حسين الهنداوي: اقامة مؤتمر (فستيفال) دوري عالمي لفن الكاريكاتير ببغدادفي مثل هذا الشهر من كل عامين هي الامنية - الدعوة التي رأيت ضروريا اطلاقها من صحيفة (ايلاف) الغراء في الذكرى الثانية لرحيل مؤيد نعمة أهم فنان كاريكاتير عراقي في تاريخنا المعاصر. فهل ستهتم اليونسكو او الجامعة العربية او الدولة العراقية او الجمعيات والمؤسسات الفنية في بلاد الرافدين بدعوة كهذه؟ لا اتوقع ذلك منها في الواقع، بيد ان الحلم بمشروع كهذا يستحق ان يظل مراودا بقوة وفاء لهذا الفنان على الاقل.

فلقد كانت فعلا نكبة صامتة تلك التي حلت بفن الرسم العراقي قبل عامين برحيل مؤيد نعمة، نكبة تضاعفت بفعل الطابع المباغت وأكاد اقول الغادر الذي تلبسه ذلك الرحيل في لحظة كان فيها الفنان الكبير النفس والموهبة في ذروة تألقه وتحضيراته للعطاء الحياتي والتشكيلي الاهم في كل عمره ربما، ومن بينها معرض كبير مشترك مع صديقه الفنان عبدالرحيم ياسر كان من المتفق ان يتم افتتاحه في لندن نهاية العام نفسه ثم ينقل الى عدد من عواصم االفن الاخرى للتعريف بهذا الوجه الحيوي من الفن التشكيلي العراقي المعاصر.
كما ان غياب مؤيد نعمة خسارة عميقة أيضا للحركة الابداعية العراقية والعربية الناهضة من رماد القمع والسطحية والفجاجة كلها باتجاه الحرية والسمو والمستقبل. فمؤيد نعمة في هذا الميدان،من خلال اعمال جريئة وطليعية كثيرة، بدا رائدا مبادرا وأميرا كريما بلا ادنى جدال. وهذا ما استطيع الشهادة عليه عن قرب ومعرفة مباشرة من خلال صداقة متأخرة وكثيفة في آن من خلال مؤسسة quot;عراق للابداعquot; التي كنا قد أسسناها في بغداد آنئذ ولعب هو في انشائها وارسائها دورا اساسيا كما حرص على تصميم شعارها مانحا فيه كلمة (عراق) اقصى ما يمكن من الخصب والمجد وبإصرار لم يكن لأي من الاعضاء العشرة او اكثر المؤسسين الا الاستجابة لفكرته.


وأقول كثيفة لأنني اعرف واحترم فن مؤيد نعمة منذ نحو ربع قرن، وبشكل خاص منذ معرض عالمي لفن الكاريكاتير اقيم في النصف الثاني من الثمانينات في quot;معهد العالم العربيquot; بباريس وشارك فيه بلوحتين اثارتا جدلا كبيرا حول موهبة رائعة ولامعة عرفت كيف تتسامى على الرطانة البعثية دون ان تفقد مسامة واحدة من روحها العراقية الجليلة: quot;المهم في فن الكاريكاتور ليس قوة الصنعة بل قوة الأفكارquot; كما قال لنا مرارا، وهذا ما ظللت أواصل اكتشافه من خلال عشرين سنة من المتابعة المبعثرة لكن العميقة دائما لرسوم هذا الفنان الكبير الباحث دائما عما وراء الابتسامة والذي منح السخرية وظيفةسامية ورصينة وان بدت مثقلة بالحزن والاسئلة الاليمة غالبا. لكنها صورة بدت مرشحة اخيرا للتغيير جديا لأول مرة منذ عقود:
quot;الآن بدأنا نحقق احلامناquot; هذا ما صرنا نردده بثقة مع مؤيد بعد سقوط النظام السابق كالخشخاشة اليابسة، ورغم ان نزعة العداء للثقافة ولحرية الابداع لاحت سلفا كأحدى ابرز ملامح الطغم الحاكمة الجديدة التي أخذت تدعي وتمارس شرعية شكلية بإسم ملل ونحل وشراذم مستخدمة أدوات قمع فكري وجسدي كنا نعتقد بإنها حكرا على الفاشيات التقليدية.


