علي البزاز من أمستردام:في مقهى صغير على الحدود العراقيّة الأردنية يلتقي العراقيون بالعراق منفيّاً، يتحاورون، يستذكرون الماضي المدمّر ونتيجة البطش الذي تعرضوا له يلومون اللحظة التي أعلنتهم عراقيين، الجناية التي صرح بها الشاعرابوالعلاء المعري quot;هذا جناه أبي علي quot;
يبدأ فيلم أين العراق للمخرج باز البازي بمشهد لمواطن عراقي من الجنوب (عليّ) يعمل سائق شاحنة صغيرة لنقل البضائع يسب العراق أمام الكاميرا وبعدها يعرض يديه الملطختين بالدهن والسخام (مشتقات النفط) ويقول بتلقائية quot; إنظروا هل هذه يدين مواطن سعودي أو كويتي ؟ quot; (صُور الفيلم بعد سقوط النظام مباشرة) ملمّحاً إلى أن العراقي قد جنى من النفط الحروب والدمار وإنتهاك لإنسانيتة بخلاف ماحصل لمواطني تلك الدول من الرفاهية والأمان. عنوان الفيلم يستلهم ظرف المكان أيّن / سؤال ليعبّر عن وجود العراق في العدم على الاقل في هذه المرحلة التاريخية من محنة العراق والتي يشارك في ظلاميتها أطراف عدة من العراقيين أنفسهم إلى دول الجوار وإرهاب القاعدة ثم الطرف الرئيس امريكا.

من شخصيات فيلم اين العراق

ذا السؤال المؤسس على النفي يتماهى مع مشهد النهاية : شاحنات النفط تعبر الحدود --- إلى أين تذهب هذة الثروة ؟ ويجد النفي صداه في المكان (مقهى حدودي يجمع العراقيين) كما أن المخرج باز البازي هو نفسه منفٍ منذ ثلاتين سنة، إستفاد العنوان من كلمة quot; أيّن quot; ليشحذ كل طاقاتها على السؤال فالنفط أصبح ثروة في الخراب والنقمة (نفي النعمة). ما الذي يرغم المواطن على التنكر لبلده وماهي عمق العلاقة بينه وبين الوطن ؟؟ هنا أود التذكير على اننا كعرب نشارك العالم في كل شيء، في التفكير، في الذود عنه وفي المشاركة بتجميله ولإنجاح هذه المسؤولية التضامنية ينبغي التوقف عن الإدعاء بخلود الأفكار لإنها تتغير وفقاً للزمان وللمكان، المطلوب مراجعة الكثير من المفاهيم والأفكار اللتين تلعبان دوراً في علاقتنا بعالمنا و تؤديان إلى تعاستنا وإنعزالنا أو إلى قبولنا كمواطنين مساهمين فيه عندئذ تخف حدة تصادمنا معه ونشعربالسعادة، من الضروري الحسم الواضح لمعاني هذه المفاهيم { الوطن، الآخر، الشجاعة، الخيانة، الإحتلال ndash; إلخ }. جرأة المواطن (عليّ) على السب قادتني إلى طرح هذا السؤال :
هل الوطن هو مجرد شعور بالولاء العاطفي أم هو مفهوم معرفي يخضع للعقل تُناقش فيه حدود المواطنة والوطن والتي ما أن تتجاوز تتغير هذه العلاقة الى جانب التنصل او الارتباط الحميمي ؟؟ فأذا كان الإنتماء للوطن ناتجاً بسبب الولادة والذكريات أي عن طريق مساهمة غير واعية وغير شخصية الإختيار لإنها مكتسبة عن الأهل والبيئة كإكتساب الاسم والديانة، أذاً هذا الولاء حماسي يفور بإتقاد العلاقة بين الإنسان ووطنه (سلباً او إيجابا تبعاً للحماية او للخطر الصادران عن الوطن) وهو غير أصيل لانه مكتسب جراء عوامل خارج إرادة المرء نتيجة الولادة ورغبة الوالدين وفرض محيط العيش غير المختار، اما اذا نظرنا للوطن كمفهوم يرتبط بالعقل غير نافٍ للعاطفة فسوف نصل إلى علاقة معرفية بإنتمائنا بعيدة عن حماس الولاء. ففي العقل هناك أيضاً شحنة من العاطفة ولكنها غيرمتغلبة عليه.

