صداقة كلكامشيه وعراق معطوب

علي البزاز من أمستردام :إنّ موت أنكيدو دفع بصديقه كلكامش إلى البحث عن عشبة الحياة درءً للموت وطمعاً بالخلود، الأمر الذي دفعه بالقيام برحلة مكانية قادته إلى جبال ألأرز حيث إلتقى هناك أوتونوبشتم بطل الطوفان والذي أرشده إلى عشبة الخلود التي حينما وجدها وذهب ليغتسل بالنهر إلتهمتها الأفعى كما تقول الملحمة. ورحلة أخرى روحيّة عبارة عن صراع مع فكرته عن الموت ** هاتان الرحلتان قادتاه إلى خلاصة معرفيّة هي عدم خلود الجسد فهو فانٍ والخلود للعمل, لذا قام كلكامش ببناء أسوار مدينة أوروك وعمّرها. إذاً ما أراده كلكامش جسدياُ ( الخلود ) حققه بالعمل ومن ثم بالملحمة إلتي تتغنى به quot; هو الذي رأى كل شيء فغني باسمه يا بلادي quot;

عنوان الفيلم quot; دبليو دبليو دبليو كلكامش quot; للمخرج طارق هاشم يحاول ألإشتغال على الملحمة إِنتساباً وغاية، فمن ناحية ألإنتساب: طارق ( يعيش في الدانمارك ) يحاور صديقه باسم الحجار (يعيش في العراق ) والصداقة الروحيّة والمعرفيّة ( حيث كلاهما ممثلان ) هي المبرر لهذا الحوار ومن ثمارها هذا الفيلم وهما من وادي الرافدين موطن الملك كلكامش.

ملصق الفيلم

والمسافة بين العراق والدانمارك يقطعانها على شكل ( رحلة أسئلة ) إستعادة لأسئلة كلكامش عن الصداقة والوجود. الوجود هنا في الفيلم هو العراق كما ان الشخصيتين الرئيستين في الفيلم ndash; طارق وباسم ndash; تتحاوران عبر نص ملحمة كلكامش ملاحظة : إنّ الفيلم روائي وليس وثائقيا مثلما دُرج في برنامج مهرجان روتردام للفيلم العربي، ذلك بسبب من وجود شخصيتين رئيستين لهما دور محدد ومسار مرسوم بعناية في الفيلم وتتعايشان عن طريق تحاورهما وهذا التفاعل فيما بينهما ينتج الحدث الرئيس في الفيلم الا وهو متابعة الوضع في العراق.
الفيلم يروي كيف يحاول طارق أن يستنطق الدمار والانهيار من خلال محاورة صديقه في العراق الممثل باسم الحجار عن طريق الانترنيت وهي فكرة سينمائية جميلة وطريفة والمراد منها ليس التواصل الكوني عبر الشبكة العنكبوتية فحسب وإنما الإيحاء بان نجاح الفكرة اوفشلها مرهون كذلك بتفاصيل الحياة اليومية هناك, فمثلا يُودي إنقطاع الكهرباء المزمن في العراق إلى تعطيل الاتصال عبر الانترنيت الذي يقود بدوره إلى قطع الحوار أي إلغاء التواصل مع البلد.
يدخل طارق في لعبة يسميها هو في الفيلم - حقيرة ndash; ليُحرّض صديقه على البوح وفضح الحالة المأساوية للمجتمع وعندما يكتشف بأنه قد أرهق صديقه بألاسئلة ومعايشة الخراب يُقرر التوقف ولكن ما فائدة إستنطاق الجحيم دون التوصل إلى خلاصة الموضوع والتي هي:
ليس هناك الآن من بلد إسمه العراق كما كان في المخيلة سابقاً. لا وطنية ولا أمان إضافة إلى تحطيم أواصر الترابط الاجتماعي جراء الطائفية يقول باسم (يحاولون إرغامي بشتى الوسائل لكي أطلق زوجتي لأنها سنيّة)
لقد أجاد باسم من خلال رهافة التعبير عن ماساته وهواجسه بتصوير الواقع عبر خصوصيّة عراقيّة فذّة - شتائم، لعنات - وبتلقائية الشخص المعطوب والمدمر كإنسان وكفنان. رافق الفيلم بعض المشاهد الترويحية خفضاً لماساته الكابوسيه.