هل بعد هذا نستطيع تلمس حجم الضربة القاسية التي تلقاهاكل واحد منا بفقدان ذلك الانسان الثري بالامل بالعراق وبالتواضع الجم ايضا؟ بالنسبة لي لم اجد امامي سوى الهرب من تصديق خبر رحيل هذا الفنان الشاب (عن عمر يناهز بالكاد الرابعة والخمسين عاما)، المولود في بغداد عام 1951 والمتوفي فيها في 26/11/2005 والمعروف في كل بلاده بجرأته الفنية في تناول محرمات فن الكاريكاتير عبر رسومات لم تنقطع ابان العقود الثلاثة الاخيرة والذي كان قد نشر اول رسم له في عمر السادسة عشرة ليشارك بعدها بعامين في تأسيس اول مجلة للاطفال في العراق، وليشرع بعد ذلك بعامين في العمل رساما كاريكاتوريا في الصحافة اليومية، قبل ان يتخرج من quot;معهد الفنون الجميلةquot; ببغداد عام 1971، ثم من quot;اكاديمية الفنون الجميلةquot; حاصلا على شهادة البكالوريوس من قسم السيراميك.

وهكذا فمنذ بدايته كرسام قبل اربعة عقود، قرر مؤيد ان تكون رسومه محددة وهادفة وان لا يرسم الا ما يريده هو متطلعا في ذات الوقت وعن وعي خفي الى الاقتراب من عالمية انسانية تنبذ السذاجة والارتجالية في الكاريكاتير لصالح الفكرة والحلم والامل وكل ما هو نير في الذات الانسانية العالمية. ومؤكدا ايضا ان (ما افكر به هو ان اكون قريبا من احداث بلدي وهذا هو حال جميع رسامي الكاريكاتير في العالم أجمع محاولا ترجمة ما اشاهده واشعر به الي رسوم انشرها).

لقد اخطأ اولئك الذين اعتقدوا ان مؤيد نعمة صور الكوميديا السوداء ليضحك منها الناس في بلاده. بينما كان هو يصور آلامهم هم، وتحديدا لأنها آلامهم، بينماكان الفنان الراحل quot;يغلي من الداخلquot; كما قال عنه ناقد لامع مرة. فآلامهم تلك ذاتها هي ما كان يحملها في جسده على الاقل منذ عام 1979 عندما اعتقل وتعرض الى التعذيب وظل يعاني من ضعف السمع نتيجة الضرب المبرح في السجون البعثية.

اللقطة المباشرة هي النافذة المبدئية لرسام الكاريكاتير، لكن اللقطة المباشرة هي عملية معقدة الابعاد عندما يتعلق الامر بفنان عميق الألم كمؤيد نعمة. وهو بهذا اقرب الى مغامرة ناجي العلي: فنان تشكيلي كبير وملتزم ويساري دفعة واحدة، لذا فهو يتخلى تلقائيا عن اي قضية عابرة لصالح قضية واحدة تغدو المحور في العمل الفني، لأنه جعلها محور قضية حياته الواضحة والدقيقة بذاتها. وكما هي فلسطين لدى ناجي العلي فانها العراق لدى مؤيد نعمة: quot;ما افكر به هو ان اكون قريبا من احداث بلدي لأن معاناة العراق كبيرة وقد أخذت حصة كبيرة من تفكيريquot; قال مرة، مضيفا quot;ان اعمالي بالذات ابتعدت عن حدود اللوحات واتجهت نحو السخرية السوداء. ولأني اعتدت ان اغرف من بحور الثقافة والمواجهات الحقيقية مع الواقع لنقل ما يتعرض له الانسان المضطهدquot;. لكن فلسطين كانت هي ايضا تعيش مع مؤيد الذي اقتحم عالم الكاريكاتير العراقي في ايام حرب حزيران عام 1967، برسم يمثل الرئيس الامريكي الاسبق جونسون، وهو يرفع بدل شعلة تمثال الحرية الامريكي الشهير قنبلة quot;نابالمquot; من تلك التي كانت اسرائيل قد استخدمتها في الحرب المذكورة ضد العرب.

