقطة حدودية بالخط المدفعي هي 79 كيلومترا أي أن إندفاع إيراني من نقطة مندلي أو خانقين بإتجاه بعقوبة سوف يضع بغداد تحت القصف المدفعي المباشر أو البصرة كما أن العناصر الموالية لحزب الدعوة هم في نشاط محموم سوف ستغلون أي خلل أمني أو أي ثغرة قد ينفذون منها، أما إيران فإن طهران تبعد تبعد عن أقرب نقطة حدودية مع العراق تبعد أكثر من 583 كيلومتر من خط السليمانية، أما المدن الحدودية الإيرانية مثل قصر شيرين أو المحمرة أو عبدان أو غيرها لا تشكل أي خطر أمني على إيران و لن تؤثر في تماسك النظام، بل العكس سوف يوظف النظام الإيراني الحرب لصالحه و لتركيز أسس النظامو سوف يطاول في الحرب بقدر ما يستطيع لغرض دق ركاز النظام، الحرب يا سيدي سوف تكون طويلة و إن قرار نهايتها بيد إيران نعم سيدي إيران لن تكون مهزومة في حرب مثل هذه كما كان يحدث مع العرب هم من يطلب وقف إطلاق النار لا إن إيران لن تسعى إلى طلب وقف إطلاق نار كما أن هنالك قوى في العالم سوف تسعى جاهدة لتغذية هذه الحرب و تدعم الطرفين العراقي و الإيراني للإستمرار و ديمومة الحرب كما أن الحرب ستكون باب الرحمة و الفرج و طوق النجاة لإيران لتصفية خصوم النظام في الداخل الإيراني إن ما يهم هذا النظام أنه اول نظام في العالم يتزعمه رجال دين و هي التجربة الأولى في العالم الإسلامي يحكم فيها رجال الدين كما سيتم إستخدامه لتثبيت أسس الحكم في إيران كما سوف يستغله لترصين الجبهة الداخلية و تقويها و يقضي على خصومه السياسيين المباشرين و غير المباشرين و يضرب المعارضة الإيرانية بكل قوة و بيد من حديد بحجة الحرب كما أن الشعب سوف يلتف حول النظام لأن البلد في خطر و إذا كانت هناك خلافات يشعر بها المواطن الإيراني مع النظام الحالي فإنه سوف يؤجلها لحين الإنتهاء من الحرب أي إلى حين درء الخطر عن البلاد و بهذا يكون النظام قد إستفاد من تثبيت قواعده الأساسية و فرض هيمنته على الحكم، و بهذا يكون النظام قد تحصن، أنا أعتقد أن الحرب سوف تكون خسارة لنا و مكسب لهم، وهنا قال فاضل البراك سيدي أنا طلبت الرأي و الأمان و سيدتك وعدتني بذلك أنا هذا تصوري، و لك الرأي الأول و الأخير يا سيدي....!.

من خلال إستعراض منطلقات اللواء المرحوم فاضل البراك تتبين رؤيته الستراتيجية الواضحة تماما و المطابقة بكل تفاصيلها لما حدث ميدانيا فيما بعد، و نستكمل الموضوع في الجزء الثالث بكل تفاصيله و زواياه المعتمة.


نهاية الجزء الثاني

داود البصري

[email protected]