من الفيلم
ما هي وظيفة الإحتلال هنا ؟؟ هي تحطيم قدرة المواطن العراقي على الإنسجام مع وطنيته فهو يشاهد الجيش الأمريكي ليلاً ونهاراً و في كل مكان إِضافة إِلى الحواجز الكونكريتية فينتابه شعور بأن هناك من يقاسمه وطنه عنوّة وتحت التهديد. هذه النقطة قد تحولت من مجرد شعورإلى نقطة مركزية في الفيلم، قضية سيادة وإنتماء عراقيتيين فيقول باسم (إنقطعت الكهرباء الوطنية / أي سنتوقف عن التواصل ثم يشتم, اي وطنية هذه التي تأتي وتذهب متى تشاء ؟؟) ناقداً بذلك الواقع السياسي بجملة مختصرة ولكنها كافية في مرارتها ومستوحاة من الهموم اليومية للعراقيين.
الفيلم هو بحق إِستجواب للحرب دون أن يتطرق إلى مفردات أو معدات الحرب وهو يدين الإحتلال دون التطرق إلى الوجود العسكري كل هذه الادانات جاءت عن طريق تتبع نتائج الحرب وفيما بعد الإحتلال على المجتمع العراقي - الطائفية المقبولة من قبل فئات معينة والإذلال الوحشي لحلم المواطن العراقي بحياة آمنة ومؤمنة ضد القتل - كل هذا من خلال حوار حاد وصريح في مأساته.
نُشاهد أيضاً في الفيلم (باسم وطارق) وهما يُمثلان مقاطع من ملحمة كلكامش وفي سياق براعة تمثيل باسم بدا المخرج طارق وكأنه محشور في بناء حبكة الفيلم و غير تلقائي. كما أخفق في تصوير حجم معاناته في الدانمارك ضمن سياق معاناة باسم في العراق , فهو يشعر بالملل ويعاني وحشة المكان وهذه الاشياء مقدور على مكافحتها وان كانت جوهرية في حياة المغترب، أما باسم فيروم الأنقاذ الروحي والمكاني - يريد المغادرة - ونجاته أصعب من خلاص زميله وفي هذا الصدد كم كان سيبدو الفيلم مبنيّاً كلّغة سينمائيّة وليس كسرد تفاصيل فيما لو تم حذف بعض المشاهد في إثناء المونتاج والتي تصور طارق في الدانمارك لأن وجود طارق أصلاً في الفيلم هو لإستنطاق باسم وقد تمت هذه العملية بنجاح ممتاز ولذلك قال طارق: إنني العب معك يا باسم لعبة حقيرة
والشيء الأخر الذي يُؤسف له وقد ساهم نوعاًما بتجفيف مستوى كابوسية الماسا ة هو نهاية الفيلم و التي تُصور المخرج والممثل طارق في شوارع الدانمارك ليلاً، والمشهد ليس موّفقا في هكذا نهاية مرفهة وعلى نحو غير متوقع قياساً إلى الحطام العراقي، لا من حيث الشخصي (حالة طارق مقارنة بباسم) ولا من حيث المكان (من إِنقطاع الكهرباء وسيادة الظلام في العراق إلى الأنوار المبّهرة في الدانمارك والمقارنة حتى السلبيّة شبه معدومة بين البلدين)، ولا يُبرر هذا الإقحام المفاجىء إلا في إطار نيّة بريئة ترمي إلى إعلان حالة ألاْنا غير السعيدة حتى لوكانت تعيش في الدانمارك و ألإمعان في إشهار عذابها المتضامن مع الماساة.وهكذا ظل الخراب العراقي يطاردنا عاطفياً ويلوّح بتقصيرنا نتيجة السكوت الكلي لما يحدث هناك حتى بعد أن أُضيئت الشاشة الفضيّة وكمشاهدين شاركنا جراء الصمت بقبول التدمير.


* فاز الفيلم بالجائزة الفضيّة للأفلام الوثائقية الطويلة في مهرجان الفيلم العربي في روتردام من 13 ولغاية 17 حزيران 2007

** إن البشر يفزعون من أفكارهم حول الأشياء وليس من الأشياء ذاتها فمثلا: كانت فكرة كلكامش عن ألموت هي الفناء والزوال إلى الحد الذي اعتراه الخوف والهزال. الإنسان الذي يُؤمن بتناسخ الارواح لا يفزع من الموت. المؤمنون توّاقون إلى الموت لملاقاة المكافأة الكبرى = الجنة.الفنانون تُخلدهم أعمالهم، إما البقية فيُسهّل لهم الهرم أو الشيخوخة تقبل فكرة الموت

[email protected]