هذا التوجه الواعي الطوعيوالثابت لتبني السخرية السوداء منهجا فنيا هو تحديدا ما يمنح مؤيد نعمة موقع الريادة في فن الكاريكاتير العراقي الذي لم يعرف مبدعا هكذا من قبل برغم عدد مهم من الفنانين الكبار الذين عرفهم قبله ليس مصطفى ابو طبرة وغازي وبسام فرج الا أشهرهم. فمؤيد نعمة كان الفنان العراقي الاول الذي جعل ثلاثي الفكرة والمهارة والجرأة اللاتجارية في العمل الفني معياره الوحيد في العمل ودون مساومة تذكر.

ففي العراق، والعالم العربي كله في الواقع، لم ير هذا الفن النور الا بعد الافلاس المبارك للنظام الشمولي القمعي الناصري ونسخه الشوهاء في العراق وسوريا وليبيا واليمن، برغم ان هذا الفن كان قد سجل ولادته الفعلية كفن اوربي في القرن الثامن عشر (عبر رسوم الانجليزي هوغارت الذي رسم في 1730 اول المشاهد السياسية كاريكاتيريا معطيا الفن هويته الابداعية الخاصة وكذلك عبر اعمال رولاندسن وجيلراي وغريشانك وهيلث، ومع ولادة جريدة quot;كاريكاتورquot; في فرنسا كأول صحيفة كاريكاتيرية بمشاركة عدد من كبار رسامي الكاريكاتير آنئذ ومنهم غوستاف دورا ودوميي وشام وغيرهم) قبل ان يبلغ في نهاية القرن العشرين عصره الذهبي الفعلي عالميا.


ورغم أن صاحب مجلة quot;المؤرخquot; العراقية رؤوف عيسى أكد في مقال له نشر في مجلة quot;النجمquot; عام 1934 أن ظهور رسوم الكاريكاتير في العراق كان أسبق من ظهورها في مصر وبلاد الشام مشيرا الى نشر رسوم كاريكاتيرية عديدة في جريدة quot;جورنال العراقquot; التي اصدرها الوالي داوود باشا عام 1816 في بغداد كأول جريدة في المنطقة، فاننا نعتقد بأن تطور هذا الفن كان اسرع في مصر ولبنان بفضل تطور الطباعة والنشر فيهما باعتبارهما من لوازم ايصال الرسوم المطبوعة ومنها الكاريكاتير كما نعتقد بوجوب اعتبار مطلع الستينات كتاريخ لظهور اول رسام عراقي يعتمد فن الكاريكاتير حصرا في التعبير عن افكار او مطالب اجتماعية او سياسية او ثقافية. فلقد كان هناك رسامو أمثال شعبية وطرائف للترفيه مهدوا وحسب لفن الكاريكاتير لدينا الذي استفاد في ولادته من محاكاة فناني كاريكاتير غربيين أكثر من استفادته من الرسامين العرب الذين، باستثناء قلة قليلة، كناجي العلي في فلسطين ويوسف عبدلكي في سوريا، كانوا اجمالا اما من رسامي الحكايات شعبية والنوادر الاجتماعية او من مروجي المواقف الاعلامية والسياسية لهذه الحكومة او تلك مقابل أجر هو الهدف الحقيقي وليس الفن.