شخصية اخرى من الفيلم
ن الخطورة تكمن في حالة صراع العقل مع العاطفة وتَغلّب الاخيرة عليه ويكمن سلام المرء بقدرته على جعلهما رفيقين لا عدوين. علاقة الانسان ببلده علاقة حميمية غير معقّدة تشبه علاقة المرء بالمأكل، بالمشرب وبالاثاث ونفعية تكافلية، إن تضخيم هذه العلاقة بجعلها مصيرية وقياسية يضر بالطرفين. المنفعة غير شريرة بخلاف ما نتصورها فهي أساس التعامل مع روابط كثيرة مثلا : المنفعة في الحب هي تحقيق الأنا مع شريك وفي الزواج منفعة إقتصادية وفي الأديان توجد منفعة الحصول على مرضاة الخالق والفوز بالجنة حتى في الإنتحار هناك منفعة إشهار للذات المقموعة، الاوطان التي تجبر الفرد الموت في سبيلها ولا تجعله يتنعم بثروتها ودفئها هذه ليست أوطاناً تًحترم بل صانعة للموت. بهذا المعنى نستطيع أن نتفهم شتيمة (عليّ) فهي ليست إساءة من جانبه بل نتيجة تنصل العراق عن حماية وسعادة مواطنيه وتعريضهم للهوان.

المخرج العراقي باز الباز

حاول المخرج باز الدخول للعراق عن طريق تركيا ففشل، جرب الحدود الاردنية فلم يفلح فعوضته مقهى صغيرة عن رؤية بلده. شخصيات الفيلم أضفت عليه ملامح الصدق والبساطة، براءة فتك بها نظام دموي حسب العراقي المقيم في الدانمارك (تتكرر هنا مفردة المنفى) الذي جاب بلده جنوباً وشمالاً ليعثر على أقاربه المفقودين دون جدوى. عبّر الفيلم وبمشهد صريح عن مواقف بعض العرب ضد العراقيين ومؤازرتهم لنظام صدام في البطش فهاهو ضابط مخابرات أردني يعلن وبسفالة عن مساندتة للنظام العراقي ويشتم العراقيين لمعاداتهم ذلك النظام والسبب هنا انه يتبنى عاطفة الإنتماء الحماسي كمعيار تحكم علاقته بالوطن، أذ يعتبر الأردني ان صداما شجاعاً لانه دافع نيابةعن العرب لذا يراه بطلاً حتى وهو يقتل العراقيين. تبني مفهوم البطل على هذا النحو يجر إلى كارثة تهدد علاقة المرء بمن حوله ويجعل العالم ساحة حرب، القتال فيها بُطولة شاهراً الفحولة كسلطة (تجدر الإشارة هنا على ان الرجال دون النساء يتحدثون عن الشجاعة والبطولة وكأنهما حكراً عليهما) متغاضياً عن فكرة مفادها ان كل الافعل الخيّرة من الاهتمام بالطفل وبالبيئة هي بسالة ولكن من نوع آخر غير بُطولة السلاح والحرب , الوردة بجمالها تشير الى النضارة التي هي ضد الجفاف و الخراب المرادفين للحرب والموت، فالوردة إذا ضد الحرب. هنا تكمن خطورة الولاء العاطفي فهو أعمى ولايفرق بين الظالم والضحية بينما يستطيع العقل أن يوجه تصرفات المرء نحو الحب الشديد للوطن او البغض له ولكن بالحق مخالفاً لما يقوم به الولاء العاطفي ضيّق المساحة والتفكير. نحن نعيش ونتحمل مسؤولية عالم واحد وليس عالمين وهذا منطق الرئيس بوش وضابط المخابرات الأردني (عالمين) ولذا يحارب الإرهاب بعيدا عن امريكا كي لاتتحمل تبعاته مكانياً مزيداً عليه منطق الولاء الديني المسيحي المحرّف و الاسوأ من الإنتماء الحماسي للوطن (الطا ئفية هي انتاج الولاء التبجيلي لفئة معينة). سلاسة المونتاج مع الموسبقى التصويرية العراقية منحتا الفيلم (22 دقيقة) إنسيابية وحبكة محكمة. وزّعت الكاميرا إهتمامها على المكان والأشخاص وإقتربت بحميمية من إنفعالاتهم : رجل عجوز يحرك بعصبية الملعقة في (إستكان) الشاي. ولم ينس الفيلم أن يتعرض إلى سؤال مُبطن في هذا المشهد : {عندما يُسمع الأذان يقوم شخص (واحد) من بين الحاضرين في المقهى ليؤدي الصلاة. }!! يظل العراقيون ينظرون إلى شاحنات النفط تعبر الحدود. الوطن والمواطن والنفط إلى ----- أين ؟

[email protected]